لماذا تحرم الزوجة من العقار

سؤال: يظهر من بعض أحاديث الأئمة بأن الزوجة لا ترث شيئًا من الأرض، ومع ذلك نرى أيضاً أنّ البنت ترث من تركة أبيها سواء كان أرضاً أو غيرها، فكيف نفهم هذا التفريق بين الزوجة والبنت؟

: - اللجنة العلمية

الجواب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

1- إنّ الإرث بكل تفريعاته - من تقسيم الإرث وموانعه وطبقات الورثة وغير ذلك - هي أحكام شرعيّة وقوانين إلهيّة، شرّعها الله تعالى وفق ما تقتضيه المصالح والمفاسد الواقعيّة. وتكليف العبد - بعد أنّ إقراره بحكمة الله وعدالته - هو التعبّد بالتشريع الإلهيّ، والتسليم بصوابيّته ومطابقته للمصلحة، سواء أدرك الإنسان المصلحة الكامنة أو لا؛ إذ الإقرار بحكمة الله تعالى كافٍ.

2- لا خلاف بين المسلمين - شيعة وسنّة - في أنّ الزوجة ترث من الزوج في الجملة، بل هو من الضروريّات، وقد استقرّ مذهب الإماميّة على حرمانها من إرث العقار - على تفصيلٍ فيها -؛ عملاً بالروايات الكثيرة الواردة عن آل محمّد - عليهم السلام - روايةً عن رسول الله - صلى الله عليه وآله -.

قال الشيخ المفيد في [المسائل الصاغانية ص98]: (..تواتر الشيعة عن أئمّة الهدى من آل محمّد - عليهم السلام - بأنّ المرأة لا ترث من رباع الأرض شيئاً..)، وقال: (كافّة آل محمّد - عليهم السلام - يروون ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وآله -، ويعملون به وراثةً لسنّته فيه).

والأحاديث في هذا المعنى وفيرة، نذكر منها:

الحديث الصحيح المرويّ عن الإمامين الباقر والصادق - عليهما السلام -: « المرأة لا ترث من تركة زوجها من تربة دارٍ أو أرض، إلا أنْ يُقوَّم الطوب والخشب قيمةً، فتُعطى ربعها أو ثمنها ». [الكافي ج7 ص128، الاستبصار ج4 ص151، تهذيب الأحكام ج9 ص298].

ومنها: حديث موسى بن بكر قال: « قلتُ لزرارة: إنّ بكيراً حدّثني عن أبي جعفر - عليه السلام -: أنَّ النساء لا ترث امرأةٌ ممّا ترك زوجها من تربة دارٍ ولا أرض إلّا أن يُقوَّم البناء والجذوع والخشب فتُعطى نصيبها من قيمة البناء، فأمَّا التربة فلا تُعطى شيئاً من الأرض ولا تربة دار، قال زرارة: هذا لا شكَّ فيه ». [الاستبصار ج4 ص154، تهذيب الأحكام ج9 ص301].

ومنها: حديث عبد الملك، قال: « دعا أبو جعفر - عليه السلام - بكتاب عليّ - عليه السلام -، فجاء به جعفر مثل فخذ الرجل مطويّاً، فإذا فيه: إنَّ النساء ليس لهنَّ من عقار الرجل - إذا تُوفي عنهنَّ - شيءٌ، فقال أبو جعفر - عليه السلام -: هذا والله خطُّ عليٍّ - عليه السلام - بيده، وإملاءُ رسول الله - صلَّى الله عليه وآله - ». [بصائر الدرجات ص185].

3- ذكر الفقهاء: أنّ الميراث يستحقّ - في حكم الله تعالى - بضربين: أحدهما نسب، والآخر سبب. والنسب على ثلاث مراتب، والسبب على نوعين: زوجيّة وولاء.

ينظر: المقنعة للشيخ المفيد ص680، شرائع الإسلام للمحقق الحليّ ج4 ص811، منهاج الصالحين للسيد السيستاني ج3 ص315.

ومن الواضح أنّ إرث البنت من أبيها إنّما هو بموجب علقة القرابة والنسب، بينما إرث الزوجة من زوجها يكون بموجب علقة الزوجيّة والسبب.

وهناك فرق شاسع بين النسب والسبب، وليسا من باب واحد حتّى يُقال: (كيف ترث البنت من أبيها ولا ترث الزوجة من زوجها؟)؛ إذ البنت ترث بموجِب القرابة بينما ترث الزوجة بموجب الزوجيّة، فموجِب الإرث فيهما مختلفٌ.

4- لا سبيل إلى معرفة العلّة الحقيقيّة للأحكام التعبديّة إلّا بواسطة النصّ الثابت من قبل المشرِّع، وتكليف العبد هو التعبّد بالتشريع والتسليم له، وليس تكليفه معرفة علل تشريع الأحكام من المصالح والمفاسد، فإنّ ذلك من مهام المشرّع الذي يلاحظ سائر المصالح والمفاسد عند التشريع.

وهذا السؤال لا يقتصر على مثل هذا الحكم فحسب – أعني منع الزوجة من العقار -، بل ينجرّ إلى سائر الأحكام الشرعيّة: لماذا صلاة الصبح ركعتان وصلاة المغرب ثلاث ركعات بينما صلاة الظهرين والعشاء أربع ركعات؟ ولماذا كانت الصلاة هكذا ولم تكن هكذا؟ وهكذا دواليك.

5- قال الشهيد الثاني – في رسالته المعمولة في هذه المسألة -: « المطلب الخامس: في بيان الحكمة في هذا الحرمان، وأبداؤها – بعد ثبوته بالنصوص الصحيحة واتّفاق الأصحاب إلّا مَن شذّ – غيرُ لازم، غير أنّها من الحكمة الواضحة، وقد نبّه عليها الأصحاب، ونطقت بها نصوصهم... إلخ ». [ينظر رسائل الشهيد الثاني ج1 ص482].

وحاصل الوجه المذكور في كلامهم:

أنّ الزوجة من حيث هي زوجة لا نسب ولا قرابة بينها وبين ورثة الميت، وإنّما هي دخيل عليهم وأجنبية عنهم، والصلة التي كانت بينها وبينهم إنّما كانت بسبب رابطة الزوجيّة مع ميّتهم، وقد انقطعت هذه الرابطة بموته، وهي قد تتزوّج بعد موته برجل آخر، سيّما إن كان بينه وبين الميت منافسة وحسد وغضاضة، فتسكنه - حينئذٍ - في مساكنه وتسلّطه على عقاره لو كانت ترث من العقار، فيحصل بذلك على الورثة غضاضة عظيمة من تنفّر وانزعاج بل قد يكون سبباً للشقاق؛ إذ لا يتحمّل أقرباء الميت غالباً دخول مَن هو أجنبيّ عنهم عليهم والبقاء معهم أبداً في دارهم، خصوصاً إذا كان بين هذا الأجنبيّ وبين الميت تنفّر وانزعاج، فاقتضت الحكمة الإلهيّة منع الزوجة من العقار على تفصيل فيه، درءاً لمثل هذه المفسدة.

وقد أشارت بعض الروايات الشريفة إلى وجه الحكمة في هذا الحكم، وكذلك أشارت إلى وجه الفرق بين حرمان الزوجة من عقار زوجها وبين إرث البنت والابن من عقار أبيهم، نذكر منها:

ما رواه حمّاد بن عثمان عن الإمام الصادق – عليه السلام -: « إنّما جُعل للمرأة قيمة الخشب والطوب لئلّا تزوّج فتُدخِل عليهم مَن يُفسد مواريثهم ». [الكافي ج7 ص129].

ومنها: ما رواه محمّد بن مسلم، قال: قال الإمام الصادق - عليه السلام -: « تَرِثُ المرأة الطوبَ ولا تَرِثُ من الرَّباع شيئاً، قال: قل: كيف تَرِثُ من الفرع ولا تَرِثُ من الرَّباع شيئاً؟ فقال لي: ليس لها منهم نَسَب تَرِثُ به وإنّما هي دخيل عليهم، فتَرِثُ من الفرع، ولا تَرِثُ من الأصل ولا يَدْخلُ عليهم داخل بسببها ». [الكافي ج7 ص128].

ومنها: ما رواه ميسرة بيّاع الزطّي، عن الإمام الصادق – عليه السلام -، قال: « سألتهُ عن النساء، ما لهنّ من الميراث؟ قال : لهنّ قِيمة الطوب والبِناء والخَشَبِ والقَصَبِ، فأمّا الأرضُ والعَقارُ فلا مِيراثَ لهنّ فيه، قال: قلت: فالثياب؟ قال: الثياب لهنّ، قال: قلت: كيف صار ذا، ولهذه الثمْن والربْع مسمّى؟ قال: لأنّ المرأة ليس لها نَسَب تَرِثُ به، وإنّما هي دخيل عليهم، وإنّما صار هذا كذا لئلّا تَتَزوّجَ المرأةُ فيجيءَ زوجُها أو ولدُها من قومٍ آخَرين فيُزاحِمَ قوماً في عَقارهم ». [الكافي ج7 ص130].

ومنها: ما كتبه الرضا - عليه السلام - إلى محمَّد بن سِنان فيما كتبَ من جواب مسائله: « علَّةُ المرأةِ أنّها لا تَرِثُ مِن العَقار شيئاً إلا قِيمةَ الطوب والنقْضِ لأنّ العَقار لا يمكنُ تغييرُهُ وقَلْبُه، والمرأة قد يجوز أنْ يَنْقطِعَ ما بينَها وبينَه من العصمة ويجوز تغييرُها وتبديلُها، وليس الولد والوالد كذلك لأنّه لا يُمْكنُ التفصّي منها، والمرأة يُمْكِنُ الاستبدال بها، فما يجوز أنْ يَجيء ويَذْهَبَ كان مِيراثُه فيما يجوز تغييره وتبديله إذ أشْبَهَها، وكان الثابتُ المقيمُ على حاله كمن كان مثله في الثباتِ والقيام ». [من لا يحضره الفقيه ج4 ص251].

هذا حاصل ما أُفيد في الروايات وكلمات الأعلام في بيان بعض الاعتبارات في تشريع حرمان الزوجة من العقار، وهذه الاعتبارات ليست هي العلّة الحقيقيّة التي يدور الحكم مدارها، وإنّما هي اعتبارات ذُكرت لغرض الاستيناس ورفع الاستيحاش، وإلّا فمنشأ البناء على حرمان الزوجة من العقار هو تشريع الله تعالى لهذا الحكم، فيجب التسليم له والتعبّد بحكمه؛ لأنه الأعلم بما يُصلح شأن العباد وأحوالهم.

والحمد لله رب العالمين