كيف نصرهم بألف من الملائكة، وملك واحد كافٍ لحسم المعركة؟
سؤال: إذا كان ملك واحد قادراً على قلب الأرض أو تحطيمها، فما الحاجة لخمسة آلاف من ملائكة يوم بدر، أو ثلاثة آلاف كما تقول الآية؟ وإذا اشترك كلّ هذا العدد فلماذا القتلى فقط ٧٠، ونصفهم بسيف عليّ كما تقول الرواية؟
الجواب:
أوّلاً: لا خلاف بين المسلمين على تأييد الله للمسلمين بالملائكة في معركة بدر، أمّا الاختلاف بين الآيات في عدد الملائكة فإنّه ليس من باب التردّد في تحديد العدد، وإنّما من باب إمكانيّة الإمداد المستمر، أي أنّ الله وعدهم بألفٍ من الملائكة، ومن ثَمَّ وعدهم بالزيادة، وذلك في قوله تعالى: {أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} أي مردفين بعدد آخر، وهذا ما أشار إليه ابن عاشور في تفسيره حيث قال: (وقد جاء في سورة الأنفال - عند ذكره وقعة بدر - أنّ الله وعدهم بمدد من الملائكة عدده ألف، بقوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ}. وذكر هنا أنّ الله وعدهم بثلاثة آلاف، ثمّ صيّرهم إلى خمسة آلاف. ووجه الجمع بين الآيتين: أنّ الله وعدهم بألفٍ من الملائكة، وأطمعهم بالزيادة بقوله: {مُرْدِفِينَ} أي مردفين بعدد آخر، ودلّ كلامه هنا على أنّهم لم يزالوا وجلين من كثرة عدد العدو، فقال لهم النبيّ (صلى الله عليه [وآله] وسلم): ألن يكفيكم أن يمدّكم ربّكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين، أراد الله بذلك زيادة تثبيتهم، ثمّ زادهم ألفين إنْ صبروا واتّقوا. وبهذا الوجه فسّر الجمهور، وهو الذي يقتضيه السياق) [التحرير والتنوير ج4 ص73].
ثانياً: إنّ معركة بدر هي أوّل معركة في الإسلام، وانتصار المسلمين فيها كان إعجازاً بمعنى الكلمة؛ إذ يستحيل على المسلمين - بحسب الموازين الماديّة - تحقيق انتصار في المعركة؛ لعدم وجود تكافؤ بين الفئتين في العدد والعدّة، فقد كان عدد المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، معهم فرسان وسبعون جملاً، وكان عدد المشركين ألف رجل، معهم مئتا فرس، أي كان المشركون يشكّلون ثلاثة أضعاف جيش المسلمين. أضف إلى ذلك: أنّ المسلمين لم يكن لهم سابق عهد أو معرفة بأنّ الله ينصر المؤمنين الصابرين وإنْ قلّ عددهم، فكانت معركة بدر أوّل تجربة للقتال في الإسلام، ولذا كان من الطبيعيّ أن يكونوا في أمسّ الحاجة إلى تطمينات غيبيّة تشدّ عزيمتهم، ولذا جاء هذا الوعد الإلهي ليقول لهم: إنْ كان عدد العدو ألف مقاتل فإنّ الله سيمددكم بألف من الملائكة، وقد حكى الله تلك الواقعة بقوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّـهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، فقد أكّدت هذه الآية على أنّ المسلمين كانوا أذلّة في قبال المشركين، ولا يمكن الانتصار عليهم لولا نصر الله تعالى لهم.
ثالثاً: بيّنت الآيات الهدف من إنزال الملائكة يوم بدر، وهو تحقيق البشرى وتطمين القلوب، فعندما نظر الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى كثرة عدد المشركين وقلّة عدد المسلمين استقبل القبلة، وقال: « اللّهم أنجز لي ما وعدتني، اللّهمّ إنْ تهلك هذه العصابة، لا تُعبَد في الأرض »، فما زال يهتف ربّه مادّاً يديه حتّى سقط رداؤه من منكبيه، فأنزل الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّـهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، فقولُه: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّـهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} ظاهرٌ في بيان سبب نزول الملائكة على المسلمين يوم بدر، وقد أكّد هذا المعنى آيات أخرى تحدّثت عن نفس الواقعة، وهي قوله تعالى: {بَلَىٰ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّـهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّـهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}، فقد أكّدت هذه الآية أيضاً سبب إمداد المسلمين بالملائكة بقوله: {إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ}.
رابعاً: لم يكن زول الملائكة من أجل اقتحام المعركة، وممارسة عمليّة القتل بدلاً عن المسلمين، فهناك فرق في اللغة بين القتال والقتل، فليس بالضرورة أن تسفر المشاركةُ في القتال القتلَ الفعليّ للعدو، فعندما يحضر الجيش في أيّ معركة يسمّى جيشاً مقاتلاً، ومع ذلك قد لا يقع قتل فعليّ من جميع المشاركين أو من بعضهم. ومن هنا، يمكن أن نقول: إنّ الملائكة شاركت في القتال ولم تشارك في القتل، أي أنّها شاركت بتثبيت قلوب المؤمنين، ولم تتولَّ هي بنفسها عمليّة القتل حتّى يُقال: إنّ ملكاً واحداً كافٍ لحسم المعركة.
اترك تعليق