كيف يكون الإنسان حراً وهناك مجموعة من العوامل الخارجة عن ارادته تتحكم في قراراته؟

السؤال: كما نعلم أن الانسان تؤثر عليه عدة عوامل جينية ومجتمعية واسرية ليس للإنسان اختيار فيها فكيف يمكن محاسبة الشخص على بيئة لم يكن له الخيار ليعيش فيها ويتأثر بها؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

ما هو واضحٌ بالبديهة والوجدان كونُ الإنسانِ حرّاً في قراراته ومواقفه، ولو لا ذلك لما اصبح مسؤولاً عما يختارُهُ في الحياةِ من مواقف وأفعال، والتشكيك في هذا المبدأ لا يؤدي إلى التشكيك في الشرائع والاديان فحسب، وإنما يؤدي أيضاً إلى التشكيك في كل القوانين والانظمة المعمول بها اجتماعياً وسياسياً وفي جميع شؤون الحياة، فوجود عوامل خارجة عن إرادة الإنسان تجبره على خيارات لا يمكن مخالفتها يؤدي حتماً إلى اسقاط مسؤولية الإنسان عن أي عمل يقوم به، فالإشكال الذي يثيره السائل لا يتعلق بوجود دين له شرائع وتوجيهات يحاسب الإنسان على أساسها، وإنما يتعلق بالإنسان بما هو إنسان يعيش في هذه الحياة ضمن أنظمة إجتماعية وسياسية لها قوانينها وتشريعاتها، فإذا سلمنا بتأثير تلك العوامل بالشكل الذي يصادر إرادة الإنسان فعلى أيّ أساس نحاسب المجرمين ونقيم المحاكم والسجون؟

وعليه فإنّ اختلالَ قدرة الإنسان على الاختيار تعني اختلال الحياة في الدنيا قبل اختلالها في حياة الآخرة.

ومِنْ هنا يجبُ الوقوفُ على هذه العواملِ وتحليلها بالشكل الذي لا يهمل تأثيرها على إرادة الإنسان، وفي نفس الوقت لا نتعامل معها على أنّها حتمية تصادر إرادة الإنسان وحريته.

ولفهم ذلك لابد من توضيحٍ عامّ للمؤثرات الخارجية التي تؤثر بشكل غير مباشر على خيارات الإنسان.

إنّ التباينَ الملحوظ بين شخصيات البشر هو الذي يقف خلف التباين بين خياراتهم في شتى حقول الحياة، فشخصية كل إنسانٍ لها دخل في نوع الاختيارات التي يختارها في الحياة، ومن جانب آخر نرى مجموعةً من العوامل المتداخلة هي التي تساهم في بناء شخصية الإنسان، فابتداءً من الجينات الوراثية التي تؤثر في بناء الشخصية، ومروراً بالأسرة التي يقوم فيها الوالدان بتطبيع المولود وتربيته بما يتوافق ووعيهم الثقافي، وانتهاءً بالمحيط الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والبيئية الجغرافية وغيرها، كلها عوامل تساهم في بناء شخصية الإنسان.

ومِنْ هنا نجد التمايز في طبائع الناس وشخصياتهم، فكل واحد يحمل شخصية عملت كثير من الظروف الخاصة على صياغتها وتشكيلها، وكلها- كما هو واضح- عوامل لا يساهم الإنسان في اختيارها ولا يصنعها بمحض إرادته، وهذا التمايز في الطبائع والشخصيات هو السبب المباشر للتباين في المواقف وتقييم الأفكار والأحداث، فالإنسان يبني علاقاته بالأشياء بناءً على تقييمه لها، وهذا التقييم ليس عمليةً عقليةً مجردةً، وإنما تساهم فيه شخصية الإنسان ونفسيته أيضاً.

وهكذا تختلفُ شخصية الإنسان إذا نشأ مثلاً في مجتمعات غنيّة تختلف عن شخصية الإنسان إذا نشأ في مجتمع فقير، أو الذي نشأ في مجتمع ديمقراطي تعددي، يختلف عن الذي نشأ في مجتمع مغلق ونظام دكتاتوريّ قمعيّ، وهكذا تتداخل العوامل وتتعدد لتشكل حضورها في تحديد مسارات الإنسان وخياراته، وعليه فإن تقييم الواقع والتفاعل معه، لا يرتكز في العادة على شروط موضوعية تلاحظ الواقع بما هو كائن، وإنما كيف يكون هذا الواقع بالنسبة للإنسان وكيف يراه.

واعترافنا بمدى تأثير هذه العوامل لا يعني مصادرة حرية الإنسان وإرادته، فكل هذه المؤثرات لا تعدو أنْ تكونَ مجردَ مقتضيات للفعل.

وبعبارة اخرى: لا تعدّ علةً تامةً لفعل الإنسان وسلوكه، فمثلاً الإنسانُ الذي يولد في مجتمع كافر، فإنّ وجودَهُ في ذلك المجتمع يكون بمثابة الظرف الذي يساعده على اختيار الكفر على الإيمان، إلا أن ذلك لا يكون على نحو الحتم والجبر؛ فإرادة الإنسان ما تزال فاعله وبإمكانه مخالفة المجتمع الكافر واختيار الإيمان، والأمثلة على حدوث ذلك لا تُحصى.

وكذلك الحال في تأثير الجينات الوراثية والتربية والبيئة وغير ذلك، فكلها لا تعدو أن تكونَ مقتضيات ظرفية يمكن كسرها ومخالفتها، فمثلاً في رياضة كمال الاجسام هناك تأثير كبير للجينات الوراثية للكتلة العضلية، ومع ذلك يمكن لصحاب الجينات الضعيفة التغلب على تأثير هذه الجينات وبناء كتلة عضلية عبر اختياره لنظام غذائي وقيامه بالتمارين المناسبة، وفي المقابل ليس بالضرورة ان يكتسب صاحب الجينات الجيدة كتلة عضلية لمجرد امتلاكه لهذه الجينات، ومن هنا يمكننا القول أن الجينات الوراثية لها تأثير في ما يختاره الإنسان ولكنها ليست على نحو الحتمية والعلة التامة.

فالملاحظة التي يجب التأكيد عليها هي أن كل هذه العوامل التي تتدخل في خيارات الإنسان ليست حتميةً وإنما يمتلك الإنسان دوماً الحرية في مواجهتها، فلا الاستسلامُ لهذه العوامل، ولا التنكر لها وعدم الاعتراف بها يمثلُ خياراً صحيحاً، فالاستسلام يعني الجبر ومصادرة الحرية، والتنكر لا يمنع من تأثيرها الخفي على قرارات الإنسان، وهذا خلاف بعض النظريات والفلسفات التي سوقت لها بوصفها حتميات لابد منها، مثل الحتمية التاريخية، والحتمية الاجتماعية، والحتمية المادية، والحتمية الاقتصادية، وغيرها من حتميات تتلاشى معها إرادةُ الإنسانِ في التغيير، فنحن نسلّم بتأثير كل تلك العوامل، ولكن لا نؤمن بالحتمية، فبإمكان الإنسان أن يساهم بمحض إرادته في إعادة بناءِ شخصيته.

والملاحظة الاخرى التي يجب الإشارة إليها هي أن التباين في الشخصيات وفي الظروف هو الذي يمثل فلسفة الابتلاء لكل إنسان، فالله تعالى يمتحن كلّ إنسان ويبتليه بحسب الظرف الذي هو فيه، فقد يُبتلَى إنسانٌ بشيءٍ لا يُبتلى به آخر، وما يكون صعباً بالنسبة لإنسان يكون سهلاً بالنسبة لإنسان آخر، فالحياة نظام معقد تتداخل فيه مجموعة من السنن والأسباب من الصعب الاحاطة بها تفصيلاً، ولكنها في المجمل تشكل البيئة المناسبة لكل إنسان ليختار بمحض ارادته نوع الحياة التي يريد أن يعيشها، وتبعاً لذلك يختلف أيضاً نظام المحاسبة من إنسان إلى إنسان آخر، ففي الحديث عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "إنما يداق الله العباد الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا" (شرح اصول الكافي ج1 ص 79).

وبهذا الشكل وحدَه يمكن أنْ تستمرَ الحياة وتتكامل، فلو افترضنا أنّ جميعَ هذه العوامل والظروف متساوية بين جميع البشر، وأنّ البشرَ جميعاً متساوون في شخصياتهم، فإن ذلك يؤدي حتماً إلى هدم الحياة ونهايتها، فوجود نسخة واحدة من الإنسان متكررة في جميع افراد البشر يمنع من وجود التنوع الذي يشكل الحافز الوحيد للحركة والتنافس، إذْ كيفَ يمكن أن نتخيل إمكانية استمرار الحياة الاجتماعية لو كانت العواملُ والظروف تحتم علي الجميع أن يختاروا أمراً واحداً؟ فمثلاً لو اختار جميع افراد المجتمع أن يكونوا اطباء أو مهندسين أو غير ذلك، فكيف يمكن لهذا المجتمع أن يستمر في الحياة؟