هل الاعتقاد بتأثير الملائكة في الكون ينافي التوحيد الأفعالي

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرحيم {الحَمدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصطَفَى} ينبغي أن نعرفَ ما هوَ (التوحيدُ الأفعاليّ)؟ لنتمكّنَ مِن تمييزِ ما يلائمُه وما يُنافيه. التوحيدُ الأفعاليّ يعني: الاعتقادَ أن لا فاعلَ ـ بالذّاتِ وبالاستقلال ـ في هذا الوجودِ إلّا اللهُ (تباركَ)، فهوَ وحدهُ الذي لا يحتاجُ إلى معونةِ شيء، في الخَلقِ والرّزقِ والتدبيرِ والتأثير .. وغيرِ ذلك. وكلُّ شيءٍ في هذا الكون، خاضعٌ لربوبيّتِه وإرادتِه ومشيّئتِه وتقديرِه وأمرِه، وحدَه لا شريكَ له، فهوَ الغنيُّ المُطلَق (١). قالَ (تعالى): {أَلَا لَهُ الخَلقُ وَالأَمرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ} [الأعراف - الآية ٥٤]. إذا عرَفنا ذلكَ، يأتي هُنا سؤال: هل يمكنُ لغيرِ اللهِ (جلَّ وعلا) أن يؤثّرَ في العالَم؟!

الجوابُ:

 

إنَّ اللهَ (سُبحانَه) خلقَ الكونَ بنظامٍ دقيق، وهوَ نظامُ: الأسبابِ والمُسَبَّباتِ، أو العِلَلِ والمَعلولات.

 

رُوِيَ عن الإمامِ الصّادقِ (ع) أنّه قال: «أبىٰ اللهُ أن يُجريَ الأشياءَ إلّا بالأسباب، فجَعلَ لكلِّ شيءٍ سبباً» (٢).

 

مثالٌ على هذا النظام: 

 

اللهُ خلقَ الشمسَ، وجعلَ مِن طبيعتِها الإشراق، فالشمسُ عِلَّةٌ، والإشراقُ مَعلولها.

 

واللهُ خلقَ النار، وجعلَ مِن طبيعتِها الإحراق، فالنارُ عِلَّةٌ، والإحراقُ مَعلولها.

 

وغيرُها منَ العِلَلِ والمَعلولات، والأسبابِ والمُسَبَّبات، التي نلاحظُها بالكون.

 

ولا يمكنُ إنكارُ تأثيرِ هذهِ العِلَلِ والأسبابِ في مَعلولاتِها ومُسَبَّباتِها، فهذا شيءٌ واضحٌ يلاحظُه الجميعُ بأدنىٰ التفات.

 

ولكنَّ تأثيرَ العِلَلِ في مَعلولاتِها، والأسبابِ في مُسَبَّباتِها، ليسَ بذاتِها، ولا باستقلالِها، إنّما بأمرِ اللهِ وإذنِه (عزَّ وجل).

 

فالعالمُ ـ بما فيهِ منَ العِلَل والمَعلولات، والأسبابِ والمُسَبَّبات ـ ما هوَ إلّا فعلُ اللهِ (سُبحانه)، والكلُّ صادرٌ بإرادتِه ومشيئتِه.

 

فكما أنَّ الموجوداتِ غيرُ مُستقلّةٍ بنفسِها، بل هيَ قائمةٌ باللهِ (تعالى). فكذلكَ تأثيرُها غيرُ مُستقلٍّ بنفسِه، ويقومُ باللهِ (تباركَ).

 

نستنتجُ مِن ذلك: 

 

أنَّ اللهَ (سُبحانه) كما لا شريك َله في ذاتِه، فكذلكَ لا شريكَ له في أفعالِه. وكلُّ سَببٍ أو عِلَّةٍ ليسَ لأيِّهما فاعليّةٌ إلّا باللهِ (تعالى).

 

فماذا عن الاعتقادِ بتأثيرِ الملائكةِ (ع) في الكون؟!

 

الجوابُ:

 

المُستفادُ منَ القرآنِ والسُّنّةِ، أنَّ وظائفَ الملائكةِ (ع) في الوجودِ مُتعدِّدةٌ متنوِّعةٌ، مِنها مثلاً:

 

* في الدّنيا: تدبيرُ شؤونِ النشأةِ، وتنفيذُ أمرِ الله في خَلقِه. 

 

* في الشرائعِ: النزولُ بالوحي، ومنعُ الشياطينِ منَ التدخُّلِ فيه، وتسديدُ الأنبياءِ والأئمّةِ (ع)، وتأييدُ المؤمنين، وتطهيرُهم بالاستغفار.

 

* في البرزخِ: قبضُ الأرواح، وامتحانُ الأمواتِ، وثوابُ وعقابُ القبر.

 

* في الآخرةِ: نفخُ الصّور، وحشرُ الخلائقِ، وإيتاءُ الكتابِ باليمين وبالشمال، ووضعُ الموازين، والحسابُ، وسَوقُ الخَلقِ إلى الجنّةِ والنار.

 

وغيرُها ممّا ذكرَته الآياتُ والرواياتُ الشريفة.

 

فتأثيرُ الملائكةِ (ع) بالعالَم، وتدبيرُهم لشؤونِه ـ بمعنى: أنّهم (ع) أسبابٌ وعِلَلٌ للحوادث، فوقَ الأسبابِ المادّيّةِ في العالمِ المَشهود ـ شيءٌ تعترفُ بهِ النّصوصُ الدينيّة، كما في القرآنِ الكريم، فمثلاً:

 

قالَ اللهُ (تعالى): {وَالذَّارِيَاتِ ذَروًا ۝ فَالحَامِلَاتِ وِقرًا ۝ فَالجَارِيَاتِ يُسرًا ۝ فَالمُقَسِّمَاتِ أَمرًا} [الذارياتُ / الآيات ١-٤].

 

وقالَ (سُبحانه): {وَالمُرسَلَاتِ عُرفًا ۝ فَالعَاصِفَاتِ عَصفًا ۝ وَالنَّاشِرَاتِ نَشرًا ۝ فَالفَارِقَاتِ فَرقًا ۝ فَالمُلقِيَاتِ ذِكرًا} [المُرسلات / الآيات ١-٥].

 

وقالَ (جلَّ جلالُه): {وَالنَّازِعَاتِ غَرقًا ۝ وَالنَّاشِطَاتِ نَشطًا ۝ وَالسَّابِحَاتِ سَبحًا ۝ فَالسَّابِقَاتِ سَبقًا ۝ فَالمُدَبِّرَاتِ أَمرًا} [النازعاتُ / الآيات ١-٥].

 

ولكنَّ ذلكَ لا يتنافى معَ التوحيدِ الأفعاليّ، لأنَّ تدبيرَ وتأثيرَ الملائكةِ (ع)، هوَ بأمرِ اللهِ وإذنِه (تبارك). 

 

فليسَت الملائكةُ (ع) سِوىٰ مجرَّدِ وسائطَ لجريانِ مشيئتِه، وقنواتٍ لتنفيذِ إرادتِه (تعالى).

 

{عِبَادٌ مُكرَمُونَ ۝ لَا يَسبِقُونَهُ بِالقَولِ وَهُم بِأَمرِهِ يَعمَلُونَ} [الأنبياءُ / الآيتان ٢٦-٢٧].

 

{يَخَافُونَ رَبَّهُم مِن فَوقِهِم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ} [النحلُ - الآية ٥٠].

 

{لَا يَعصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ} [التحريمُ - الآية ٦].

 

فإذا كانَ الاعتقادُ بتأثيرِ الملائكةِ (ع) في الكونِ على هذا النحو، فهذا اعتقادٌ صحيحٌ يلائمُ العقلَ والنقل.

 

أمّا إذا كانَ الاعتقادُ بتأثيرِ الملائكةِ (ع) في الكونِ على نحوٍ آخر، كأن يكونَ لهُم (ع) الاستقلالُ بالتصرّفِ، فهذا اعتقادٌ باطلٌ يُنافي التوحيدَ الأفعاليّ.

—————————

 

(١) تفسيرُ الميزان: ج٢٠/ ص١٨٢، مفاهيمُ القُرآن: ج١/ ص١٤، الإلهيّات: ج٢/ ص٧٠، الإسلامُ دينُ الفِطرة: ص١٠٧، بدايةُ المعارفِ الإلهيّة: ج١/ ص٦٤، دروسٌ في العقيدة: ج١/ د١٧/ ص١٦٢، بدايةُ المعرفة: ص١٧٢.

 

(٢) البصائرُ: ج١/ ب٣/ ص٢٨/ ح٢٢-١، وح٢٣-٢، الكافي: ج١/ ص١٣٨/ ح٧.