هل الأرض كروية في القرآن؟

سؤال: ما هو شكل الأرض الحقيقي في القرآن الكريم أو ما ذكره النبيّ أو المعصومون - عليهم أفضل الصلاة والسلام -؟ هل هي كروية أم مسطحة؟ وهل الأرض ثابتة أم متحرّكة؟ وظاهرة الليل والنهار، مَن المسؤول عن حدوثهما، هل الأرض أم الشمس والقمر؟ مع جزيل الشكر والتقدير

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

نرى من المناسب للإجابة على هذا السؤال وضع تصوّر عامّ يحكم مثل هذه الأسئلة، فالبحث عن أيّ قضيّة يتطلّب - أوّلاً - تحديد مجال البحث، والمصادر المناسبة التي يجب البحث فيها، فمثلاً: مَن يبحث عن معرفة شكل الأرض وكتلتها ووزنها والمواد المكونة لها، هل يحقّ له أن يبحث عن ذلك في القرآن الكريم؟ وهل القرآن مطالب من الأساس بالإجابة على مثل هذه الأسئلة أم لا؟

أشرنا في إجابة سابقة عن الإعجاز العلميّ في القرآن: بأنّه من الخطأ التعامل مع القرآن على أنّه كتاب في علوم الطبيعة؛ وذلك لأنّ القرآن كتاب بصائر وهدى للناس كما وصف هو نفسه، يقول تعالى: {هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، ويقول: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ}، ويقول: {هَٰذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ}، ويقول: {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.

وبالتالي هو منهج ربّانيّ لتبصير الإنسان وهدايته، سواء على مستوى تعريف الإنسان بنفسه، أو تعريفه بربّه، أو تعريفه بغاية وجوده وفلسفة خلقه، فالقرآن هو النور الذي يبصر به الإنسان طريق الرشاد، قال تعالى: {.. قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم}. مضافاً إلى أنّه الدواء الذي يشفي مرض الشكّ والوهم واضطراب القلوب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ} .وعليه، لم تكن مهمّة الأنبياء ورسالات السماء تعليم الناس العلوم الطبيعيّة.

بل لا يحتاج الإنسان أساساً إلى كتاب من السماء ليشرح له تلك العلوم؛ لأنّه بنفسه قادر على معرفة ذلك، بما أودع الله فيه من أدوات، ولذا اكتفى القرآن بتذكير الإنسان بأدوات العلوم من سمعٍ وبصرٍ وعقلٍ، ثمّ شجعه على طلب العلم، وأمره باستعمار الأرض، فالإنسان بما زوّده الله من أدوات قادر على كشف أسرار الطبيعة، وما تشهده البشريّة من تطوّر علميّ في كافّة المجالات خير دليل على ذلك.

وعليه، فإنّ الاعتقادَ بأنّ القرآن لابدّ أن يكون مرجعاً في علوم الفلك والكيمياء والفيزياء وغير ذلك اعتقادٌ خاطئ، ولا يوجد ما يبرّره.

وفي المقابل، الإنسان في أمسّ الحاجة إلى مَن يرشده إلى تكامله الروحيّ والمعنويّ والأخلاقيّ، وفي أمسَّ الحاجة إلى الأنظمة والتشريعات التي تضبط سلوكه الفرديّ والاجتماعيّ، وفي أمسّ الحاجة إلى مَن يعرّفه بالأشياء في إطار الغاية والحِكمة لا في إطار جانبها الحسّيّ والماديّ، ولذا كان القرآن رسالة الله للإنسان لكي يهديه سبيل الرشاد، ويبصّره حقائق الأشياء، ويبشّره بالجنّة، ويحذّره من النار.

ومن الواضح أنّ الهداية ليست موقوفة فقط على تذكير الإنسان بحِكمة الحياة وغايات الخلقة، وإنّما تتوقّف أحياناً على ذكر بعض الحقائق الطبيعيّة التي تقوّي صلة الإنسان بالله تعالى، أو تنبّه الإنسان إلى نعم الله، وكيف سخّر له الطبيعة وهيئ له ظروف الحياة فيها.

ومن هنا نفهم الآيات التي تحدّثت عن النجوم والكواكب والبحار والجبال والرياح والأمطار وغير ذلك من الحقائق بوصفها حقائق طبيعيّة تقع في طريق هداية الإنسان.

وبالتالي، كون القرآن معجزاً علميّاً لا يعني أنّه بديل عن وسائل البحث العلميّ، أو أنّ ما فيه من حقائق علميّة تصلح للمقارنة والمعارضة مع ما أثبتته العلوم الحديثة، وذلك لكون القرآن يتحرّك في اتّجاه يختلف تماماً عن الاتجاه الذي تتحرّك فيه العلوم الطبيعيّة، فبينما يستثمر القرآن تلك الحقائق لهداية الإنسان من دون الحاجة للكشف عن كيفيّة عملها ماديّاً، نجد أنّ العلم يهتمّ بالروابط الكيميائيّة أو الفيزيائيّة أو البيولوجيّة التي تفسّر وجود الظاهرة الطبيعيّة، ومن الواضح أنّ العلوم في تفسيراتها قد تكون مختلفة ومتباينة، ولا يمكن الوصول فيها إلى حقائق لا يصيبها التطوّر والتبدّل، فما يثبته العلم اليوم قد يثبت نقيضه غداً، وهذا ما لا يمكن حدوثه مع القرآن، ليس لكونه مصدراً إلهيّاً معصوماً من الخطأ فحسب، وإنّما لكون القرآن تناول تلك الظواهر الطبيعيّة على مستوى الحِكمة والغاية دون التحدّث عن آليات عملها ماديّاً.

ومثال ذلك فيما يتعلّق بالأرض:

نجد أنّ الله ركّز حديثه عن الغاية من خلق الأرض، وكيف أنّ الله سخّرها ومهّدها ليتمكّن الإنسان من العيش فيها، قال تعالى: {وَٱلْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ}، وقال : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّـهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ}، وقال: {وَهُوَ الَّذي مَدَّ الأَرضَ وَجَعَلَ فيها رَواسِيَ وَأَنهارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فيها زَوجَينِ اثنَينِ يُغشِي اللَّيلَ النَّهارَ إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَومٍ يَتَفَكَّرونَ}، وقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّـهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.

والواضح أن هدف هذه الآيات هو هداية الإنسان من خلال الوقوف على عظمة الله وقدرته، وهذا ما صرّح به القرآن في قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}، وبالتالي ليس هدف القرآن إخبارنا مثلاً عن طبيعة التربة أو المواد المكوّنة للأرض، وليس من أهدافه إخبارنا بحجم الأرض ووزنها وكتلتها، فإنّ كلّ ذلك يمكن أن يصل إليه الإنسان من خلال البحث العلميّ كما هو واقع الحال.

وإذا اتّضحت هذه المقدمة يمكننا الإجابة على السؤال بشكل مباشر بالقول:

لا يوجد في القرآن نصّ صريح بكرويّة الأرض أو عدم كرويّتها، وكلّ ما هو مبحوث في هذا الشأن لا يعدو كونه اجتهادات، فمن يميل إلى كون الأرض مسطّحة تجده يستدلّ مثلاً بقوله تعالى: {..وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}، وفي المقابل تجد مَن يميل إلى كرويّة الأرض يستدلّ على ذلك بقوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ}، أو يستدلّ بالآيات التي تتحدّث عن تعدّد مشارق الشمس ومغاربها مثل قوله تعالى: {وَأَورَثنَا القَومَ الَّذِينَ كَانُوا يُستَضعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرضِ وَمَغَارِبَهَا}، وقوله: {فَلَا أُقسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ وَالمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ}، فلو كانت الأرض مسطّحة لَمَا تعدّدت مشارق الشمس ومغاربها.

ونحن هنا لسنا في مقام تصحيح أو تخطئة هذه الاجتهادات، كما لا نمنع من وجود آيات في القرآن قد يستفاد منها كرويّة الأرض، إلّا أنّ ذلك يجب أن يفهم في إطار الهداية، وليس في إطار إثبات الحقائق العلميّة، فليس من أهداف القرآن أن يبيّن لنا إنْ كانت الأرض كرويّة أم لا، وإلّا لَمَا توقّف عند كرويّة الأرض، ولأمتدّ الأمر ليشمل جميع الحقائق في عالم الطبيعة والكون.