هل الجهاد حرب بربرية؟
سؤال: يتعرّضُ مفهومُ الجهادِ لهجومٍ عنيفٍ باعتبارِه حرباً بربريّةً استعماريّةً غيرَ مُبرّرةٍ، وأنَّ جهادَ المُسلمين هوَ حربٌ دمويّةٌ لا ترحم، ويستشهدُ بعضُهم بما حدثَ ليهودِ بني قُريظة عندَما قتلَ الرّسولُ صلّى اللهُ عليهِ وآله رجالَهم ووصلَ بهم القولُ إلى أنَّ الفتوحاتِ الإسلاميّةَ هيَ حروبٌ استعماريّة، وأنّه مِن هذا البابِ فالمُسلمونَ والصليبيّونَ سواء؟
الجوابُ:
للجهادِ في الإسلامِ دلالاتٌ ومعانٍ خاصّةٌ ليسَ مِن بينِها التعدّي على أراضي المُسالمين، وهذا واضحٌ في النصوصِ الشرعيّة التي جعلَت الجهادَ قائماً على معانٍ دقيقةٍ أساسُها العدلُ ورفضُ الظّلم وردعُ المُعتدي.
فالجهادُ في الإسلامِ يشملُ كلَّ جهدٍ يبذلهُ الإنسانُ في سبيلِ إقامةِ الحقِّ وبسطِ العدل، ابتداءً مِن تربيةِ النفسِ وتهذيبِها التي اُعتبرَت جهاداً أكبرَ في قبالِ الجهادِ الأصغر وهوَ الجهادُ بالسّيف، مروراً بجهادِ شياطينِ الجنِّ والإنسِ الذينَ يسعونَ في الأرضِ الفساد، مُضافاً إلى جهادِ الفكرِ والمعرفةِ والبحثِ عن الحقيقة، قالَ تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ) (69 العنكبوت)، وانتهاءً بالجهادِ بالسيفِ إذا تمَّ الاعتداءُ على المُسلمين.
ومعَ أنَّ الحروبَ كشأنٍ بشريٍّ تتعلّقُ بالأساسِ بالمطامعِ والتنافسِ حولَ المصالح، إلّا أنَّ الإسلامَ لا يجيزُها على هذا النحو، حيثُ يُحرّمُ الإسلامُ الظلمَ والتعدّي على حقوقِ الآخرين، وقد حدّدَ القرآنُ ضابطاً دقيقاً للحروبِ الإسلاميّة بقولِه: {وقاتلوا في سبيلِ اللهِ الذينَ يقاتلونَكم ولا تعتدوا إنَّ اللهَ لا يحبُّ المُعتدين} [البقرة: 190] وقد حرّمَت الآيةُ بشكلٍ واضحٍ وصريح الاعتداءَ في حينِ سمحَت بحملِ السّيفِ في وجهِ الظالمِ والمُتعدّي، وقالَ تعالى: {وقاتلوا المُشركينَ كافّةً كما يقاتلونَكم كافّة} وتبيّنُ هذهِ الآيةُ أنَّ قتالَ المُشركين ليسَ لأنّهم مُشركون وإنّما لكونِهم مُقاتلين.
وعليهِ فإنَّ القتالَ في القرآنِ يقومُ بدورِ تنظيمِ سنّةِ التدافعِ البشريّ ويقيمُها على أساسِ الحقِّ وردِّ الظلمِ ونُصرةِ المُستضعفين قالَ تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُم ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصرِهِم لَقَدِيرٌ (30) الَّذِينَ أُخرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَولَا دَفعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ لَّهُدِّمَت صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (40 الحج). وقالَ تعالى: (وَمَا لَكُم لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالمُستَضعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخرِجنَا مِن هَٰذِهِ القَريَةِ الظَّالِمِ أَهلُهَا وَاجعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا) (75 النساء).
والدليلُ على أنَّ القرآنَ لا يحبّذُ القتالَ ويفضّلُ السّلمَ والتفاهمَ هوَ أمرُه بتركِ القتالِ في حالِ توقّفِ الاعتداءِ قالَ تعالى: (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلمِ فَاجنَح لَهَا وَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) (61 الأنفال).
وفي المُحصّلةِ: لا يجيزُ الإسلامُ الحروبَ مِن أجلِ استعمارِ أراضي الغير، وإنّما هناكَ حروبٌ مِن أجل دفعِ الظلمِ وإقامةِ الحقِّ وردِّ المُعتدي.
وهذا مُبرّرٌ عقلاً قبلَ أن يكونَ مُبرّراً شرعاً.
أمّا ما حدثَ في التاريخِ الإسلاميّ مِن فتوحاتٍ إسلاميّة فلا يتحمّلُ تبعاتهِ الإسلامُ كدينٍ طالما لم يأمُر بالاعتداءِ على المُسالمين، ومِن هُنا لا يكونُ الإسلامُ مسؤولاً عمّا حدثَ مِن تجاوزاتٍ في ما يُسمّى بالفتوحاتِ الإسلاميّة.
معَ أنَّ البعضَ قد يحاولُ أن يُبرّرَ لتلكَ الفتوحاتِ بوصفِها ضرورةً لنشرِ الرّسالةِ وليسَ فيها تعدٍّ على الآخرين!
إلّا أنَّ هذا النوعَ منَ التبريرِ غيرُ ضروريٍّ ولا يمتلكُ دافعاً أخلاقيّاً واضحاً؛ لأنَّ الدعوةَ إلى الإسلامِ في الأدبِ القرآنيّ قائمةٌ على ركيزةِ الحوارِ والجدالِ بالتي هيَ أحسن: (ادعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلهُم بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ)(النحل 125). وليسَ فيها اعتداءٌ على المناطقِ الآمنةِ والسيطرة على مُقدّراتِها وثرواتِها واسترقاق رجالِها ونسائها، وحتّى لو سلّمنا بأنَّ الفتوحاتِ قد ساعدَت بالفعلِ على نشرِ الدعوةِ إلّا أنَّ الغايةَ مهما كانَت مُقدّسةً لا تُبرّرُ الوسيلةَ، فالغزو واحتلالُ أراضي الغيرِ والقتلُ والتشريدُ والسبيُ وإخراجُ الناسِ مِن بيوتِها الآمنةِ كلّه مُحرّمٌ إسلاميّاً.
وعليهِ إذا كانَ الإسلامُ في دعوتِه يعتمدُ الحوارَ والإقناعَ فما هوَ المُبرّرُ أن تغزو أراضي الغير معَ إمكانيّةِ الدعوةِ عبرَ إرسالِ الدّعاةِ والمُبلّغين؟ ومِن هُنا لا نجدُ أنفسَنا مُضطرّينَ للدّفاعِ عمّا صنعَتهُ السياساتُ التاريخيّةُ سواءٌ في عهدِ الخلفاءِ أو في عهدِ الإمبراطوريّةِ الأمويّةِ والعبّاسيّة.
أمّا بالنسبةِ ليهودِ بني قُريظة فقد تحدّثنا عنها في إجابةٍ مُفصّلة، وما يمكنُ الإشارةُ إليهِ هُنا هوَ أنَّ اليهودَ قد خانوا العهدَ بتحالفِهم معَ الأحزاب، وإنَّ اللهَ قد فتحَ للمُسلمينَ قلاعَ اليهود، وما لا يمكنُ الجزمُ به بعضُ التفاصيلِ التاريخيّةِ في ما يتعلّقُ بعمليّةِ القتلِ والسّبي، حيثُ شكّكَ بعضُ الباحثينَ في هذه التفاصيل، يقولُ السيّدُ جعفر شهيدي في كتابِه (تاريخٌ تحليليّ للإسلام، ص 88-90)، ما يشيرُ إلى اضطرابِ الروايةِ في كتابِ المغازي، كما أنّها مُختلفةٌ عمّا جاءَ على لسانِ ابنِ إسحاق والطبريّ والزّهري، حيثُ أنَّ الأخيرَ لم يُصرِّح إلّا بقتلِ حييٍ بنِ أخطب؛ فالروايةُ قد تكونُ مدسوسةً مِن قِبلِ أناسٍ منَ الخزرجِ بعدَ مُضيّ سنينَ مِن وقوعِ الغزوة، ويبدو أنَّ الهدفَ مِن وراءِ ذلكَ كانَ هو الحطُّ مِن منزلةِ الأوسِ لدى النبيّ مقابلَ الخزرجِ وإثارةُ الحميّةِ التي ظهرَت علاماتُها بوفاةِ النبيّ في سقيفةِ بني ساعدة بينَهم واتّخذَها معاويةُ و بنو أميّةَ مثاراً للتلاعبِ بتاريخِ الإسلامِ إلى سنةِ أربعينَ للهجرةِ وتشويهِ صورتِه، حتّى ذكروا أنّه قامَ (ص) بقتلِ حلفاءِ الأوسِ دونَ حلفاءِ الخزرج مِن بني قُينقاع وبني النّضير، وأنّ زعيمَ قبيلةِ الأوسِ لم يُراعِ جانبَ حلفائِه في غزوةِ بني قريظة، بل حكمَ بقتلِ جميعِ الرّجال.
اترك تعليق