لماذا أمرنا الأئمة (ع) بإتباع الفقهاء وهم غير معصومين
السؤال!! الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، أمرنا باتباع الأئمة ؛ لأنّهم معصومون ، ولا يمكن أن يأمرنا باتباع غير معصوم ؛ لأنّه لا يمكن أنْ يأمرنا باتباع الباطل، والباطل يرد من غير المعصوم. ولكن كيف يأمرنا الأئمة (صلوات الله عليهم) باتباع غير المعصومين، والباطل يجوز وروده منهم، حتى مع العدالة والأعلمية لكونهم غير معصومين ؟!!
الجواب:
قبل الإجابة عن هذا السؤالِ المليح في الجملة ، ننبّهُ على خطأ فيه ، هو : (والباطل يجوز وروده منهم) والصحيح : (والخطأ يجوز وروده منهم) لامتناع أن يأمرنا أهلُ البيت عليهم السلام أن نأخذ عمّن يحتملُ أن يكونوا أهلَ باطل ، بخلاف الخطأ .
وللإجابة التامّةِ عن السؤالِ المليح أعلاه ، ثمّة أمورٌ يلزمُ استيعابها ، بما هي مجموع ، ليتسنى لنا الوقوف على ضفاف الجواب التام ، كالآتي :
الأوّل : اشترط أهلُ البيت عليهم السلام في العالم الجامع الذي يرجعُ إليه النّاس ، أنْ يكون عادلاً ، طاهرَ المولد ، مخالفاً لهواه ، مطيعاً لأمر مولاه ، ملمّاً بكلّ أخبارهم المعتبرةِ وغير المعتبرة صلوات الله عليهم ؛ ليتسنى له التمييزُ بين ما يبرىء الذمّةَ وما لا يبرىء ، محيطاً بما اشتهرَ بين أصحاب الأئمّة من أصولِ العقيدة والفروع .
الثاني : بعضُ المستند في ذلك ، ما قطعَ بصدوره عن الصّادق عليه السلام قال : (الحكمُ ، ما حكمَ به أعدلهما ، وأفقههما ، وأصدقهما في الحديثِ وأورعهما) وهو نصٌّ صريحٌ أنّ من يرجع إليه الناسُ من العلماء ، يجب أن يكون عادلاً ، فقيهاً ، صادقاً ، ورعاً ، أجمعَ أصحابنا على ذلك بالإجماع المركب .
والمقصودُ بالإجماع المركّبِ أعلاه ، عدمُ الخلاف الإجمالي ؛ فإنّ قاطبة العلماء تمسكوا بالحديث أعلاه وغيره ، في لزوم كون العالم - الجامع للشرائط - عادلاً صادقاً ورعاً ، واختلفوا في شرطيّة الأعدليّة والأصدقيّة والأورعيّة ، والصحيحُ عند الأكثر كفايةُ العدالةِ والورع والصدق ، فاحفظ .
الثالث : أن لا يكونَ مخالفاً لأصولِ المذهب في العقيدة والفروع ، لقولهِ عليه السلام : (المجمعُ عليه من أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ، ويتركُ الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمعَ عليه لا ريب فيه).
الرابع : هذا التاريخ ، من أيّام أصحاب الأئمّةِ ، إلى اليوم الشيخُ المفيد والمرتضى والطوسي ، مروراً بابن إدريسَ والمحققِ والعلامةِ والشهيدين ، إلى يوم الخوئي والسيستاني وغيرهم من الأحياء والأموات رفع الله مقامهم جميعاً ..
هل فيهم - مع ما عندهم من اختلافِ تنوّعٍ في الفتوى - مَنْ خرم إجماع أهل البيت ومشهور أصحابهم الأعظم ، في أصول الدين وعقائده وفروعه؟!!! كلا وكلا وكلا .
وننبّه لزوماً أنّ الكلام أعلاه ، ما دار مدار أساطين المذهب ، كالمفيد والشهيدين والعلامة والخوئي، وأضراب هؤلاء العظام ، لا كلّ من هبّ ودب .
فهؤلاء رفع الله مقامهم ، وإنْ لم يتنزهوا عن الخطأ النادر كما سنبيّن ، لكنهم منزهون عن الباطل بأي شكل من الأشكال ، كما نبهنا أول الكلام.
الخامس: لكن يبقى احتمالُ صدور الخطأ من الفقهاء العدول الجامعينَ للشرائط ، بداهةَ أنّ اختلافَ الفتاوى دليلٌ صريح على خطأ بعضها ؛ فكيف يسوّغ أهل البيت عليهم السلام الرجوعَ إليهم مع احتمال الخطأ ؟!!
وجوابه -وهو جوابُ الشبهة أعلاه- عقلاً وشرعاً وعقلائياً، بالنظر لكلّ ما مرّ من الشروط : لا يضرّ الخطأ النادر ، أو غيرُ المناقض لأصول مذهب أهل البيت في العقيدة والفروع ، من الجزئيات ، وليس في كلّ فتاوى أصحابنا الأساطين ، من المفيد إلى السستاني ما يناقض أصول المذهب ، ومشهوره الأعظم ، عقيدةً وفرعاً ..
فحالُ العالم الجامع للشرائط ، نظير الطبيب الخبير ، فكلاهما غيرُ معصوم من الخطأ ، لكنّ الخطأ غير المقصود منهما نادر ، أو لا يناقض الأصول التي عليها المدار .
وقد قطع العقلُ وعامة الشرائع ، حتى الوضعيّة منها ، وكذا العقلاء ، أنّ الخطأ النادر ، لا يكون موضوعاً للحرمة الشرعيّة أو النهي الوضعي ..
وعلى سبيل المثال ، حكم العقل والشرع والعقلاء أنّ ركوب الطائرة ، يحتملُ فيه الإقدام على هلاك النفس بسقوط الطائرة ، لكن بما أنّ هذا الفرضَ نادر ، سوّغوا ركوبها ..
الزبدة :
إحتمالُ خطأ العالم العادل الورع الصادق ، الجامع للشرائط ، المحيط بكلّ أخبار أهل البيت ، المستوعب لكلّ ما ورد في القرآن ، الملمّ بالإجماعات والشهرة العظيمة ، وارد ..
لكنّه أولاً : نادر .
ثانياً : حكمُ العقل وعامّةُ الشرائع ، ناهيكَ عن العقلاء ، حتى عقلاء الكفار الوضعيين ، أنّ الفرضَ النادر لا يترتّبُ عليه نهيٌ أو منعٌ أو حرمة ، كما في فرضِ خطأ الطبيبِ الخبير ، واحتمال سقوط الطائرة .
ثالثاً وهو المهم : إنّما جوّز الأئمّة عليهم السلام ، وعامة الشرائع ، علاوة على العقل ، وهو ما عليه قاطبة العقلاء ، ارتكاب الخطأ النادر غير المقصود ..
نقول: إنّما جاز ذلك ؛ حفظاً للمصلحة النوعيّة العظيمة المرتجاة في الفرضِ الأكثر؛ فإنّ مصلحة تحققِ الشفاء على يدي الطبيبِ الخبير ، أكبرُ بكثير ، من فرض احتمالِ خطئه النادر غير المقصود ، وكذا الكلامُ في ركوب الطائرة والسيارة مع احتمال السقوط .
وبعبارةٍ أخرى ، إنّما جوّز العقلُ وقاطبة العقلاء حتى الكفار ، وعامّة الشرائع ، الإقدام على ما يحتملُ أنّهُ خطأ نادرٌ غير مقصود ؛ لحفظ النظام الإنساني والإجتماعي من الاختلال ، ما نحن فيه كذلك حذو القذة بالقذة ..
بإيجاز : هل هناك عاقلٌ ، يمنع من الرجوع للطبيب الخبير ، لمجرّد احتمالِ أنّه ربما يخطأ خطأً نادراً غير مقصود ، لا يضرّ بخبرته في أصول العلاج المتيقنة لبقيّة الناس؟!!!
كذا الكلامُ في المرجع الجامع للشرائط ؛ فإنّ خطأهُ نادرٌ وغير مقصود ، والمنعُ عن الرجوع إليه لذلك ، لا يقول به عاقلٌ ولا عقلٌ ولا شريعة؛ لما يستلزم من اختلالِ النظام .
اترك تعليق