« ما أوذيَ نبيٌّ مثلَما أوذيت »

في قولِ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) : « ما أوذيَ نبيٌّ مثلَما أوذيت »، هل هذهِ المُماثلةُ في الأذيّةِ هيَ على وجهِ الدقّةِ والاستيعابِ والشمول؟ فإن كانَت كذلكَ فقد يُنقَضُ عليها بأذيّةِ بعضِ الأنبياءِ بما لم يجرِ على نبيّنا (صلّى اللهُ عليهِ وآله)؟

الجوابُ:

السلامُ عليكُم ورحمةُ الله وبركاتُه،

يقعُ الكلامُ حولَ هذا الحديثِ الشريف في نُقطتين:

النّقطةُ الأولى: مصادرُ الحديث:

رُويَ هذا الحديثُ الشريف في مصادرِ الفريقين، بثلاثةِ ألفاظ:

الأوّلُ: « ما أوذيَ نبيٌّ مثلَما أوذيت ». أخرجَه ابنُ شهرِ آشوب في مناقبِ آلِ أبي طالب ج3 ص42، والعلّامةُ الإربليّ في كشفِ الغُمّة ج3 ص346، والباعونيّ الشافعي في جواهرِ المطالب ج2 ص320.

الثاني: « ما أوذيَ أحدٌ ما أوذيت ». أخرجَه ابنُ حبّان في المَجروحين ج2 ص350، وابنُ عديّ في الكامِل ج7 ص155، ونقلهُ المُتّقي الهِندي في كنزِ العُمّال ج3 ص130، والسيوطيّ في الجامعِ الصغير ج2 ص488.

الثالثُ: « ما أوذيَ أحدٌ ما أوذيتُ في الله ». أخرجَه أبو نعيمٍ الأصفهانيّ في حِليةِ الأولياء ج6 ص333، ونقلهُ المُتّقي الهِندي في كنزِ العُمّال ج3 ص130، والسيوطيّ في الجامعِ الصّغير ج2 ص488.

وجعلَهُ المُحدّثُ الألبانيّ في [سلسلةِ الأحاديثِ الصّحيحة ج5 ص259] وقالَ ـ بعدَ ذكرِ طُرقه ـ: « فالحديثُ بمجموعِ هذهِ الطّرقِ الثلاثِ يرتقي إلى درجةِ الحُسنِ إن شاءَ اللهُ تعالى ».

والحديثُ مشهورٌ عندَ الفَريقين، ومعناهُ صحيحٌ كما سيأتي بيانُه.

 

النُّقطةُ الثانية: دلالةُ الحديث:

مفادُ الحديثِ هوَ نفيُ المِثليّةِ في الأذيّةِ الواقعةِ على خاتمِ الأنبياءِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) عن الأنبياءِ (عليهم السلام) أو الخَلق، فما وقعَ على الأنبياءِ أو الخلقِ منَ الأذيّةِ ليسَت مثلَ الأذيّةِ التي وقعَت على خاتمِ الأنبياءِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله). ونفيُ المثليّةِ والمُشابهةِ يُرادُ به أنّ الأذيّةَ الحاصلةَ لسيّدِ الأنبياءِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) ـ لشدّتِها وعظمتِها ـ لم تقَع على سائرِ الأنبياءِ أو الخلق، فالحديثُ مسوقٌ لبيانِ شدّةِ البليّةِ والأذيّةِ الواقعةِ على النبيّ الأعظم (صلّى اللهُ عليهِ وآله).

وليسَ ظاهرُ الحديثِ إثباتُ جميعِ بليّاتِ وأذيّاتِ الأنبياءِ أو الخلقِ لخاتمِ الأنبياء (صلّى اللهُ عليهِ وآله) حتّى يُقال: إن كانَت على وجهِ الدقّةِ والاستيعابِ والشمول لنُقضَ عليه بما جرى على بعضِ الأنبياء (عليهم السلام) مِمّا لم يجرِ على نبيّنا (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، كالذي جرى للنّبيّ يوسف (عليهِ السلام) منَ السجنِ والاتّهام، وللنبيّ يحيى (عليهِ السلام) منَ القتل، وغيرِ ذلك.

بل ظاهرُ الحديثِ هوَ نفيُ ما جرى أو مثلَ الذي جرى على نبيّنا (صلّى اللهُ عليهِ وآله) عن الأنبياءِ أو الخلق، ويرادُ بهِ بيانُ عظمةِ بلاءِ خاتمِ الأنبياء (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وشدّةِ أذيّتِه؛ إذ إنَّ ما جرى عليه لم يجرِ على أحدٍ منَ الأنبياءِ أو الخلق.

والوجهُ في شدّةِ ابتلائِه واضحٌ؛ إذ شدّةُ الابتلاءِ تتناسبُ معَ رفعةِ مقامِه، وقد دلَّتِ الأحاديثُ الشريفةُ على التناسبِ الطرديّ بينَ رفعةِ المقامِ وشدّةِ البلاء، وكلّما كانَ مقامُ الإنسانِ أعلى كانَ بلاؤه أشدّ، لهذا كانَ أفضلُ الخلقِ هوَ أعظمُهم بلاءً، ثمّ الذي يليهِ في الأفضليّة، وقد رُويَ في كتابِ [التمحيص ص31] عن الإمامِ الكاظمِ (عليهِ السلام): « المؤمنُ مثلَ كفّتي الميزان، كُلّما زيدَ في إيمانِه زيدَ في بلائِه »، ورُويَ في [الكافي ج2 ص252، والتمحيص ص36] عن الإمامِ الصّادق (عليهِ السلام): « إنَّ أشدَّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ، ثمَّ الذين يلونَهم، ثمّ الذينَ يلونَهم »، وفي البابِ رواياتٌ كثيرة، فمَن شاءَ المزيدَ فليُراجِع الكافي والتمحيصَ وبحارَ الأنوار وغيرَها.

ثمَّ إنَّ علماءَ الإماميّةِ (رضوانُ اللهِ عليهم) ذكروا وجوهاً عديدةً في بيانِ شدّةِ أذيّةِ خاتمِ الأنبياء (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وعظمِ بليّتِه، نذكرُ مِنها خمسَ تقريرات:

الأوّلُ: إنَّ الأذى نوعان: جسمانيٌّ وروحانيّ، والحديثُ ناظرٌ إلى أنّ الأذى الروحانيّ ـ الذي هوَ أعظمُ منَ الأذى الجسمانيّ ـ الذي أوذيَ بهِ خاتمُ الأنبياء (صلّى اللهُ عليهِ وآله) مِن قِبلِ المُشركينَ والمُنافقين أكثرُ مِمّا أوذيَت الأنبياءُ قبلَه.

ذكرَ هذا الوجهَ الفيضُ الكاشانيّ في [الوافي ج2 ص235] بقولِه: « لأنّهُ (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم) قد أوذيَ مِن قِبلِ مُنافقي هذهِ الأمّة منَ الأذى الروحانيّ أكثرَ مِمّا أوذيَت الأنبياءُ قبلَه؛ كما وردَ عنه (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم) أنّه قال : ما أوذيَ نبيٌّ مثلَما أوذيت ».

الثاني: إنَّ حقيقةَ النبيّ الأعظم (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وذاتَه مِن عالمِ النورِ والأسماء، وهوَ أعظمُ الخلقِ عُلقةً باللهِ تعالى وأنساً به، فيُعدُّ ابتلاؤه بهذهِ النشأةِ الدنيويّة ـ حيثُ الانحطاطُ والماديّةُ وغيرُ ذلك ـ أعظمَ ابتلاءٍ به لأنّهُ أعظمُ الخلقِ عُلقةً باللهِ تعالى ورفعةً عن عالمِ الدّنيا وشؤونِها، فإنّ وجودَ خاتمِ الأنبياء (صلّى اللهُ عليهِ وآله) بينَ البشر في الدّنيا أعظمُ مكرُمةً للبشرِ وأهلِ الدّنيا في حينِ أنّها أعظمُ ابتلاءٍ له (صلّى اللهُ عليهِ وآله).

وقد أشارَ لهذا الوجهِ بعضُ الأعلامِ في [العوائدِ والفوائد ص46] بقولِه: « فإنّه (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم) بذاتِه ووجودِه مِن عالمِ القُدسِ والأسماء، وهوِ ابتليَ بتلكَ النشأة، ولمّا كانَ أعظمَ خلقِ اللهِ عُلقةً به تعالى، وأشدّهُم أُنساً به تباركَ وتقدّس، فهوَ أعظمُهم في المُصيبة، وهوَ أبلاهُم بالإيذاء، فيقولُ مثلاً: ما أوذيَ نبيٌّ مثلَما أوذيت ».

 

الثالثُ: إنَّ الأذيّةَ على نوعين: أحدُهما: الأذى الكمّيّ، فيُلاحَظُ فيهِ كميّةُ الأذى الواقعِ على الإنسان، والآخرُ: الأذى الكيفيّ، فيلاحَظُ فيه كيفيّةُ الأذى الواقعِ ونوعيّتُه مِن جهةِ شدّةِ الإيلامِ الجسديّ أو الرّوحيّ أو النّفسيّ أو الفِكريّ ومِن جهةِ عظمةِ الشخصِ ومكانتِه. والأذى الواقعُ على خاتمِ الأنبياء (صلّى اللهُ عليهِ وآله) لُوحظَ فيه الأذى الكيفيُّ ـ الذي هوَ أشدُّ منَ الأذى الكمّيّ ـ، فإنّهُ أعظمُ مِمّا لاقَتهُ الأنبياءُ منَ الأذى الكمّيّ والكيفيّ؛ إذ وُصفَ النبيُّ الأعظم (صلّى اللهُ عليهِ وآله) بالسّاحرِ والمَجنون والعياذُ بالله، أعظمُ وأشدُّ مِن أذيّةِ غيرِه بأنواعِ العذاب؛ لأنّهُ أكملُ الخلقِ وأشرفُهم على الإطلاق.

وقد أشارَ لهذا الوجهِ السيّدُ أبو طالبٍ القائينيّ في [اللؤلؤةِ الغالية ص74] بقولِه: « وردَ عليه (صلّى اللهُ عليهِ وآله) أمورٌ، كلُّ واحدٍ مِنها ـ بحسبِ عالمِ المعنى ـ أكبرُ منَ الأفلاكِ وما فيها، كعدِّه مجنوناً ـ معَ أنّهُ عقل الكُلّ، هادي السُّبل ـ وكذّاباً ومُفترياً وساحراً إلى غيرِ ذلكَ مِمّا لا يخفى »، وقد ذكرَ هذا الوجهَ أيضاً بعضُ الأعلامِ المُعاصرين في مجلسِ بحثِه.

 

الرّابعُ: إنَّ أذيّةَ أهلِ البيت (عليهم السلام) هي أذيّةُ النبيّ الأكرم (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، فإنَّ الأذيّةَ الواقعةَ على أميرِ المؤمنين (عليهِ السلام) وفاطمةَ الزهراء (عليها السلام) والحسنِ والحُسين (عليهما السلام) وغيرِهم مِن أهلِ البيت (عليهم السلام)، هيَ أذيّةٌ لخاتمِ الأنبياء (صلّى اللهُ عليهِ وآله).

وقد جاءَت أحاديثُ كثيرةٌ بجعلِ أذيّةِ أهلِ البيت (عليهم السلام) أذيّةً للنبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، كقولِه (صلّى اللهُ عليهِ وآله): « مَن آذى عليّاً فقد آذاني »، وقولِه: « فاطمةُ بضعةٌ مِنّي فمَن آذاها فقد آذاني »، وقولِه: « مَن آذاني في أهلي فقد آذى اللهَ »، وقولِه: « ومَن آذى نسبي وذوي رحِمي فقد آذاني »، وقولِه: « اشتدَّ غضبُ الله على مَن أراقَ دَمي وآذاني في عِترتي »، وغيرُ ذلكَ كثيرٌ في كتبِ الفريقين.

وقد ذكرَ هذا الوجهَ السيّدُ الخُراسانيّ في رسالتِه حولَ البلاءِ المطبوعةِ ضمنَ [مجلةِ تُراثنا ع37 ص235] بقولِه: « وكلّما كانَ العبدُ أقربَ إلى الله وأحبّ كانَ بلاؤه عظيماً، ولذا قالَ سيّدُ الأنبياء (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم): « ما أوذيَ نبيٌّ مثلَما أوذيت»، وأذيّةُ عِترتِه عينُ أذيّتِه؛ فقد علمَ بها، وكانَ يراها رأيَ العين، ويتحمّلُها قبلَ وجودِها، ولذا كانَ يبكي حينَ تذكّرَها ». كما أشارَ لهذا الوجهِ الفيضُ الكاشانيّ في [الوافي ج2 ص25] بعدَ ذكرِ الوجهِ الأوّل.

 

الخامسُ: إنَّ الأنبياءَ والأوصياءَ والشيعةَ والملائكةَ مخلوقونٌ مِن طينةِ خاتمِ الأنبياء (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، فالنبيُّ مثلَ الشجرة، وأهلُ بيتِه أغصانُها، وشيعتُهم أوراقُها وهكذا. فما وردَ على سائرِ الأنبياءِ والأوصياءِ والمؤمنينَ منَ المصائبِ والبلايا فقد وردَت في الحقيقةِ على خاتمِ الأنبياء (صلّى اللهُ عليهِ وآله)؛ إذ لا يُعقَلُ قطعُ الغصنِ والورقِ معَ عدمِ تأثّرِ أصلِ الشجرة، فقد تحمّلَ النبيُّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) ما وردَ على سائرِ أهلِ الإيمان بحسبِ الباطنِ والمعنى. وعليه، فما جرى على أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) والصدّيقةِ الكُبرى (عليها السلام) وسيّدِ الشهداءِ (عليهِ السلام) وسائرِ الأئمّةِ (عليهم السلام) فقَد وردَت على خاتمِ الأنبياء (صلّى اللهُ عليهِ وآله)؛ لشدّةِ اتّصالِهم به، فهوَ المُعزّى وصاحبُ الرزيّةِ العُظمى، وهكذا جميعُ ما جرى على سائرِ الأنبياءِ والمُرسلين والأوصياءِ والمؤمنينَ مِن لدنِ آدمَ (عليهِ السلام) إلى زمانِه وإلى يومِ القيامةِ، ولهذا كانَت أذيّتُه (صلّى اللهُ عليهِ وآله) أعظمَ الأذيّات، وبليّتُه أكبرَ البلايا بأبي هوَ وأمّي.

ويشهدُ لهذا: الحديثُ الواردُ عن النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله): « مَن آذى مؤمناً فقد آذاني » [روضةُ الواعظين ص293]، وكلمةُ (مؤمنٍ) مُطلقٌ شاملٌ لسائرِ أهلِ الإيمان، سواءٌ الأنبياءُ أو الرّسلُ أو الأوصياءُ أو الحواريّونَ أو الأولياءُ أو غيرُهم، والحديثُ يدلُّ على أنَّ أذيّةَ أيّ مؤمنٍ كان هوَ أذيّةٌ لخاتمِ الأنبياء (صلّى اللهُ عليهِ وآله).

وقد ذكرَ هذا الوجهَ المُحقّقُ السيّدُ أبو طالبٍ القائينيّ في [اللؤلؤةِ الغاليةِ في أسرارِ الشهادة ص72ـ75] عندَ كلامِه حولَ البلايا الواردةِ على ساداتِ البريّةِ وأسرارِها.

والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.