هل عند الشيعة عقيدة الفداء كما عند المسيحية؟

السؤال: يفدي أحد قومه بنفسه لتغفر ذنوبهم!! هذه العقيدة اعتقدها الإغريق في مخلصهم (أبولو)، والرومان (هيروكوليس)، والنصارى في المسيح، ونحن نجد ما يشابهها عند الشيعة، إذ جاء في الكافي عن موسى الكاظم (ع): «إن الله -عز وجل- غضب على الشيعة فخيرني نفسي أو هم، فاخترت نفسي”. لأنهم تركوا التقية كما قال في حاشية الكافي..

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

يشير صاحب السؤال إلى الجذور التأريخية لعقيدة الفداء عند الإغريق والرومان، ثم يربطها بالاعتقاد الديني عند المسيحية وكيف أن المسيح فدى العالم بتحمله آلام القتل والصلب، وممّا لا شك فيه أن عقيدة الفداء هي عقيدة ذات جذور وثنية كما يؤكد ذلك كثير من الباحثين الغربيين، إذْ يقول الفيلسوف والمؤرخ الأمريكي المشهور المؤرخ ول ديورانت: "بأن عوامل عديدة قد أوحت إلى بولس بتلك العقيدة، منها: انقباض نفس بولس وندمه بالصورة التي استحال إليها المسيح في خياله، وتأثره بالفلسفة الأفلاطونية والرواقية التي تنبذ المادة والجسم واعتبارهما شرّاً وخبثاً، وتأثره كذلك بالطقوس الوثنية في التضحية الفدائية للتكفير عن خطايا الناس، وتلك عقيدة موجودة عند الوثنيين في مصر وآسيا الصغرى وبلاد اليونان التي تؤمن بالآلهة التي ماتت لتفتدي بموتها بني الإنسان".(قصة الحضارة: 11 / 263 - 265، بتصرف).

ويبدو أن صاحب السؤال بسرده للجذور التأريخية لعقيدة الفداء يلمح إلى وجود تطابق بينها وبين ما جاء في حديث الإمام الكاظم، الذي جاء فيه: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ غَضِبَ عَلَى ‏الشِّيعَةِ فَخَيَّرَنِي نَفْسِي أَوْ هُمْ فَوَقَيْتُهُمْ وَاللَّهِ بِنَفْسِي".

إذنْ: فالفهم الذي ارتسم في ذهن السائل من هذا الحديث هو الذي قاده إلى هذه المقارنة، إذ تصور أن الإمام الكاظم (عليه السلام) تحمّل السجن الطويل والآلام حتى مضى شهيداً لكي يفدي الشيعة فلا يؤاخذهم الله بعد ذلك بشيء!!

فإذا كان الأمر كذلك، فيرد عليه أن هذا الفهم ليس صحيحاً مطلقاً؛ لكونه مخالفاً لنصوص القرآن والسنة ومبايناً تماماً لعقائد الإسلام وتعاليمه، ويكفي في هذا المقام قوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، وقال: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)، وقال: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)، الأمر الذي يدعونا إلى صرف هذا المعنى عن الرواية والبحث عن معناها الحقيقي انطلاقاً من الظروف التأريخية التي صدرت فيها هذه الرواية.

وبعبارة أخرى: يمكننا القول إن عهد الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) مهد الطريق بشكل كبير لتمكين الشيعة حتى أصحبوا أكثر تماسكاً وقوة، لاسيّما بعد الضعف الذي رافق انهيار الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية في بادئ أمرها.

فلذا أصبح النفوذ الشيعي وحركتهم السياسية أكثر حضوراً وتأثيراً، فامتدت ثورات العلويين حتى شملت أكثر البلاد الإسلامية.

وقد جاء عهد الإمام الكاظم (عليه السلام) لـمّا كانت الظروف تزداد توتراً بين الشيعة وبين السلطة العباسية، إلى أنْ أصبحت السلطة أكثر تخوفاً وتحرزاً من الإمام إلى درجة أنها كانت تعتقد بأنه هو مهدي آل محمد الذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، فلذا حرصت السلطة عند مقتله بأن تنادي على جنازته: هذا إمام الرافضة يزعمون أنه لا يموت فانظروا إليه ميتاً.

ومن هنا نفهم جملة الروايات التي تتحدث بتشدد عن ضرورة التقية وكتم أمر أهل البيت (عليهم السلام)، فعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا تَقِيَّةَ لَهُ"، وعن الصادق عليه السلام قال: "سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: لَا وَاللَّهِ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ التَّقِيَّةِ، يَا حَبِيبُ إِنَّهُ مَنْ كَانَتْ لَهُ تَقِيَّةٌ رَفَعَهُ اللَّهُ يَا حَبِيبُ مَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ تَقِيَّةٌ وَضَعَهُ اللَّهُ".

وبسبب هذه التقية تمكن الأئمة من أهل البيت من اختراق الأجهزة العليا للدولة وكانت لهم عيون داخل أروقة النظام الحاكم، من أمثال علي بن يقطين، وعلي بن سويد وغيرهم ممّن أصبح من الدائرة الأولى في السلطة العباسية.

وزرع مثل هؤلاء في مناصب قريبة من هرم السلطة يؤكد وجود عمل سياسي قوي ومنظم، إذ لم يصل هؤلاء إلى هذه المرتبة إلا بعمل دؤوب ولفترة طويلة من التقية، وقد كان في زمن هارون الرشيد العشرات من أمثال علي بن يقطين الذين يعملون في مناصب حساسة في الدولة، وقد ساعد هؤلاء على إفشال كثير من المخططات التي كانت تستهدف الأئمة وشيعتهم.

وفي مقابل هذه الطبقة من أصحاب الأئمة الذين كانوا يمثلون كوادر الصف الأول كان هناك طبقة أخرى متمثلة بالكوادر الوسيطة والدنيا وعامة الشيعة، وما حدث من اختراقات للعمل الرسالي الذي يقوده الأئمة كان بسبب التسريبات التي تصدر من هذه الطبقة، إذ لم يكن الالتزام بالتقية وضرورة الكتمان والعمل السري بنفس القدر الذي أراده الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، الأمر الذي تسبب في أضرار كبيرة في العمل الرسالي، إذ أصبحت السلطة أكثر قدرة على تتبع خيوط العمل الشيعي، وهو ممّا سبب خطراً كبيراً على الوجود الشيعي من الأساس، فإذا تمكنت السلطة من التعرف على جميع رجالات الشيعة وكوادرها ومن ثم القضاء عليهم لَـمَا بقي للتشيع وجود، وهذا ما جعل الإمام الكاظم (عليه السلام) بين خيارين:

الأول: أن يكشف نفسه للسلطة فتلهوا عما دونه.

والثاني: أن يترك السلطة تتبع الشيعة وتقضي عليهم واحداً بعد الآخر.

وهذا الأمر هو نظير ما حدث مع الإمام الحسن (عليه السلام) عندما وجد نفسه مخيراً بين مصالحة معاوية والحفاظ على الشيعة وبين أن يحارب ويتسبب في القضاء عليهم، فأختار الإمام الصلح مع معاوية، وإن كان الأسلوب مختلفاً.

فاختيار الإمام سلام الله عليه للسجن والقتل كان فيه كان يروم من ورائه صرف النظر عن بقية الشيعة، ليحافظ على المشروع الشيعي واستمراره حتى قيام دولتهم الكبرى دولة الإمام المهدي (عليه السلام).

وفي المحصلة: يجب فهم الرواية في ضمن السياق التأريخي والظرف السياسي الذي كان يحيط بالإمام الكاظم (عليه السلام)، ولا يمكن فهمها على نحو فهم الكنيسة المستمدة من جذور وثنية.