لماذا يتعرّض الإنسان إلى الابتلاء في هذه الحياة؟
السؤال: إذا كان الله غنيّاً عن عباده ولا يحتاج إلى أعمالهم، فلماذا يبتلي الإنسان بالسرّاء والضرّاء بدلاً من أن يجعله في نعيم دائم؟ أليس من الممكن أن يمتحن الله البشر من غير أن يعرّضه إلى أنواع من العذاب والألم؟
الإجابة:
أوّلاً: الله سبحانه غنيٌّ عن عباده وأعمالهم، وهذا ما أكّده القرآن الكريم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}. وكون الله غنياً لا يتعارض مع وجود حِكمة في خلق الإنسان وإخضاعه للابتلاء. فالغاية من الابتلاء لا تعود إلى الله، بل إلى الإنسان الذي يحتاج إلى هذه التجارب ليكتشف قدراته ويحقّق الغاية من وجوده، وهي السعي نحو الكمال الروحيّ والتقرّب من الله.
ثانياً: الإنسان كائن مختار، وهذا الاختيار هو أساس التكليف والمسؤوليّة، والابتلاء هو الميدان الذي تُمارس فيه هذه الإرادة، حيث يواجه الإنسان مواقف تتطلّب منه اتّخاذ قرارات تحدّد مصيره الإنسانيّ روحيّاً وأخلاقيّاً، ولو عاش الإنسان في نعيم دائم دون أيّ تحدّيات أو آلام، لفقدت حياته المعنى، ولأصبحت أشبه بوجود ميكانيكيّ لا حِكمة منها ولا غاية وراءها. قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}، وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى}.
ثالثاً: الألم في منظور الإسلام ليس شرّاً مطلقاً، بل هو وسيلة لصقل النفس وتهذيبها. تماماً كما يحتاج الجسم إلى التمارين الشاقّة لتقويته، كذلك تحتاج الروح إلى الابتلاء لتسمو. فالابتلاء بالسرّاء والضرّاء يتيح للإنسان فرصة للتزكية الروحيّة والتدرّب على الصبر والشكر. قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}.
ومن كلّ ذلك يتّضح أن الابتلاء ليس مجرّد امتحان أو عقاب عابر؛ وإنّما هو أداة إلهيّة لتحقيق غايات سامية تتعلّق بالتكامل الروحيّ والنفسيّ للإنسان، فالله خلق الإنسان ليحمل أمانة عظيمة تتجاوز الأطر المادّية، وهي السعي بإرادته واختياره للقرب من الله والتخلّق بأخلاقه، ويتحقّق كلّ ذلك من خلال تجاربه الذاتيّة وبحسب ما تمليه الحياة من ظروف وتفاعلات، وقد أوضح القرآن هذه الحقيقة في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}.
فالابتلاء في حياة الإنسان يمثّل منظومة متكاملة تجمع بين كشف جوهر النفس البشريّة، ودفعها نحو التكامل النفسيّ والروحيّ، وتجلي الحكمة الإلهيّة في تسيير حياة الإنسان. فهو ليس مجرّد حدث عابر، بل وسيلة إلهيّة لتوجيه الإنسان نحو تحقيق الغايات العليا.
وعليه فإنّ الابتلاء وحده هو الذي يظهر خفايا النفس البشريّة، بين من يعيش الصدق في داخله وبين من يعيش النفاق، وبين من يجعل إرادته متوافقة مع إرادة الله، وبين من يكون تابعاً لهواه وشهواته، قال تعالى: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}، وفي هذا التمايز يتحقّق الغرض الإلهيّ، حيث يُظهر الابتلاء حقيقة كلّ فرد في ميدان الحياة، كما يربّي النفس على الصبر، ويقوّي الإيمان، ويزرع التوكّل على الله، ويوقظ القلب بالتفكّر في حقيقة الدنيا وزوالها. قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}. فالابتلاء ليس مجرّد اختبار، بل هو مدرسة تربويّة تهذّب النفس وتغرس فيها القيم العليا وتؤهّلها للسير في طريق الله بثبات.
وفي سياق هذا النظام المتقلّب للحياة، يظهر الابتلاء كدليل على الحكمة الإلهيّة في خلق التوازن بين الخير والشر، والسرّاء والضرّاء. هذه الحكمة تتجلّى في الخيارات التي يُمنحها الإنسان ليصبر أو يجزع، ويشكر أو يكفر، فيكون بذلك الابتلاء فرصة ليصنع الإنسان ذاته. قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}، وهو ممّا يوضّح أنّ الابتلاء ليس عائقاً، بل طريقاً نحو التحرّر من القيود الدنيويّة والسير نحو القرب الإلهيّ. ومن فهم هذه الحقيقة، أدرك أنّ البلاء نعمة يحمل في طيّاته فرصاً للنمو والتكامل. والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق