لماذا لم يكتب الرسول تفسيراً كاملاً للقرآن رفعاً للاختلاف؟
السؤال: ما هو الدليل على ان القران من عند الله؟ وهل الرسول كتبه حرفياً مثلما أنزل اليه أم نزل اليه معنىً ثم قام هو بصياغته؟ ولماذا لم يكتب الرسول كتاباً فيه تفسير القران منعاً للاختلاف فالقرآن حمّال ذو وجوه، وفي عصرنا الحالي العديد من المنظمات الارهابية تستند للقرآن لتبرير أعمالهم، ألم يكن من الأولى توضيح معانيه بكتاب لكي تغلق الأبواب أمام أيّ محرّف لمعاني القران؟
الجواب:
بالنسبة للسؤال الأول: فقد أشرنا في إجابة سابقة إلى أنّ نسبة القرآن الكريم لله تعالى موقوفٌ على نفي نسبته إلى غيره، فالأمر يدور بين أن يكون القرآن الكريم نازلاً من عند الله أو أنْ يكونَ من صنع الإنسان، وعليه ينحصرُ البحثُ في إمكانية مجاراة الإنسان للقرآن الكريم وقدرتُه على الاتيان بمثله، وقد استخدم القرآن نفس هذه الطريقة عندما تحداهم بأن يأتوا بمثل هذا القرآن، فكان التحدي هو الذي يقطعُ الريبةَ ويزيل الشكوك، فبعجزهم عن ذلك تتم النسبة ويتحقق المطلوب، قال تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). وقال: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). وقال (قل لَئِن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون) وغيرها من الآيات التي تثبت وقوع التحدي كما أثبتَ التاريخُ والواقعُ عجزَ الإنسان عن معارضة القرآن والاتيان بمثله، وسوفَ يستمرُ عجزُ البشر إلى قيام الساعة. ولمراجعة الاجابة كاملة يمكنك الرجوع إلى هذا الرابط
https://alrasd.net/arabic/contemporaryy/2118
أما السؤال الثاني: فإنّ القرآنَ الكريم نزلَ من عندِ الله لفظاً ومعنىً ولم يكن للنبي (صلى الله عليه وآله) تدخّلٌ في صياغة ألفاظه وكلماته، وقد أشار القرآن لهذه الحقيقة في العديد من آياته، مثل قوله تعالى: (وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي)، وقوله تعالى: (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)، وقوله تعالى: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)، وقوله: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)، وقوله تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)، وقوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، وقوله تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً)، وغير ذلك من الآيات التي تدل على أن القرآن نزل بلفظه وحياً من الله تعالى.
أما فيما يتعلق بالسؤال الثالث والذي يقول: إذا كان القرآنُ حمالاً ذا وجوه فلماذا لم يكتب النبي (صلى الله عليه وآله) تفسيراً للقرآن رفعاً للنزاع والاختلاف؟ ونجيب عن ذلك في عدة نقاط بشكل مختصر:
أولاً: مما لا شكّ فيه أنّ بيانَ القرآن الكريم من مَهامّ النبي (صلى الله عليه وآله) وقد نصّ على ذلك قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، وهناك الكثير من الاحاديث المرويّة عنه (صلى الله عليه وآله) وعن الائمة المعصومين من أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير آيات القرآن، والسؤال هنا هل وجود تفسير للرسول يمنع بالضرورة حصول الخلاف والنزاع؟ وهل اختلاف الأمة يعود بالأساس إلى غموض آيات القرآن وعدم وضوحها؟ أو أنّ آيات القرآن واضحة ويمكن فهمها بالشكل الصحيح لو لا الاهواء والمصالح والاصطفاف المذهبي الذي يحرف معانيها؟
ثانياً: من جهةٍ أخرى هل وجودُ تفسير كامل للقرآن الكريم من قِبَل المعصوم (عليه السلام) يرفع المسؤولية عن عامة الأمة في وجوبِ فهم القرآن والتدبر في آياته؟ فالثابت بالضرورة أنّ القرآنَ حجّةٌ على جميع البشر، وهذا لا يكون مفهوماً إلا إذا كان القرآن خطاباً مباشراً لجميع المكلفين، فالواجب على كلّ مكلف التدبر في آيات القرآن واستظهار معانيها، وهذا بدوره لا يكون مفهوماً إلا إذا كانت آياتُ القرآن قابلةً للفهم والتفسير لجميع المكلفين، وهو الأمر الذي أكّدته آيات القرآن مثل قوله تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر)، وقوله تعالى: (كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون)، وقوله تعالى: (بلسان عربي مبين)، وهكذا عشرات الآيات التي تؤكد إمكانية فهم القرآن وتفسيره، وانطلاقاً من ذلك إذا رجعنا لقوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)، نجدُ أنّ الآيةَ أمرتْ بشكل واضحٍ وصريحٍ جميع المكلفين بالتعامل المباشر مع القرآن من خلالِ التدبرِ في آياته، وعليه يمكن الاستنتاج بأنّ وجودَ تفسير كامل للقرآن من قبل المعصومين لا يعني هجران القرآن وتركه دون تدبر وتأمل في آياته.
ثالثاً: كونُ القرآن صالحاً لكلّ زمانٍ ومكانٍ يعني بالضرورة إمكانية فهمه بما يناسب جميع الأزمنة والأمكنة، فتغيّر الواقع وتبدّل الظروف يقتضي إيجاد توجيه قرآني يتناسب مع تلك الظروف المستجدة، وعلى ذلك فإنّ تفسير القرآن ليس جامداً على معنى محدد وعلى مصاديق تاريخية لا يمكن تكرارها.
ومن هنا يجبُ التفريقُ بين التفسير الذي يكونُ على نحو القضية الخارجية وهو الذي يقع في العادة في إطار التأويل وانزال الوحي على مصاديقه الخارجية، وبين التفسير الذي يكون على نحو القضية الحقيقية والذي يكونُ فيه التفسير قائماً على بيان الحقائق الثابتة التي لا تتأثر بتغير الزمان والمكان، فمثلاً بيان الحقائق الغيبية أو تفصيلات العبادات أو بيان الحدود التي تطبق من خلالها الشريعة، أو كل القضايا التي لا يستقل العقل في إدراكها تصبحُ من مختصّات المعصوم، والاحاديث التفسيرية التي جاءت بهذا الخصوص تكون ثابتةً لا مجالَ للاجتهاد في قبالها، وهذا النوع من التفسير قد بيّنه الرسول (صلى الله عليه وآله) والنصوص فيه متظافرة.
أما الأحاديث المروية بخصوص التفسير الذي يعني إنزال مضامين الوحي بما يتناسب والظرف التاريخي، فإنّ هذه الأحاديث يُستفادُ منها على نحو الكشف عن السنة العامة التي عمل على موجبها المعصوم، ولا يستفاد منها على نحو الوقوف على تلك المصاديق والجمود عليها، فمثلاً إذا فسر المعصوم آية الاحسان بعتق رقبة فإنّ ذلك لا يعني أن تصبح سنة ثابتة وإنما يجوز للعقل أن يحدد الوسيلة المناسبة للإحسان بحسب الظرف الذي يعيشه، وهكذا بقية القضايا التي فسّر فيها المعصومُ آيات القرآن على الواقع الخارجي، وفي هذا المورد كما هو واضح لا نحتاج إلى اكثر من نماذج نسير على وفقها ولا نحتاج إلى تفسير كامل لكل آيات القرآن، فالاكتفاء بتفسيرات المعصوم للقرآن والتي راعى فيها الظرف التاريخي يعني عدم صلاحية القرآن للأزمنة اللاحقة، وهذا أمرٌ لا يمكن قبوله.
وعليه: كما لا يمكن الإستغناء عن تفسير المعصوم في القسم الأول، كذلك لا يمكن الاستغناء عن النظر الدائم وفي كل زمان لآيات القرآن بما يتناسب مع الظرف الحضاري للمسلمين.
رابعاً: مشكلة الاختلاف والتباين في تفسير القرآن ليس له علاقةٌ بوجود تفسير كامل من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو عدم وجوده، وإنما له علاقة مباشرة بتوظيف القرآن لخدمة الاجندات الخاصة أو العامة، وقد حذّر القرآن نفسُه من الظنون الناتجة عن الأهواء والشهوات بوصفها السبب المباشر لكل انحراف فكري أو سلوكي، كما أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) والائمة المعصومين (عليهم السلام) حذّروا أيضاً عن تفسير القرآن بالآراءِ الخاصّة، والروايات في ذلك كثيرة؛ منها: ما رواه الصدوق عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث قدسي أنه قال: (ما آمن بي من فسر برأيه كلامي) (الامالي للصدوق ص 6)، وروى ابو النضر محمد بن مسعود العياشي بإسناده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (من فسر القرآن برأيه فأصاب لم يؤجر، وإن أخطأ كان إثمه عليه، وفي رواية اخرى: وإن أخطأ فهو أبعد من السماء) ( مقدمة تفسير العياشي، ج1، ص 17).
فهذه النصوص وغيرها تؤكد على أنّ مَن قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار، إلا أنّ ذلك لا يعني أنّ المكلفَ غير قادر على فهم القرآن أو أنّ فهمه للقرآن محرّم ومرفوض، ومن هنا لابد من التفريق بين أمرين:
الأول: حملُ معاني القرآن على ما ينسجم مع رغبات النفس وتمنياتها، ويسمى ذلك في الاصطلاح القرآني بالظن الذي لا يغني عن الحق شيئاً.
الثاني: فهمُ القرآن بما ينسجم مع الضوابط العقلية وما تعاهدَ عليه العقلاءُ في فهم النصوص وهو الحجة التي جعلها القرآن بين الله وبين عباده، يقول السيد الخوئي في ذلك: (إنّ الاخذ بظاهر اللفظ، مستنداً إلى قواعد واصول يتداولها العرف في محاوراتهم، ليس من التفسير بالراي، و انما هو تفسير بحسب ما يفهمه العرف، وبحسب ما تدل عليه القرائن المتصلة والمنفصلة، وإلى ذلك اشار الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام بقوله: "انما هلك الناس في المتشابه، لانهم لم يقفوا على معناه، ولم يعرفوا حقيقته، فوضعوا له تأويلاً من عند أنفسهم برأيهم، استغنوا بذلك عن مسألة الاوصياء فيعرفونهم" (البيان، ص 287).
اترك تعليق