الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً !!

السؤال: هناك حديث روي عن إمام جعفر الصادق يقول فيه أن الأنبياء يتوارثون بالعلم لا بالأموال، هل هذا الحديث صحيح؟ إذا نعم الا يتناقض مع القرآن، أو بعض الأحاديث يقول العكس؟

: - اللجنة العلمية

الجواب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لقد دلّت الأدلّة القرآنيّة والحديثيّة على أنّ الأنبياء كغيرهم يورّثون المال، كقوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَٰنُ دَاوُۥدَ}، وقوله: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}.

وقد وُضع على لسان النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله): « نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة »؛ لغرض منع ابنته الصدّيقة الكبرى (عليها السلام) من أرض فدك، وهذا الحديث مكذوب مصنوع، وقد بحث ذلك العلماء قديماً وحديثاً، وذكرنا بخصوصه بعض الأجوبة.

وأمّا حديث: « العلماء ورثة الأنبياء، وذلك أنّهم لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، ولكن ورثوا العلم »، فلا يخفى على عارفٍ باللغة العربيّة أنّه ينسجم تمام الانسجام مع الأدلّة الدالّة على أنّ الأنبياء يورّثون المال، وأنّه يخالف الحديث المجعول: « نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة »، كما سيأتي. ويقع الكلام في مقامين:

المقام الأول: لفظ الحديث ومصدره:

ورد هذا الحديث في مصادر الإماميّة عن عبد الله بن ميمون القدّاح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): « مَن سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنّة، وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به، وإنّه يستغفر لطالب العلم مَن في السماء ومَن في الأرض حتّى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإنّ العلماء ورثة الأنبياء، إنّ الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورّثوا العلم، فمَن أخذ منه أخذ بحظّ وافر » [بصائر الدرجات ص23، الكافي ج1 ص34، ثواب الأعمال ص131، الأمالي ص116].

ومن طريق أبي البختريّ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: « إن العلماء ورثة الأنبياء وذاك أن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظاً وافراً، فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه، فإنّ فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين » [بصائر الدرجات ص30، الكافي ج1 ص32].

وفي وصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه محمّد ابن الحنفيّة: « وتفقه في الدين فإن الفقهاء ورثة الأنبياء، إنّ الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكنهم ورثوا العلم، فمَن أخذ منه أخذ بحظ وافر » [من لا يحضره الفقيه ج4 ص387].

وورد عند المخالفين بطريق مضطرب للغاية عن أبي الدرداء، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: « مَن سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنّة، وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإنّه ليستغفر للعالم مَن في السماوات والأرض، حتّى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إنّ العلماء هم ورثة الأنبياء، لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمَن أخذه اخذ بحظ وافر » [مسند أحمد ج5 ص196، سنن ابن ماجه ج1 ص81، سنن أبي داود ج2 ص175، سنن الترمذي ج4 ص153، عمدة القاري ج2 ص39ـ40].

المقام الثاني: دلالة الحديث:

ذكر العلماء معانٍ عديدة لهذا الحديث، لا تدلّ على نفي إرث المال عن الأنبياء، نذكر جملةً منها في المقام:

المعنى الأول: النفي لبيان نفي الشأن:

المراد من « الأنبياء لم يورّثوا درهماً ولا ديناراً » أنّ الأنبياء لم يكن من شأنهم وعاداتهم جمع الأموال وادّخار القناطير المقنطرة من الذهب والفضّة كما هو شأن أبناء الدنيا، فالأنبياء لم يقصدوا إلى توريث الدراهم والدنانير لأولادهم وأهل ميراثهم مثل غيرهم من الناس الذين يقصدون إلى جمع الأموال وتبقيتها بعدهم لمَن يرثهم، بل شأن الأنبياء هو الاعتناء بالعلم والمعرفة وتوريثها. ولا يخفى أنّ هذا لا ينفي أن يرث وارثهم الجسمانيّ ما يبقى بعدهم من الأموال الدنيوية؛ من دارٍ أو عقارٍ أو فرسٍ أو سلاحٍ ونحو ذلك.

ذكر هذا المعنى جملة من علمائنا الأبرار:

قال العلامة المجلسيّ: (قوله - عليه السلام –: « العلماء ورثة الأنبياء »، أي: يرثون منهم العلوم والمعارف والحكم؛ إذ هذه عمدة ما يتمتّعون به في دنياهم، ولذا علّله بقوله: « إنّ الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً »، أي: لم يكن عمدة ما يحصلون في دنياهم وينتفع الناس به منهم في حياتهم وبعد وفاتهم الدينار والدرهم، ولا ينافي أن يرث وارثهم الجسمانيّ منهم ما يبقى بعدهم من الأموال الدنيويّة) [مرآة العقول ج1 ص103]. وقال أيضاً: (قوله – عليه السلام –: « لم يورثوا ديناراً ولا درهماً »، أي: كان معظم ميراثهم العلم) [بحار الأنوار ج1 ص165].

وقال الملّا رفيع الجيلانيّ: (المراد أنّهم ليسوا كأهل الدنيا يدّخرون القناطير المقنطرة من الذهب والفضّة، لا أنّهم لا يورّثون شيئاً أصلًا ولو كان داراً أو عقاراً أو فرساً أو سلاحاً أو نحو ذلك، كما لا يخفى على من له بصيرة) [الذريعة إلى حافظ الشريعة ج1 ص244].

وقال المولى المازندرانيّ: (إنّ المراد أنّ الأنبياء لم يكن من شأنهم وعاداتهم جمع الأموال والأسباب كما هو شأن أبناء الدنيا، وهذا لا ينافي إيراثهم ما كان في أيديهم من الضروريات كالمساكن والمركوب والملبوس ونحوها) [شرح أصول الكافي ج2 ص26].

وقال السيّد نعمة الله الجزائريّ: (إنّهم لم يقصدوا إلى توريث الدراهم والدنانير لأولادهم وأهل ميراثهم مثل غيرهم من الناس، فإنهم يقصدون إلى جمع الأموال وتبقيتها بعدهم لأهل ميراثهم، أمّا إذا بقي من الأنبياء شيء من الميراث اتّفاقاً فلا بأس به ولا ينافي الحديث) [الأنوار النعمانية ج1 ص73].

وقال الشيخ أحمد آل طعان: (ومعنى أنّهم: « لم يورّثوا ديناراً ولا دِرْهماً » أنَّهم – عليهم السلام –... لم يجعلوا عُمدة ما يحصِّلونه في دنياهم وينتفع الناس به منهم في حياتهم وبعد وفاتهم الدينارَ والدرهمَ) [الرسائل الأحمدية ج1 ص154].

وقال السيد الطباطبائيّ: (ومعناه – على ما يسبق إلى ذهن كل سامع – أنّ الأنبياء ليس من شأنهم أن يهتمّوا بجمع المال وتركه لمَن خلفهم من الورثة، وإنّما الذي من شأنهم أن يتركوا لمَن خلفهم الحكمة، وهذا معنى سائغ واستعمال شائع لا سبيل إلى دفعه) [تفسير الميزان ج14 ص24].

وذكر هذا المعنى أيضاً بعض علماء أهل السنّة:

قال المباركفوريّ: (« لم يورثوا » بالتشديد من التوريث « ديناراً ولا درهماً » أي شيئاً من الدنيا، وخُصّا لأنّهما أغلب أنواعها، وذلك إشارة إلى زوال الدنيا، وأنّهم لم يأخذوا منها إلّا بقدر ضرورتهم، فلم يورثوا شيئاً منها لئلا يتوهّم أنّهم كانوا يطلبون شيئاً منها يورث عنهم « فمَن أخذ به » أي بالعلم « فقد أخذ بحظّ وافر » أي أخذ حظّاً وافراً، يعني نصيباً تامّاً، أي لا حظّ أوفر منه، والباء زائدة للتأكيد، أو المراد أخذه متلبّساً بحظّ وافر من ميراث النبوة) [تحفة الأحوذي ج7 ص376].

قال المناويّ: ( « العلم ميراثي وميراث الأنبياء قبلي »: يعني أنّ جميع الأنبياء لم يورثوا شيئاً من الدنيا؛ لعدم صرفهم همّهم إلى اكتسابها، وإعراضهم عن الجمع والادّخار، واشتغالهم بما يوصل إلى دار القرار، لكن لا ينتقل الشيء إلى الوارث إلّا بالصفة التي كان عليها عند المورث كما سبق) [فيض القدير ج4 ص514].

المعنى الثاني: المال ليس إرث النبوة:

إنّ ميراث الأنبياء قسمان – لأنّ لهم جنبتين: وحيانيّة معنويّة وإنسانيّة ظاهريّة –: الأول ميراثهم من حيث النبوّة، والميراث من هذه الحيثيّة ليس المال، بل العلم والمعرفة، ولهذا كان « العلماء ورثة الأنبياء » فإنّ العلماء ورثوا علم الأنبياء، وهذه وراثة معنويّة. والثاني: ميراثهم من حيث الإنسانيّة، والميراث من هذه الحيثيّة هو المال، وهذه وراثة ماديّة. ولا يخفى أنه يمكن أن يجتمعا فيكون وارثاً للمال والعلم فيما لو كان الوارث الجسمانيّ عالماً.

ولا يخفى أنّ الحديث ناظر للقسم الأوّل من الوراثة – أعني الوراثة المعنويّة من حيثيّة النبوّة –؛ لأنّ قوله: « العلماء ورثة الأنبياء » حيث تعلّق التوريث بالأنبياء مع اتّصافهم بالنبوّة، وتعليق الحكم على الوصف مشعرٌ بالعليّة، أي علّة وراثة العلماء لهم هو النبوّة.

ومن الواضح أنّ كون الحديث ناظراً للقسم الأوّل ليس له أدنى دلالة على نفي توريث المال في القسم الثاني، أعني الوراثة الماديّة بالنسب والسبب، فإنّ الحديث ليس في مقام البيان من هذه الجهة ليكون نافياً لتوريث الأنبياء للمال، بل في مقام بيان نفي توريث الأنبياء للدينار والدرهم من جهة التوريث المعنويّ لا الماديّ.

وقد ذكر هذا المعنى جماعة من أكابر العلماء، نذكر بعض كلماتهم:

قال الشيخ محمّد العامليّ: (المراد نفي التوريث من حيث النبوّة، وأمّا من حيث غيرها فالميراث منهم، ويدلّ عليه إرث العلماء منهم، فإنّه إنّما يتعلّق من حيث النبوّة؛ حيث إنّ العلماء ورثة الأنبياء في هذا الخبر، فلمّا ذكر – عليه السلام – ذلك أراد نفي إرادة توريث المال، بل العلم) [ينظر الدر المنظوم ص227، الدر المنثور ج2 ص500].

وقال العلّامة المجلسيّ: (وارثهم من حيث النبوّة المختصة بهم العلماء فلا ينافي ذلك كون وارثهم من جهة الأنساب الجسمانية يرث أموالهم الظاهرة، فأهل البيت –عليهم السلام – ورثوا النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – من الجهتين معاً) [مرآة العقول ج1 ص104].

وقال الملا خليل القزويني: (« الأنبياء لم يورثوا ».. المفعول الأوّل محذوف، أي لم يورثوا أمّتهم ومَن يأتي بعدهم « درهماً ولا ديناراً » أي ليسا ميراث النبوّة، ولا ينافي إيراثهم الورثة المعيّنين المال؛ لأنّه ليس من حيث النبوّة، ولو أريد نفي إيراثهما مطلقاً لكان ظاهر الكذب؛ إذ ليس معنى الإيراث لغةً وشرعاً إلّا إبقاء شيء إلى بعد الموت، سواء استحقّه الورثة المعيّنون شرعاً في العمومات القرآنيّة أم كان صدقة) [الشافي في شرح الكافي ج1 ص297].

وقال المولى المازندرانيّ: (المراد أنّ الأنبياء من حيث إنّهم أنبياء لم يورّثوا ذلك، يعني أنّ إيراث النبوّة ومقتضاها ليس ذلك) [شرح أصول الكافي ج2 ص26].

قال السيّد نعمة الله الجزائريّ: (إنّ الأنبياء من حيث النبوّة لم يورّثوا إلّا العلم، أمّا من حيث الإنسانيّة والبشريّة فيجوز أن يخلفوا أشياء من الأموال، ومن هنا قال بعض المحقّقين: العلماء أولاد روحانيّون للأنبياء؛ لأنّهم يقتبسون العلوم من مشكاة أنوارهم، ويرثون ملكات أرواحهم، كما أنّ الأولاد الحقيقيّة والأقارب الصوريّة يرثون الأموال، بل النسبة الأولى آكد من الثانية، ولذلك كان حقّ المعلّم الربانيّ على المتعلّم أولى من حقّ أبيه الجسمانيّ عليه، والحاصل: أنّه من باب تعليق الحكم على الوصف المشعر بالعليّة) [الأنوار النعمانية ج1 ص73-74].

وقال العلّامة محمد هادي الشيرازيّ: (قوله – عليه السلام –: « إنّ العلماء ورثة الأنبياء » المراد بالعلماء الذين اقتبسوا أنوار العلوم من مشكاة النبوّة، يعنى لا ورثة للأنبياء من حيث النبوّة إلّا العلماء بقرينة قوله: « وذاك أنّ الأنبياء لم يُورِثوا – إلى قوله – فمَن أخذ »، وحاصله: أنّه ليس ميراث النبوّة المال نحو الدرهم والدينار، بل العمدةُ في ميراث الأنبياء – وهو ميراثهم من حيث النبوّة – العلم، وذلك لا ينافي إيراثهم المال؛ لأنّه ليس العمدةَ، ولا من حيث النبوّة) [الكشف الوافي ص123].

وقال الشيخ أحمد آل طعان: (ويحتمل أنْ يقال: إنَّ وارثهم من حيث النبوّة الروحانيّة المختصّة بهم العلماءُ؛ لأنّ المتعلّم ابنٌ روحانيّ لمعلِّمه، ولهذا قيل: مَنْ عَلَّمَ العِلْمَ كان خيرَ أبٍ * ذاك أبو الروح لا أبو الجسد. وحينئذ، فلا ينافي إرث وارثهم الجسمانيّ أموالهم الظاهرة) [الرسائل الأحمدية ج1 ص154-155].

المعنى الثالث: النفي لدفع توهّم وراثة العلماء للمال:

لمّا أراد النبيّ (صلى الله عليه وآله) بيان الوراثة المعنويّة للعلماء بقوله: « العلماء ورثة الأنبياء »، وهذا الكلام قد يُتوهَّم منه أنّ العلماء يرثون مالَ الأنبياء ومالهم، أي أنّهم ورثتهم ظاهراً وباطناً، فإنّه دفع هذا التوهّم بحصر التوريث في العلم ونفي توريث المال عنهم.

وجميع صياغات الحديث تدلّ على ذلك، ففي الحديث الأوّل والثالث والرابع: « إنّ الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورّثوا العلم »، وفي الثاني: « وذاك أنّ الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم ».

ذكر هذا المعنى بعض أكابر العلماء:

قال الشيخ عليّ العامليّ: (هذا الحديث يدلّ على خلاف ما ادّعى من معنى قوله – صلى الله عليه وآله –: « نحن معاشر الأنبياء لا نورث »؛ وذلك لأنّه لمّا قال : « إنّ العلماء ورثة الأنبياء » ربّما توهّم من هذا الكلام أنّ الأنبياء لا يورثون صاحب الميراث الماليّ، فاستأنف – عليه السلام – ذلك وعلّله بقوله : « وذاك أنّ الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً »، ومعناه أنّ الوارث هنا إنّما يرث وإنْ كان أجنبيّاً من حيث النسب؛ لأنّ الأنبياء لم يتركوا الوارث المال شيئاً ممّا ذكر يصل إليه بالميراث النسبيّ ونحوه حتّى يكون مختصّاً بهم، بل ورّثوا أحاديث من أحاديثهم، وذلك لا يختصّ به الوارث للمال. وحمل التوريث على ما ذُكر هو الذي يقتضيه المقام وسياق الكلام) [الدر المنظوم ص227، الدر المنثور ج2 ص499-500].

وقال العلامة المجلسيّ – بعض ذكر بعض المعاني –: (ويخطر بالبال وجه آخر: وهو أن يكون المراد بقوله – عليه السلام –: « أن الأنبياء لم يورثوا » بيان الموروث فيه، لأنّه – عليه السلام – لمّا قال: « إنّ العلماء ورثة الأنبياء » فكأنّ سائلاً يسأل: أيّ شيء أورثوا لهم؟ فأجاب: بأنّه لم يورثوا لهم الدرهم والدينار، ولكن أورثوا لهم الأحاديث، ولذا قال: « أحاديث من أحاديثهم »؛ لأنّ جميع علومهم لم يصل إلى جميع العلماء، بل كلّ عالم أخذ منها بحسب قابليّته واستعداده، ففي الكلام تقدير: أي لم يورثوا لهم، فيشعر بأنّ لهم ورثة يرثون أموالهم، ولكن العلماء من حيث العلم لا يرثون إلّا أحاديثهم، وهذا وجه وجيه وإن كان قريبا مما مرّ) [مرآة العقول ج1 ص104].

المعنى الرابع: عدم التوريث لعدم وجود دينار يُورَث:

يحتمل أن المراد من قوله: « لم يورثوا ديناراً ولا درهماً » أي لم يُبقوا بعدهم جنس الدينار والدرهم ليكون موروثاً، بمعنى أنّ الأنبياء لم يكنزوا الدرهم والدينار حتّى يبقى بعدهم إلى ورثتهم، بل يصرفون ما يصل إلى أيديهم بما يسدّ احتياجاتهم، فالمال عندهم وسيلة لقضاء الحوائج الدنيوية والأخروية، وليست غاية حتى تكتنز، فالأنبياء ليسوا من الذين يكنزون الذهب والفضة بحيث يبقى بعد موتهم ويصل إلى ورثتهم. ومن الواضح أنّ هذا لا ينافي ان يتركوا عقاراً أو داراً أو دابّة أو سلاحاً أو طعاماً أو غير ذلك من الأموال.

ذكر هذا المعنى بعض العلماء:

قال السيّد نعمة الله الجزائريّ: (إنّهم لم يخلفوا جنس الدرهم والدينار الذي يخلفه أهل الثروات، أمّا غيرهما من الأملاك والزراعات والمنازل فلا بأس بأن يخلفوها) [الأنوار النعمانية ج1 ص74].

وقال المحقّق الخواجوئيّ: (المراد به أنّهم لم يحفظوهما، ولم يبقَ منهم شيء منهما بعد الموت، بل يصرفونهما في حياتهم في مصارفهما، لا أنّه لو بقي منهم شيء بعد الوفاة لم يكن ميراثاً، كما زعمه الجمهور) [الرسائل الاعتقادية ج1 ص556].

وقال العلّامة المجلسيّ: (ويمكن حمله على الحقيقة بأنْ لم يبقَ منهم دينار ولا درهم) [بحار الأنوار ج1 ص165]. وقال أيضاً: (على أنه يحتمل أن يكون الأنبياء عليهم السلام لم يبق منهم خصوص الدينار والدرهم بعد وفاتهم، لكن الظاهر أنه ليس المراد حقيقة هذا الكلام، بل المراد ما أومأنا إليه من أن عمدة أموالهم وما كانوا يعتنون به ويورثونه هو العلم، دون المال وذكر الدينار والدرهم على المثال) [مرآة العقول ج1 ص104].

تنبيه:

ويستحسن التنبيه في المقام على ما نبّه عليه بعض الأعلام: من أنّ الحديث النبويّ في ميراث الأنبياء هو هذا الحديث – « العلماء ورثة الأنبياء، وذلك أنّهم لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم » -، وقد تم تزويره إلى عبارة: « نحن معاشر الأنبياء لا نورث »، مع زيادة فقرة: « ما تركناه صدقة ».

قال الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ: (لم يكن حديث ميراث الأنبياء في الواقع كما صاغه وفسّره الغاصبون، وإنّما كان بشكلٍ ومعنى آخرَين، فمصادر الحديث تنقل الحديث بالشكل الآتي: « إن الأنبياء لم يُورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظٍّ وافرٍ ». وهنا نستدلّ أنّ الحديث يقصد الإرث المعنويّ الذي يورثه الأنبياء، ولا علاقة له بالإرث الماديّ، وهذا هو مصداق الحديث المرويّ عن الرسول – صلى الله عليه وآله – في أن: « العلماء ورثة الأنبياء ». خاصّة عبارة « ما تركناه صدقة » فهي حتماً لم تكن موجودةً في الحديث مطلقاً، فهل يمكن أن يتحدّث الرسول – صلى الله عليه وآله – بما يخالف صريح القرآن؟ إنّ القرآن الكريم يشهد في مواضع متعددة على توريث الأنبياء أبناءهم، وتشير آياته الشريفة بوضوح إلى أنّ ميراثهم لم يقتصر على الميراث المعنويّ فحسب، بل وشمل الجانب المادي أيضاً) [الزهراء سيدة نساء العالمين ص90].

وقال السيّد جعفر مرتضى العامليّ: (وقد أظهرت بعض النصوص أنّ ثمّة تصرّفاً متعمّداً تعرّض له هذا الحديث حتى انقلب معناه رأساً على عقب، وظهر أنّه – صلى الله عليه وآله – لم يُرِد المعنى الذي يريدون التسويق له، كما أنّ ما قاله – صلى الله عليه وآله – خال من عبارة: « ما تركناه صدقة ». بل فيه فقرة أخرى تعطي المعنى الحقيقي للكلمة، فقد ورد: أنّه – صلى الله عليه وآله – قال: «.. وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإنّ العلماء ورثة الأنبياء، إنّ الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن وَرَّثوا العلم؛ فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر » ، أي أنّه – صلى الله عليه وآله – يريد أن يبيّن أنّهم – صلوات الله وسلامه عليهم – ليسوا بصدد جمع الأموال وتكديسها، حتّى إذا ماتوا ورثها منهم مَن له حقّ الإرث، بل هم زهّاد في الدنيا، عازفون عن زخرفها، مهتمون بالعلم النافع..) [الصحيح من سيرة النبي ج18 ص248-249].

والحمد لله رب العالمين