ما معنى (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم)؟

الجوابُ: 

 

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم،

{الحَمدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصطَفَى}

 

هذهِ الآيةُ الكريمةُ جُزءٌ مِن مجموعةِ آياتٍ، تجيءُ في سياقٍ واحدٍ ـ على ما قيل ـ وهيَ:

 

{وَإِن كَادُوا لَيَفتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوحَينَا إِلَيكَ لِتَفتَرِيَ عَلَينَا غَيرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ۝ وَلَولَا أَن ثَبَّتنَاكَ لَقَد كِدتَ تَركَنُ إِلَيهِم شَيئًا قَلِيلًا ۝ إِذًا لَأَذَقنَاكَ ضِعفَ الحَيَاةِ وَضِعفَ المَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَينَا نَصِيرًا ۝ وَإِن كَادُوا لَيَستَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرضِ لِيُخرِجُوكَ مِنهَا وَإِذًا لَا يَلبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا ۝ سُنَّةَ مَن قَد أَرسَلنَا قَبلَكَ مِن رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحوِيلًا ۝ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيلِ وَقُرآنَ الفَجرِ إِنَّ قُرآنَ الفَجرِ كَانَ مَشهُودًا ۝ وَمِنَ اللَّيلِ فَتَهَجَّد بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَن يَبعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحمُودًا ۝ وَقُل رَبِّ أَدخِلنِي مُدخَلَ صِدقٍ وَأَخرِجنِي مُخرَجَ صِدقٍ وَاجعَل لِي مِن لَدُنكَ سُلطَانًا نَصِيرًا ۝ وَقُل جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراءُ / الآيات ٧٣-٨١].

 

رُوِيَ في أسبابِ نزولِ الآياتِ رواياتٌ، ترجعُ في مُجملِها إلى عدّةِ وجوهٍ، ولكنَّ بعضَها واضحُ البُطلان، لذلكَ سنقتصِرُ على الجامعِ المُشترَكِ بينَها، دونَ التطرّقِ لتفاصيلِها.

 

والجامعُ المُشترك: أنَّ بعضَ المُشركين حاولوا أن يُخادعوا رسولَ الله (ص) ليفتريَ على وحي اللهِ (تعالى)، وحاولوا أن يَمكروا به (ص) لينفوهُ عن مكّة .. فنزلَت الآيات.

 

والمهمُّ هوَ معنى الآياتِ عامّةً، والآيةِ محلِّ السّؤالِ خاصّة.

 

• معنى الآياتِ عامّةً:

 

تُصوِّرُ الآياتُ بعضَ كيدِ المُشركينَ بالقُرآنِ والرّسولِ (ص)، حيثُ أرادوا أن يفتنوه، ليُداهنَهم في بعضِ ما أوحيَ إليه، وأرادوا أن يُخرجوهُ مِن مكّة.

 

وضَمِنَ اللهُ (تعالى) لنبيِّهِ (ص) العِصمةَ مِنَ المُشركين، وشدَّدَ عليهِ الوعيدَ إن مالَ إليهم ولو قليلاً. ثمَّ هدَّدَهم بإهلاكِهم إن طرَدوا نبيَّهُ (ص) مِن مكّة.

 

وأوصى اللهُ (تعالى) رسولَه (ص) بالصّلاةِ والتهجُّدِ والدّعاءِ واللّجوءِ إليه في كافّةِ أمورِه. وبشَّرَه بإحقاقِ الحقِّ وإزهاقِ الباطلِ في الدّنيا، وبالمقامِ المحمودِ في الآخرة.

 

• معنى الآيةِ محلِّ السّؤالِ خاصّة:

 

{وَلَولَا أَن ثَبَّتنَاكَ لَقَد كِدتَ تَركَنُ إِلَيهِم شَيئًا قَلِيلًا}

 

لولا أنَّا عَصمناكَ في فِكركَ وسلوكِك، كِدتَ أن تميلَ إليهم شيئاً قليلاً، ولكنَّا عصمناكَ فبقيتَ ثابتاً صامِداً في موقفِك، فلم تُفكِّر بالميلِ إليهم، فضلاً عَن أن تميلَ فعلاً.

 

هذه الآيةُ دليلٌ واضحٌ على عصمةِ رسولِ الله (ص)، وليسَ مِثلما ادُّعي: أنّها بالعكسِ دليلٌ على عدمِ عِصمتِه!

 

وذلكَ لأنَّ قولَك: (كدتُ أن أذنبَ) لا يعني أنّكَ أذنبتَ فِعلاً، وكذلكَ قولُك: (لولا فلانٌ لهلكتُ) لا يعني أنّكَ هلكتَ فِعلاً.

 

مُضافاً إلى ذلك، فإنَّ قولَه (تعالى): {وَلَولَا أَن ثَبَّتنَاكَ}، فيهِ حالةٌ شرطيّة، معناها: لولا أن عصمناكَ لربّما مِلتَ إليهم، ولكنّكَ لم تمِل إليهم، لأجلِ عِصمتِنا إيّاك.

 

وهذا لهُ نظائرُ في القُرآنِ الكريم، فلم يرِد الشرطُ بمعنى القيامِ القطعيّ بمضمونِه، فقد وردَ مثلاً:

 

{وَلَو تَقَوَّلَ عَلَينَا بَعضَ الأَقَاوِيلِ ۝ لَأَخَذنَا مِنهُ بِاليَمِينِ ۝ ثُمَّ لَقَطَعنَا مِنهُ الوَتِينَ} [الحاقّةُ / الآيات ٤٤-٤٦].

 

{لَئِن أَشرَكتَ لَيَحبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} [الزُّمَر - الآية ٦٥].

 

أي: أنّه (ص) لم يتقوَّل على اللهِ (تعالى) ولا بحرفٍ، ولم يُشرِك بهِ ولا للحظة.

 

وبالتالي: التعبيرُ المشروطُ لا يدلُّ على القيامِ بمثلِ هذهِ الأعمالِ المُنافيةِ للعِصمة.

 

على أنّهُ وردَ في أحاديثِ أهلِ البيت (ع)، أنَّ المُخاطَبَ في هذهِ الآياتِ رسولُ الله (ص) بحسبِ الظاهر، ولكنَّ المعنيَّ بها أُمَّتُه بحسبِ الواقع.

 

فعن الإمامِ الصّادقِ (ع) قال: «نزلَ القرآنُ بإيّاكَ أعني واسمعي يا جارة! معناهُ: ما عتبَ اللهُ (عزَّ وجل) بهِ على نبيِّه (ص)، فهوَ يعني به ما قد مضى في القرآن، مثلَ قولِه: {وَلَولَا أَن ثَبَّتنَاكَ لَقَد كِدتَ تَركَنُ إِلَيهِم شَيئًا قَلِيلًا}، عنى بذلكَ غيرَه (ص)» (١).

وعن الإمامِ الرّضا (ع)، أنّهُ سألَهُ المأمون: «فأخبِرني عن قولِ الله (عزَّ وجل): {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُم} [التوبةُ - الآية ٤٣]؟ فقالَ الرّضا (ع): هذا مِمّا نزلَ بإيّاكَ أعني واسمعي يا جارة! خاطبَ اللهُ (عزَّ وجل) بذلكَ نبيَّه، وأرادَ بهِ أمَّتَه! وكذلكَ قوله (تعالى): {لَئِن أَشرَكتَ لَيَحبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} [الزُّمَر - الآية ٦٥]. وقولَه (عزَّ وجل): {وَلَولَا أَن ثَبَّتنَاكَ لَقَد كِدتَ تَركَنُ إِلَيهِم شَيئًا قَلِيلًا} [الإسراء / الآيات ٧٤]. قالَ: صدقتَ يا بنَ رسولِ الله (ص)» (٢).

هذا معنى الآيةِ باختصار، ومَن أرادَ التفاصيلَ فعليهِ بكُتبِ التفسير، ففيها أشياءُ كثيرة (٣).

 

—————————

 

(١) الكافي: ج٢/ ص٦٣١/ ح١٤.

 

(٢) العُيون: ج٢/ ب١٥/ ص١٨٠/ ح١.

 

(٣) تفسيرُ القُمّيّ: ج٢/ ص٢٤، تفسيرُ العيّاشي: ج٢/ ص٣٠٦، تفسيرُ التبيان: ج٦/ ص٥٠٦، تفسيرُ مَجمعِ البيان: ج٦/ ص٢٧٧، تفسيرُ جوامعِ الجامع: ج٢/ ص٣٨٦، التفسيرُ الصّافي: ج٣/ ص٢٠٨، تفسيرُ البُرهان: ج٣/ ص٥٦٠، تفسيرُ نورِ الثقلين: ج٣/ ص١٩٧، تفسيرُ عُقودِ الجُمان: ج٣/ ص١١٠، تفسيرُ ضياءِ الفُرقان: م١٠/ ج١٥/ ص٥٥١، التفسيرُ الكاشِف: ج٥/ ص٧٠، تفسيرُ الميزان: ج١٣/ ص١٧١، التفسيرُ الأمثل: ج٩/ ص٧٣، تفسيرُ النّور: ج٥/ ص٨٩.