ما الحكمة من إخفاء قبر السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام؟
السؤال: كيف يمكن تفسير إخفاء قبر السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، أليس من الأفضل أن يكون قبرها معروفاً، بدلاً من أن يبقى مجهولاً؟
الإجابة:
أولاً: إخفاء قبر السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) يحمل في طيّاته حكمة إلهيّة عميقة تجعله سبباً دائماً لإثارة التساؤلات والتأمّل في مظلوميّتها. فهذا الغموض يُبقي قضيّتها حيّة في وجدان الأمّة، ويدفع المسلمين على مرّ العصور إلى البحث عن الأسباب التي أدّت إلى إخفاء مثواها، وهو ما يجعلهم يتعمّقون في دراسة الظلم الذي تعرّضت له، والأحداث التي أحاطت بحياتها وشهادتها، مثل كسر ضلعها، واغتصاب حقّها في فدك، وتجاهل وصايا النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بشأنها. إنّ هذا الإبهام يُذكّر الأمّة بالقيم التي دافعت عنها الزهراء (عليها السلام)، من العدل والحقّ ورفض الظلم، ويخلق ارتباطاً روحيّاً وفكريّاً عميقاً بشخصها الكريم، حيث لا يُنظر إليها على أنّها مجرّد شخصيّة تاريخيّة، بل رمز حيّ للحقّ والصمود. كما أنّ هذا الإخفاء يدفع المؤمنين للعودة إلى النصوص الشرعيّة لفهم الأحداث التي أحاطت بها، مثل خطبتها الفدكيّة التي كشفت فيها عن مظلوميّتها واحتجاجها على الظلم، فيظلّ ذكرها مرتبطاً بالشهادة والحقّ. كذلك، فإنّ الغموض حول قبرها يسهم في توحيد محبّي أهل البيت (عليهم السلام) حول قضايا العدالة والبراءة من الظالمين، ويعزّز من حضورها كمصدر للإلهام الروحيّ والفكريّ في مواجهة الظلم والفساد. وبهذا يتحوّل إخفاء قبر الزهراء (عليها السلام) إلى رسالة خالدة تجعل ذكرها حيّاً في القلوب، وتجعل قضيّتها قضيّة الأمّة بأسرها.
ثانياً: إخفاء قبر السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هو موقف يعكس قوّة احتجاجها الصامت على الظلم الذي عانت منه، ليبقى شاهداً خالداً على انحراف الحقّ ومظلوميّة أهل البيت (عليهم السلام). بهذا القرار، لم يكن الهدف فقط إعلان الظلم الذي وقع عليها، بل أيضاً التأكيد على عدم منح أيّ شرعيّة لمن انتهك حقوقها ووصايا النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بشأنها. إنّ اختيارها أن يظلّ مثواها الأخير مجهولاً حمل رسالة واضحة عبر الزمن، بأنّ من ظلمها وتعدّى عليها يجب أن لا يحترم، فمن خلال كلمتها الشهيرة -«لا أكلّمكما من رأسي كلمة واحدة أبداً حتّى ألقى أبي وأشكوكما إليه وأشكو صنيعكما وفعالكما وما ارتكبتما مني» (علل الشرائع ج 1 ص 187) - تؤكّد السيّدة الزهراء (عليها السلام) أنّ احتجاجها لم يكن انفعالاً لحظيّاً، بل موقفاً مدروساً يعكس عمق التباين بين الإسلام الذي على رأسه الخلفاء وبين الإسلام الذي على رأسه أهل البيت (ع).
ثالثاً: في ظلّ التوتّرات السياسيّة والدينيّة التي اجتاحت الأمّة بعد وفاة النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، كان إخفاء قبر السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بمنزلة خطوة استراتيجيّة تهدف إلى حماية مكانتها من الاستغلال أو الانتهاك. فقد كانت الزهراء (عليها السلام) رمزاً للحقّ الذي ناضل ضدّ الظلم، وصوتاً قويّاً مدافعاً عن وصيّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وخطّ الإمامة. وبذلك كان من المحتمل أن يصبح قبرها هدفاً للأيدي العابثة، سواء من الحكام الذين سعى بعضهم لترسيخ سلطتهم عبر ظلمها، أم من المنافقين الذين حاولوا تهميش مظلوميّتها وطمس ذكراها. ولا تزال هذه المساعي مستمرّة حتّى يومنا هذا، من خلال محاولة رسم صورة مثاليّة لعلاقتها مع الخلفاء. في هذا السياق، كان إخفاء قبرها ومنع الخلفاء من تشييع جنازتها ضربةً لتلك المحاولات، ليبقى اسمها ومكانتها في ذاكرة الأمّة بعيداً عن التلاعب والتزوير.
رابعاً: إخفاء قبر السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) يحمل في ذاته رسالة تربويّة وروحيّة تدعو الأمّة إلى العودة لجوهر وصيّة النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) بها، تلك الوصيّة التي تجلّت في قوله: «فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني» (البخاريّ رقم الحديث 3556). هذا الإخفاء ليس مجرّد حدث تاريخيّ، بل تذكير دائم بأنّ مقام السيّدة الزهراء (عليها السلام) مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمقام والدها، خاتم النبيّين (صلّى الله عليه وآله). وكأنّ غياب قبرها عن الأنظار هو احتجاج صامت يصرخ في وجه الأمّة: إنّ من أساء إليها أو ظلمها فقد أساء إلى النبيّ نفسه (ص)، لأنّ الإساءة إلى البضعة الطاهرة هي تعدٍّ مباشر على وصايا النبوّة.
هذا التلازم بين مقام الزهراء ومقام النبيّ يجعل من إخفاء قبرها دعوة مفتوحة لإعادة قراءة النصوص النبويّة التي تحدّثت عن مكانتها وحقّها، تلك النصوص التي حذّرت من مغبّة ظلمها أو التعدّي عليها. فمن خلال هذا الإخفاء، تُعاد إحياء القيم التي حملتها تلك الوصايا، إذْ إنّها لم تكن مجرّد كلمات عابرة، بل توجيهات تهدف لحماية مقامها وحقوقها من أيّ انتهاك أو تجاهل.
إخفاء قبرها يُبرز حجم الجفاء الذي تعرّضت له، ويُظهر أنّ أمّةً تجاهلت وصيّة نبيّها بشأنها تحتاج إلى مراجعة نفسها وتاريخها، لفهم المغزى الحقيقيّ لهذا الإخفاء. كما أنّ في ذلك تذكيراً دائماً بأنّ مقام الزهراء (عليها السلام) ليس مجرّد مقام اجتماعيّ أو عائليّ، بل هو مقام روحيّ وشرعيّ يفرض على الأمّة الاعتراف بحقوقها وإجلال مكانتها، تماماً كما أمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله).
خامساً: بدلاً من أن يرتبط ذكر السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بمكان جغرافيّ معيّن، فإنّ جعل قبرها مجهولاً يحمل في طيّاته معنىً أعمق وأكثر شمولاً. فإخفاء قبرها لا يقتصر على الحفاظ على طهر مثواها، بل يوسّع نطاق رسالتها لتشمل كلّ مكان وزمان. فهي لم تعد مجرّد شخصيّة تاريخيّة مدفونة في بقعة معيّنة، بل أصبحت قضيّة الأمّة الإسلاميّة بأسرها، وقلبها النابض الذي ينبض بالعدالة والحقّ.
إنّه من خلال إخفاء مكان قبرها، تتجاوز الزهراء (عليها السلام) حدود المكان المادّي لتصبح رمزاً حيّاً للقيم والمبادئ التي يجب أن تتبنّاها الأمّة في كلّ زمان ومكان. قضيّتها ليست مرتبطة بموقع جغرافيّ، بل هي قضيّة مستمرّة، تتجدّد مع كلّ جيل، ويجب أن تظلّ حاضرة في الذاكرة الجمعيّة للمسلمين.
في الختام، فإنّ إخفاء قبر السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ليس مجرّد حدث تاريخيّ عابر، بل هو رسالة خالدة تُنير دروب الأجيال وتبقى شاهدة على مواقف الحقّ والعدالة التي دافعت عنها طوال حياتها. فقد كانت الزهراء (عليها السلام) رمزاً للمقاومة ضدّ الظلم، ولم تساوم أبداً على مبادئها رغم ما تعرّضت له من قسوة وألم. إخفاء قبرها كان تذكيراً دائماً بأنّ المظلوم لا يرضى أن يُطمس الحقّ، وأنّ تاريخ الأمّة لا ينبغي أن يزيّف، بل يجب أن يظلّ حيّاً بالعدالة والنضال من أجل الحقّ. إنّ هذا الغموض حول مكان قبرها يعكس عظمة مكانتها، ويجعل قضيّتها تمتدّ عبر الزمان والمكان، راسخة في قلوب المؤمنين كمصدر إلهام لا ينضب. تظلّ الزهراء (عليها السلام) نبراساً يُضيء طريق العدالة، ويُذكّر الجميع بأنّ الحقّ لا يُخفى أبداً مهما حاول الظالمون طمسه. والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق