لماذا لم يترك الإمام عليّ (ع) معاوية على الشام ثم يعزله بعد أن يستتبّ له الأمر؟

السؤال: ما الضير لو ترك الامام عليّ عليه السلام معاوية في حكم الشام، لانّ أهل الشام كانوا يحبّونه وكان سياسيّاً خبيراً، وبعد تمكّن الإمام من الأمر يعزله، وهذا من بدهيّات السياسة!

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

تصدّى ابن ابي الحديد المعتزليّ لهذا السؤال وردّ عليه تفصيلاً في شرحه لنهج البلاغة، إذْ أفرد عنواناً خاصّاً لردّ جميع الاشكالات المتعلّقة بسياسة الإمام عليّ (عليه السلام) تحت عنوان (ذكر أقوال من طعن في سياسة عليّ والرد عليها) ونحن هنا نشير إجمالاً لكثرة التفاصيل التاريخيّة والمطوّلة التي تعرّض لها ابن أبي الحديد ولا يحتمل المقام نقلها هنا، ومن أراد الوقوف عليها تفصيلاً يمكنه الرجوع إلى شرح نهج البلاغة ج 10 ص 232 إلى 247).

استدلّ ابن أبي الحديد ابتداءً من خلال المصادر والوثائق التاريخيّة على أنّ معاوية ما كان يبايع الإمام تحت أيّ ظرف كان. ثم أشار إلى المبادئ الدينيّة التي كان يسير عليها الإمام في تعيين الولاة والعمال، وعزلهم، ثمّ أورد في ختام المطاف تحليلاً رصيناً لعالم يُدعى ابن سنان بيّن فيه عدم إمكانيّة إبقاء معاوية في الظروف التي بايع فيها الناس عليّاً من بعد قتل عثمان؛ لأنها ستجعل الإمام يواجه في أول حكومته أوضاعاً كالتي انتهى إليها عثمان في أواخر حكمه. إذْ يقول ابن أبي الحديد: "وقد تعلّق مَنْ طعن في سياسته بأمور:

منها قولهم: لو كان حين بويع له بالخلافة في المدينة أقرّ معاوية على الشام إلى أن يستقرّ الأمر له ويتوطّد، ويبايعه معاوية وأهل الشام ثمّ يعزله بعد ذلك، لكان قد كفى ما جرى بينهما من الحرب.

والجواب: أنّ قرائن الأحوال حينئذ، قد كان علم أمير المؤمنين عليه السلام منها أنّ معاوية لا يبايع له وإن أقرّه على ولاية الشام، بل كان إقراره له على إمرة الشام أقوى لحال معاوية، وآكد في الامتناع من البيعة، لأنّه لا يخلو صاحب السؤال إمّا أنْ يقول: كان ينبغي أن يطالبه بالبيعة ويقرن إلى ذلك تقليده بالشام، فيكون الأمران معاً، أو يتقدّم منه إقراره على الشام وتتأخّر المطالبة بالبيعة إلى وقت ثانٍ. فإن كان الأوّل فمن الممكن أنْ يقرأ معاوية على أهل الشام تقليده بالإمرة، فيؤكّد حاله عندهم ويقرّر في أنفسهم، لولا أنّه أهلٌ لذلك لما اعتمده عليّ عليه السلام معه، ثم يماطله بالبيعة، ويحاجزه عنها. وإن كان الثاني فهو الذي فعله أمير المؤمنين عليه السلام. وإن كان الثالث فهو كالقسم الأول، بل هو آكد فيما يريده معاوية من الخلاف والعصيان.

وكيف يتوهّم من يعرف السير أنّ معاوية كان يبايع له، لو أقرّه على الشام وبينه وبينه ما لا تبرك الإبل عليه، من الترات القديمة، والأحقاد، وهو الذي قتل حنظلة أخاه والوليد خاله، وعتبة جدّه في مقام واحد، ثمّ ما جرى بينهما في أيّام عثمان، حتّى أغلظ كلّ واحد منهما لصاحبه، وحتّى تهدّده معاوية، وقال له: إنّي شاخص إلى الشام وتارك عندك هذا الشيخ - يعنى عثمان - والله لئن انحصت منه شعرة واحدة لأضربنّك بمائة ألف سيف.

وأمّا قول ابن عباس له عليه السلام: وَلِّهِ شهراً واعزله دهراً، وما أشار به المغيرة ابن شعبة، فإنّهما قالا ما توهّماه، وما غلب على ظنونهما وخطر بقلوبهما، وعليّ عليه السلام كان أعلم بحاله مع معاوية، وأنّها لا تقبل العلاج والتدبير. وكيف يخطر ببال عارف بحال معاوية ومكره ودهائه، وما كان في نفسه من عليّ عليه السلام من قتل عثمان ومن قبل قتل عثمان، أنّه يقبل إقرار عليّ عليه السلام له على الشام، وينخدع بذلك، ويبايع ويعطى صفقة يمينه! إنّ معاوية لأدهى من أن يُكاد بذلك، وإنّ عليّاً عليه السلام لأعرف بمعاوية ممّن ظنّ أنّه لو استماله بإقراره لبايع له، ولم يكن عند عليّ عليه السلام دواءٌ لهذا المرض إلا السيف، لأنّ الحال إليه كانت تؤول لا محالة، فجعل الاخر أولاً... ثم يبدأ ابن أبي الحديد بذكر الأخبار التاريخيّة التي تؤكّد استحالة مبايعة معاوية لعليّ عليه السلام... ثمّ يقول: ومن وقف عليه علم أنّ الحال لم يكن حالاً يقبل العلاج والتدبير، وأنّه لم يكن بدٌّ من السيف، وأنّ عليّاً عليه السلام كان أعرف بما عمل"

ثم يذكر تحليل ابن سنان في الردّ على من اعترض على عزل الإمام عليّ (عليه السلام) معاوية من ولاية الشام.

يقول ابن أبي الحديد: "وقد أجاب ابن سنان في كتابه الذي سماه (العادل) عن هذا السؤال، فقال: قد علم الناس كافة أنّه عليه السلام في قصّة الشورى عرض عليه عبد الرحمن بن عوف، أنْ يعقد له الخلافة على أن يعمل بكتاب الله وسنّة رسوله وسيرة أبى بكر وعمر، فلم يستجب إلى ذلك، وقال: بل عليّ أن أعمل بكتاب الله وسنّة رسوله، وأجتهد رأيي.

وقد اختلف الناس في ذلك، فقالت الشيعة: إنّما لم يدخل تحت الشرط، لأنّه لم يستصوب سيرتهما. وقال غيرهم: إنّما امتنع لأنّه مجتهد، والمجتهد لا يقلّد المجتهد، فإيّهما أقرب على القولين جميعاً إثماً، وأيسر وزراً! أنْ يقرّ معاوية على ولاية الشام مدّة إلى أن تتوطّد خلافته، مع ما ظهر من جور معاوية وعداوته، ومدِّ يده إلى الأموال والدماء أيّام سلطانه، أو أنْ يعاهد عبد الرحمن على العمل بسيرة أبى بكر وعمر، ثمّ يخالف بعض أحكامها إذا استقرّ الأمر له، ووقع العقد! ولا ريب أنّ أحداً لا يخفى عليه فضل ما بين الموضعين، وفضل ما بين الآثمين، فمن لا يجيب إلى الخلافة والاستيلاء على جميع بلاد الاسلام إذا تسمح بلفظة يتلفّظ بها، يجوز أن يتأوّلها أو يورى فيها، كيف يستجيب إلى إقرار الجائر، وتقوية يده مع تمكينه في سلطانه، لتحصل له طاعة أهل الشام واستضافة طرف من الأطراف! وكأنّ معنى قول القائل: هلّا أقر معاوية على الشام، هو هلّا كان عليه السلام متهاوناً بأمر الدين راغبا في تشديد أمر الدنيا.

والجواب عن هذا ظاهر، وجهل السائل عنه واضح.

واعلم أنّ حقيقة الجواب هو أنّ عليّاً عليه السلام، كان لا يرى مخالفة الشرع، لأجل السياسة، سواء أكانت تلك السياسة دينيّة أو دنيويّة، أمّا الدنيويّة فنحو أنْ يتوهّم الإمام في إنسان أنّه يروم فساد خلافته من غير أنْ يثبت ذلك عليه يقينا، فإنّ عليّاً عليه السلام لم يكن يستحلّ قتله، ولا حبسه، ولا يعمل بالتوهّم وبالقول غير المحقّق، وأمّا الدينيّة فنحو ضرب المتّهم بالسرقة، فإنّه أيضاً لم يكن يعمل به، بل يقول: إنْ يثبت عليه بإقرار أو بيّنة، أقمت عليه الحدّ، وإلا لم أعترضه. وغير عليّ عليه السلام قد كان منهم من يرى خلاف هذا الرأي، ومذهب مالك بن أنس العمل على المصالح المرسلة، وأنّه يجوز للإمام أنْ يقتل ثلث الأمّة لإصلاح الثلثين، ومذهب أكثر الناس أنه يجوز العمل بالرأي وبغالب الظنّ، وإذا كان مذهبه عليه السلام ما قلناه، وكان معاوية عنده فاسقاً، وقد سبق عنده مقدّمة أخرى يقينيّة، هي أنّ استعمال الفاسق لا يجوز ولم يكن ممّن يرى تمهيد قاعدة الخلافة بمخالفة الشريعة، فقد تعيّن مجاهرته بالعزل، وإنْ أفضى ذلك إلى الحرب".

ثمّ يعلّق ابن أبي الحديد على جواب ابن سنان بقوله: "فهذا هو الجواب الحقيقيّ، ولو لم يكن هذا هو الجواب الحقيقيّ، لكان لقائل أن يقول لابن سنان القول في عدوله عن الدخول تحت شرط عبد الرحمن، كالقول في عدوله عن إقرار معاوية على الشام، فإنّ مَنْ ذهب إلى تغليطه في أحد الموضعين، له أنْ يذهب إلى تغليطه في الموضع الاخر".

ثم ينقل جواباً آخر عن ابن سنان يؤكّد فيه أنّ إبقاء معاوية على ولاية الشام لا يقوّي ركائز حكومة الإمام عليّ (عليه السلام) بل يؤدّي إلى زعزعتها والاخلال بها كما حصل لعثمان.

وهو قوله: "أنّا قد علمنا أنّ أحد الأحداث التي نقمت على عثمان، وأفضت بالمسلمين إلى حصاره وقتله، تولية معاويةَ الشام، مع ما ظهر من جوره وعدوانه، ومخالفة أحكام الدين في سلطانه، وقد خوطب عثمان في ذلك، فاعتذر بأنّ عمر ولّاه قبله، فلم يقبل المسلمون عذره، ولا قنعوا منه إلّا بعزله، حتّى أفضى الأمر إلى ما أفضى، وكان عليّ عليه السلام من أكثر المسلمين لذلك كراهية، وأعرفهم بما فيه من الفساد في الدين.

فلو أنّه عليه السلام افتتح عقد الخلافة له بتوليته معاوية الشام، وإقراره فيه، أليس كان يبتدئ في أول أمره بما انتهى إليه عثمان في آخره، فأفضى إلى خلعه وقتله! ولو كان ذلك في حكم الشريعة سائغاً، والوزر فيه مأموناً، لكان غلطاً قبيحاً في السياسة، وسبباً قويّاً للعصيان والمخالفة، ولم يكن يمكنه عليه السلام أنْ يقول للمسلمين: إنّ حقيقة رأيي عزل معاوية عند استقرار الأمر، وطاعة الجمهور لي، وإنّ قصدي بإقراره على الولاية، مخادعته، وتعجيل طاعته، ومبايعة الأجناد الذين قبله، ثمّ أستأنف بعد ذلك فيه ما يستحقّه من العزل، وأعمل فيه بموجب العدل، لأنّ إظهاره عليه السلام لهذا العزم كان يتّصل خبره بمعاوية فيفسد التدبير الذي شرع فيه، وينتقض الرأي الذي عوّل عليه".