إذا كانت نعمةً واحدةً، لماذا لا تُحصى؟

السؤال: جاء في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [النحل:18]، فكيف هي نعمةٌ واحدة والله تعالى يقول: لا تحصوها؟

: الشيخ نهاد الفياض

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

تقرّر في محلِّه أنَّ من أمثلة صيغ العموم المعرَّف بالإضافة سواء كان مفرداً أم جمعاً، (فمثال المفرد المعرَّف بالإضافة: قول الله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة:٢٣١]. فـ(نعمة) اسم مفرد مضاف يفيد العموم، فيكون المعنى: نِعَمُ الله لا يُمكن أنْ تعدَّ ولا تحصى، ومثال الجمع المعرَّف بالإضافة: قول الله تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ﴾[الأعراف:٦٩]، فـ (آلاء) جمع مضاف لله جلَّ وعلا، فتعمُّ كلَّ آلاء الله جلَّ وعلا) [يُنظر: تيسير أصول الفقه للمبتدئين ص100]. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ في مورد السؤال.

قال الشيخ محمَّد الأمين الشنقيطيّ في كلامٍ له، هذا نصُّه: (في هذه الآية الكريمة دليلٌ على أنَّ المفرد ‌إذا ‌كان ‌اسم ‌جنس وأضيف إلى معرفة، أنه يعم، كما تقرر في الأصول، لأنَّ ﴿نِعْمَةَ اللهِ﴾ مفرد أضيف إلى معرفة فعمَّ النعم. وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود عاطِفاً على صيغ العموم: أو بإضافةٍ إلى معرَّف إذا تحقق الخصوص قد نفي) [أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ج2 ص362].

هذا، وقد صرَّح جمع من المفسرين بأنَّ لفظة (نعمةِ الله) في الآية عامٌ يشمل كلَّ النعم التي أنعم الله بها علينا، ولذلك فلا نستطيع إحصاءَها.

1ـ قال الشيخ الطبرسيّ (طاب ثراه) - في تفسير قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة:40] - ما هذا لفظه: (ذكر النعمة بلفظ الواحد، والمراد بها الجنس) [مجمع البيان ج1 ص183].

وقال - في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ -: (أي: لا تقدروا على إحصائها لكثرتها، والنعمة هنا: اسمٌ أقيم مقام المصدر، ولذلك لم يجمع، فبين سبحانه أنَّه هو المنعم على الحقيقة، وأنَّه المستحق للعبادة) [مجمع البيان ج ٦ ص ٨١].

2ـ وقال القرطبي - في تفسير قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة:40] - ما هذا لفظه: (والنعمة هنا اسم جنس فهي مفردة بمعنى الجمع، قال الله تعالى:﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا﴾، أي نعمه) [الجامع لأحكام القرآن ج1 ص330].

3ـ وقال محمَّد سيد طنطاوي - في تفسير قوله تعالى:﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[النحل18] - ما نصُّه: (والمراد بالنعمة هنا جنسها، الذي يشمل كلَّ نعمة، لأنَّ لفظ العدد والإحصاء قرينة على ذلك، وعلماء البيان يعدُّون استعمال المفرد في معنى الجمع اعتماداً على القرينة من أبلغ الأساليب الكلامية. أي: وإنْ تعدُّوا نعمة الله تعالى التي أنعمها عليكم، في أنفسكم، وفيما سخره لكم لا تستطيعون حصر هذه النعم، لكثرتها ولتنوعها، وما دام الأمر كذلك فاشكروه عليها ما استطعتم، وأخلصوا له العبادة والطاعة) [التفسير الوسيط ج8 ص124].

4ـ وقال ابن عاشور: (جملة وإنْ تعدُّوا نعمة الله لا تحصوها عطف على جملة أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون. وهي ‌كالتكملة ‌لها، ‌لأنَّها ‌نتيجة ‌لما ‌تضمنته ‌تلك الأدلَّة من الامتنان، كما تقدَّم. وهي بمنزلة التذييل للإمتنان، لأنَّ فيها عموماً يشمل النعم المذكورة وغيرها. وهذا كلام جامع للتنبيه على وفرة نعم الله تعالى على الناس، بحيث لا يستطيع عدّها العادُّون، وإذا كانت كذلك فقد حصل التنبيه إلى كثرتها بمعرفة أصولها وما يحويها من العوالم، وفي هذا إيماء إلى الاستكثار من الشكر على مجمل النعم، وتعريض بفظاعة كفر من كفروا بهذا المنعم، وتغليظ التهديد لهم، وتقدَّم نظيرها في سورة إبراهيم) [تفسير التحرير والتنوير ج14 ص123].

والنتيجة من كلِّ ما مضى، أنَّ كلمة (نعمة) الواردة في الآية المباركة وإنْ كانت بصيغة المفرد إلَّا أنَّها دالَّة على العموم والكثرة، أي: أنَّ كثرة النعم التي أنعمها الله تعالى على الإنسان ـ سواء ما كان منها لنفس الإنسان أم التي سخَّرها له ـ قد بلغت حدَّاً كبيراً، بحيث لا يُمكن له عدُّها وإحصاؤها.. والحمد لله ربِّ العالمين.