معنى كلمةِ (الدَّهر) الّتي ترِدُ في كلماتِ أهلِ البيتِ (ع).
أبو حُسين الرشادي: السَّلامُ عليكُم .. تَرِدُ في بعضِ الكلماتِ المنسوبةِ للمعصوم ( عليهِ السَّلامُ ) كلمةُ الدَّهر ( يادهرُ أُفٍّ لكَ مِنْ خليلِ ... ) أو ( أنزلني الدَّهرُ ... حتّى قيلَ عليٌ ومعاويةُ ) ماهوَ المقصودُ بكلمةِ ( الدَّهر ) . تَحيّاتي وسَلامي .
الأخُ أبو حسينٍ الْمُحْتَرَمُ، السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ
الدَّهْرُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الزَّمَانُ، وَقَدْ وَرَدَتْ كَلِمَةُ (الدَّهْر) فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ كَمَا فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا)، قَالَ السَّيِّدُ الطباطبائي فِي " الْمِيزَانَ": (وَالْحِينُ قَطْعَةٌ مِنَ الزَّمَانِ مَحْدُودَةٌ قَصِيرَةٌ كَانَتْ أَوْ طَوِيلَة، وَالدَّهْرُ الزَّمَانُ الْمُمْتَدُّ مِنْ دُونِ تَحْدِيدٍ بِبِدَايَةٍ أَوْ نِهَايَة.
وَقَولهُ:" شَيِّئَاً مَذْكُورًا " أَي شَيْئًا يُذكَرُ بِاِسْمِهِ فِي الْمَذْكُورَاتِ أي كَانَ يُذكرُ مَثلَاً الْأرْضُ وَالسَّمَاءُ وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَلَا يُذكرُ الإنسانُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ حَتَّى وَجْدِ).
اِنْتَهَى [الْمِيزَانُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ ج20 ص 119].
وَأَيْضًا وَرَدَتْ كَلِمَةُ (الدَّهْر) فِي مَوْرِدٍ آخر مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أُشِيرَ بِهَا إِلَى عَقِيدَةِ الدَّهْرِيِّينَ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ: (مَا هِي إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) الْجَاثِيَة: 24، قَالَ الشَّيْخُ آيَةُ اللهِ نَاصِر مَكَارِم شِيرَازِيٍّ فِي تَفْسِيرِهِ " الْأَمْثَل":( جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَادِّيِّينَ فِي العصورِ الْخَالِيَةِ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الدَّهْرَ هُوَ الْفَاعِلُ أَوِ الزَّمَان فِي هَذَا الْعَالَمِ- أَوْ بِتَعْبِيرِ جَمَاعَةٍ آخرين: إِنَّ الْفَاعِلَ هُوَ دَوَرَانُ الْأَفْلَاَكِ وَأَوْضَاعُ الْكَوَاكِبِ- وَكَانُوا يُنْهُونَ سِلْسلَةَ الْحوَادِثِ إِلَى الْأَفْلَاَكِ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَقَعُ فِي هَذَا الْعَالَمِ بِسَبَبِهَا، حَتَّى أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ فَلَاسِفَةِ الدَّهْرِيِّينَ وَأَمْثَالِهِمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِوُجُودِ عَقْلٍ لِلْأَفْلَاَكِ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ تَدْبِيرَ هَذَا الْعَالَمِ بِيَدِهَا.
إِنَّ هَذِهِ الْعَقَائِدَ الْخُرَافِيَّةَ اِنْقَرَضَتْ بِمُرُورِ الزَّمَانِ، خَاصَّةً وَقَدْ ثَبتَ بِتَقَدُّمِ عِلْمِ الْهَيْئَةِ عَدَمُ وُجُودِ شِيءٍ بِاِسْمِ الْأَفْلَاكِ- الْكُرَاتِ الْمُتَدَاخِلَةِ الصَّافِيَةِ- فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ أَصْلًا، وَأَنَّ لِنُجُومِ الْعَالَمِ الْعُلوِيّ بِنَاءًا كَبِنَاءِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ بِتَفَاوُتٍ مَا، غَايَةُ مافِي الْأَمْرِ أَنَّ بَعْضَهَا الْإِمْكَان وَيَكْتَسِبُ نُورَهُ مِنَ الْكُرَاتِ الْأُخْرَى، وَبَعْضَهَا الْآخرُ مُشْتَعِلٌ وَمُنِيرٌ.
إِنَّ الدَّهْرِيّيْنِ كَانُوا يَذُمُّونَ الدَّهْرَ وَيَسبُّونَهُ أَحَيانَاً عِنْدَمَا تَقَعُ حوَادِثُ مُرَّةٌ مُؤْلِمَة.
غَيْرَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَنِ النَّبِيِّ الْأكْرَمِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ)" لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ"، وَهُوَ إشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الدَّهْرَ لَفْظٌ لَيْسَ إِلَّا، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ هُوَ مُدَبِّرُ هَذَا الْعَالَمِ وَمُدِيرُهُ، فَإِنَّكُمْ إِنْ أَسَأَتمُ الْقَوْلَ بِحَقِّ مُدَبِّرِ هَذَا الْعَالَمِ وَمُدِيرِهِ، فَقَدْ أَسَأَتُم بِحَقِّ اللهِ عزَّ وَجَلّ مِنْ حَيْثُ لَا تَشْعرُونَ.
وَالشَّاهِدُ عَلَى هَذَا الْكَلَاَمِ حَديثٌ آخرٌ رُوِيَ كَحَديثٍ قُدْسِيٍ عَنِ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ قَال:" يؤذيني اِبْنُ آدَم يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ ! بِيَدِي الْأَمر، أُقلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَار").
اِنْتَهَى
وَلِلدَّهْرِ اِسْتِعْمَالٌ آخرُ، وَهُوَ مَحَلُّ سُؤَالِكُمْ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ هُنَا الشَّيْخُ مَكَارِم شِيرَازِيّ:( لَكِنْ قَدِ اِسْتُعْمِلَ الدَّهْرُ فِي بَعْضِ التَّعْبِيرَاتِ بِمعنى أَبْنَاءِ الْأيَّامِ، وَأَهلِ الزَّمَانِ الَّذِينَ شَكَّ الْعُظَمَاءُ مِنْ عَدَمِ وفائِهم، كَمَا نُقِلَ فِي الشِّعْرِ الْمَنْقُولِ عَنِ الْإمَامِ الْحسيْنِ( عَلَيْهِ السَّلَامُ)، حَيْثُ أَنَشَدَ لَيْلَةَ عَاشُورَاء: يَا دَهْرُ أُفٍّ لَكَ مِنْ خَلِيلِ* كَمْ لَكَ بِالْإشْرَاقِ وَالْأَصيلِ مِنْ صَاحِبٍ وَطَالِبِ قَتِيلِ* وَالدَّهْرُ لَا يَقنعُ بِالْقَلِيلِ ، وَعَلَى هَذَا فَلِلدَّهْرِ مَعْنَيانِ: الدَّهْرُ بِمعنى الْأَفْلَاكِ وَالْأيَّامِ، وَالَّذِي كَانَ مَحَلَّ اِهْتِمَامِ الدَّهْرِيِّينَ، حَيْثُ كَانُوا يَظُنُّونَهُ حَاكِمًا عَلَى نِظَامِ الْوُجُودِ وَحَيَاةِ الْبَشَرِ.
وَالدَّهْرُ بِمَعنى أهْلِ الْعَصْرِ وَالزَّمَانِ وَأَبْنَاءِ الْأيَّامِ.
وَمِنَ الْمُسَلَّمِ أَنَّ الدَّهْرَ بِالْمَعنى الْأَوَّلِ أَمْرٌ وَهْمِيٌّ، أَوْ نقولُ إنَّهُ اِشْتِبَاهٌ فِي التَّعْبِيرِ حَيْثُ أَطْلَقَ اِسْمَ " الدَّهْر " بَدَلَ اِسْمِ اللهِ المُتعالي الْحَاكِمِ عَلَى كُلِّ عَالَمِ الْوُجُودِ.
أَمَّا الدَّهْرُ بِالْمَعنى الثّاني فَهُوَ الشيءُ الَّذِي ذَمَّهُ كَثِيرٌ مِنَ الْأئِمَّةِ وَالْعُظَمَاءِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرَونَ أهْلَ زَمَانِهِمْ مُخَادِعِينَ مُذَبْذَبِينَ لَا وَفَاءَ لَهُمْ).
اِنْتَهَى [ الْأَمْثَلُ فِي تَفْسِيرِ كِتَابِ اللهِ الْمُنْزلِ 16: 22]
وَدُمْتُم سَالِمِينَ.
اترك تعليق