ابن السكّيت وشيء من سيرته
سؤال : نسمع أحيانا عن ابن السكّيت وقتل المتوكل العباسيّ له، فمن هو ابن السكيت؟ وهل كان من الشيعة؟
الجواب:
من حقّ الإماميّة أنْ تفخر برجالاتها أمام بقيّة الفرق والأمم، فكثير من صنّاع الحضارة الإسلامية كانوا من الشيعة الإماميّة، ولأنّ السؤال جاء حول ابن السكّيت فسيقتصر الجواب عنه.
ابن السكّيت: يعقوب بن اسحاق اللغويّ النحويّ الشيعيّ الإماميّ، له فضل على الأمّة بكتبه التي صنّفها التي لا زال الناس ينهلون من بدائعها.
ولد في الأهواز وانتقل مع أبيه واستوطن بغداد، ترجم له الشيخ النجاشي (ت 450هـ) فقال: يعقوب بن إسحاق السكّيت أبو يوسف كان متقدماً عند أبي جعفر الثاني وأبي الحسن عليهما السلام، وله عن أبي جعفر رواية ومسائل، وقتله المتوكل لأجل التشيّع، وأمره مشهور، وكان وجهاً في علم العربية واللغة، ثقة، مصدقاً (صدوقاً)، لا يُطعن عليه. وله كتب، منها: كتاب إصلاح المنطق، كتاب الألفاظ، كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه، كتاب الأضداد، كتاب المذكور... (فهرست أسماء مصنّفي الشيعة، ص450).
ذكر النجاشي له أسماء 32 كتابا، ثم ذكر سنده إليه.
وترجم له الخطيب البغدادي (ت 463هـ) فقال: يعقوب بن إسحاق بن السكّيت، أبو يوسف النحوي اللغوي: صاحب كتاب إصلاح المنطق، كان من أهل الفضل والدّين، موثوقاً بروايته. وكان يؤدّب ولد جعفر المتوكل على الله... وحُكيَ أنّ الفراء سأل السكيت عن نسبه؟ فقال: خُوزيّ أصلحك الله من قرى دورق من كور الأهواز. قال أبو سهل: سمعت المبرّد يقول: ما رأيتُ للبغداديين كتاباً أحسن من كتاب يعقوب بن السكيت في المنطق. (تاريخ بغداد، ج 14 ص 274 ـ 276).
ومما قاله ياقوت الحمويّ (ت 626هـ) عنه: وكان عالماً بالقرآن ونحو الكوفيين، ومن أعلم الناس باللغة والشعر، راوية ثقة ولم يكن بعد ابن الأعرابي مثله، وكان قد خرج إلى سرّ مَنْ رأى فصيّره عبد الله بن يحيى بن الخاقان إلى المتوكل فضمّ إليه ولده يؤدبهم وأسنى له. (معجم الأدباء، ج20 ص 50).
وقال الذهبي (ت 748هـ): ابن السكيت * شيخ العربية، أبو يوسف، يعقوب بن إسحاق بن السكيت، البغدادي النحوي المؤدب، مؤلف كتاب «إصلاح المنطق»، ديّن خيّر، حجّة في العربية وروى عن الأصمعيّ، وأبي عبيدة، والفرّاء، وكتبه صحيحة نافعة قال ثعلب:... وكان يتشيع... وقيل: كان إليه المنتهى في اللغة. (سير أعلام النبلاء، ج 12 ص 16 ـ 17).
وقال: وكان يميل إلى تقديم عليّ رضي اللَّه عنه. (تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، ج 18 ص 552).
ترك ابن السكّيت كتباً كثيرة قيّمة، قال الخطيب البغدادي: قال أبو سهل: سمعت المبرّد يقول: ما رأيت للبغداديين كتاباً أحسن من كتاب يعقوب بن السكّيت في المنطق. (تاريخ بغداد، ج 14 ص 276).
وكتابه هذا في «منطق اللغة» وليس في «علم المنطق» المعروف.
وقال ابن خلكان (ت 681هـ): وقال بعض العلماء: ما عبر على جسر بغداد كتاب في اللغة مثل «إصلاح المنطق»، ولا شكّ أنّه من الكتب النافعة الممتعة الجامعة لكثير من اللغة، ولا نعرف في حجمه مثله في بابه. (وفيات الأعيان، ج6 ص400).
استفادت الأمة من كتب ابن السكيت بمختلف مذاهبها، فاعتمد الجمهور على كتبه وأخذوا منها، فنقل عنه علماء اللغة وأصحاب المعاجم والمفسرون وشراح الحديث كالنووي وابن حجر والرجاليون والفقهاء في كتبهم.
والمراجع يلحظ أن الكتب العربية والإسلامية مليئة بأقواله، وكذلك ابن تيمية على تعصّبه احتاج إلى أقوال هذا الشيعي الإمامي، فاستشهد بأقواله كما في مجموعة الفتاوى، ج 17 ص 314، وقال الذهبي معترفا بأهمية أحد كتب ابن السكيت: قلت: «إصلاح المنطق» كتاب نفيس مشكور في اللغة. (العقد الثمين في تراجم النحويين، ص 58).
تشيّعه:
أما دلائل تشيّع ابن السكيت وكونه من رجالات الإماميّة فهي عديدة:
أولاً: ترجمة الشيخ النجاشي له وقد تقدّمت، والنجاشي من أشهر علماء الرجال وعليه المعتمد، فمن ترجم له في كتابه دون أن يشير لمذهبه فهو شيعيّ إماميّ، وعلى هذا جميع نقاد ومحققي الإمامية، إلا إذا أظهر التحقيق والبحث خلاف ما ذكره، وليس هذا موضع تفصيل هذه المسألة، ولم نجد أحداً ادعى ابن السكيت لمذهبه سوى الإمامية، ثم إنّ النجاشيّ نفسه قال في ترجمته المتقدمة: «وقتله المتوكل لأجل التشيّع، وأمره مشهور»
ثانياً: قول النجاشي: «كان متقدماً عند أبي جعفر الثاني وأبي الحسن عليهما السلام، وله عن أبي جعفر رواية ومسائل» أي: أنّه من خواصّ الإمامين عليهما السلام، وستأتي بعض رواياته عنهم، فقول النجاشي هذا تأييد قويّ لتشيّعه الإمامي، وكونه من أصحاب الأئمة بل من المقربين إليهم.
ثالثاً: ذهب أعلام الإماميّة إلى عدّه من رجالهم، ولا شكّ أنّ أهل كل مذهب أعلم برجالهم من غيرهم، وقد مرّت شهادة النجاشيّ، قال العلامة الحلي (ت 726هـ): يعقوب بن إسحاق بن السكيت: بالسّين المهملة، والكاف المشدّدة المكسورة، والياء المنقطة تحتها نقطتين الساكنة، والتاء المنقطة فوقها نقطتين أخيراً. صاحب «إصلاح المنطق» له كتب، كان متقدّماً عند أبي جعفر الثاني وأبي الحسن عليهما السلام، قتله المتوكّل لأجل التشيع. (إيضاح الاشتباه، ص 320).
وقال الشيخ يوسف البحراني (ت 1186هـ): وكان هذا الشيخ أي يعقوب بن إسحاق السكّيت صاحب «إصلاح المنطق» من أجلّاء الشيعة وأصحاب الأئمة (ع) نقل السيّد الأمين كلامه في أعيان الشيعة، ج10 ص 306 عن كتاب لؤلؤة البحرين.
وقال الشيخ عبد الله المامقاني (ت1351هـ): وعن الخليل أنّه من أفاضل الإماميّة وثقاتهم، وعن المولى صالح انّه ثقة ثبت، عالم بالعربيّة واللّغة، مصدّق لا يطعن عليه. انتهى وفي مجمع البحرين أنّه ثقة عند أهل الرّجال. (تنقيح المقال في علم الرجال ، ج3 ص 330).
وقال الشيخ عباس القمي (ت 1359هـ): ابن السكيت: بكسر السين وتشديد الكاف، أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الدورقي الأهوازي الامامي النحوي اللغوي الأديب، ذكره كثير من المؤرخين وأثنوا عليه وكان ثقة جليلاً من عظماء الشيعة، ويعدّ من خواص الامامين التقيّين (ع) وكان حامل لواء علم العربية والأدب والشعر واللغة والنحو، وله تصانيف كثيرة مفيدة. (الكنى والألقاب، ج 1 ص 314).
وقال السيد محسن الأمين (ت 1371هـ): كان علماً من أعلام الشيعة وعظمائهم وثقاتهم ومن خواصّ الامامين محمد التقي وعلي النقي (ع) وكان حامل لواء الشعر والأدب... وكان هذا الشيخ أي يعقوب بن إسحاق السكّيت، صاحب «إصلاح المنطق» من أجلاء الشّيعة وأصحاب الأئمة (ع). (أعيان الشيعة، ج 10 ص 305 ـ 306).
وقال الشيخ محمد حسن بكائي في مقدمته على كتاب «إصلاح المنطق»: إنّ مؤلف الكتاب هو يعقوب بن إسحاق السكيت الخوزي الدورقي الأهوازي وكان من الشيعة الإمامية. (ترتيب إصلاح المنطق، ص 6).
رابعاً: قُربه من أئمة أهل البيت (ع) وروايته عنهم، وهذه نماذج من رواياته:
روى الشيخ الكليني عن الحسين بن محمد، عن أحمد بن محمد السياري، عن أبي يعقوب البغدادي قال: قال ابن السكيت لأبي الحسن عليه السلام: لماذا بعث الله موسى بن عمران عليه السلام بالعصا ويده البيضاء وآلة السحر؟ وبعث عيسى بآلة الطب؟ وبعث محمداً (صلى الله عليه وآله وعلى جميع الأنبياء) بالكلام والخطب؟
فقال أبو الحسن عليه السلام: إنّ الله لما بعث موسى عليه السلام كان الغالب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله، وما أبطل به سحرهم، وأثبت به الحجة عليهم، وإنّ الله بعث عيسى عليه السلام في وقت قد ظهرت فيه الزّمانات واحتاج الناس إلى الطب، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيى لهم الموتى، وأبرء الأكمه والأبرص بإذن الله، وأثبت به الحجة عليهم. وإنّ الله بعث محمدا (صلى الله عليه وآله) في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام وأظنه قال: الشعر، فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم، وأثبت به الحجة عليهم، قال: فقال ابن السكيت: تالله ما رأيت مثلك قط، فما الحجة على الخلق اليوم؟ قال: فقال عليه السلام: العقل، يُعرف به الصادق على الله فيصدّقه، والكاذب على الله فيكذبه، قال: فقال ابن السكيت: هذا والله هو الجواب. (الكافي، ج1 ص 72 ـ 73).
وروى الشيخ الطوسي: أخبرنا جماعة، عن أبي المفضل، قال: حدثنا رجاء بن يحيى أبو الحسين العبرتائي، قال : حدثنا يعقوب بن السكيت النحوي، قال: سمعت أبا الحسن علي بن محمد بن الرضا (عليه السلام) يقول: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إياكم والإيكال بالمُنى، فإنها من بضائع العجزة.
قال: وأنشدني ابن السكيت:
إذا ما رمى بي الهمّ في ضيق مذهب * رمت بي المنى عنه إلى مذهب رحب.
وعنه، قال: أخبرنا جماعة، عن أبي المفضل، قال: حدثنا أبو الحسين رجاء بن يحيى العبرتائي، قال: حدثنا يعقوب بن السكيت النحوي، قال: سألت أبا الحسن علي بن محمد بن الرضا (عليهم السلام): ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضةً؟ قال: إنّ الله (تعالى) لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة. (الأمالي، الشيخ الطوسي، ص 581).
خامساً: اعتراف بعض علماء السنة بتشيّعه، قال الذهبي كما مر عنه: «وكان يتشيّع» وقال فيما سبق ذكره: «وكان يميل إلى تقديم عليّ رضي اللَّه عنه»، وقال القفطي (ت 646هـ): «وكان ابن السكيت يتشيّع» (إنباه الرواة على أنباه النحاة، ج4 ص 60).
وقد يظنّ البعض أنّ هذه العبارات تعني التشيّع السهل، الذي يعني تقديم الإمام علي (ع) على عثمان، لا أنه كان على معتقد الإمامية.
ويردّ هذا الفهم عَدُّ الإمامية له من رجالهم، وكونه من المقرّبين من الأئمة (ع)، وقتل المتوكل العباسيّ له كما سيأتي.
ثم إن عبارة الذهبي: «وكان يميل إلى تقديم عليّ رضي اللَّه عنه» تعني تفضيله الامام علي (ع) على الصحابة مطلقاً، وهذا معناه وفق قواعد الجمهور أنه رافضيّ.
ومما يردّ هذه المناورة المفضوحة ما ورد عن ابن خلّكان وابن عساكر، إذْ قال ابن خلكان: وكان ابن السكيت من المغالين في محبتهم والتوالي لهم. (وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ج6 ص 400).
وقال ابن عساكر: وكان يميل في رأيه واعتقاده على مذهب من يرى تقديم أمير المؤمنين عليّ رضي اللّه عنه. (تاريخ مدينة دمشق (المستدركات)، ج 4 ص 150).
فابن عساكر يصرّح بأنّ آراءه واعتقاداته تميل أي تتوافق مع من يفضّل الإمام عليّ (ع)، وهم الشيعة.
سادساً: سيأتي في بيان قتله ما فيه دلالة كافية على تشيّعه.
شهادته:
قال الذهبيّ: ويروى أنّ المتوكل نظر إلى ابنيه المعتز والمؤيد، فقال لابن السكّيت: مَنْ أحبّ إليك: هما، أو الحسن والحسين؟ فقال: بل قنبر، فأمر الأتراكَ، فداسوا بطنه، فمات بعد يوم. وقيل: حمل ميّتاً في بساط. وكان في المتوكل نصبٌ. (سير أعلام النبلاء، ج 12 ص 18).
وقال ابن تغري (ت 748هـ): أبو يوسف اللغوي صاحب «إصلاح المنطق» كان علّامة الوجود، قتله المتوكل بسبب محبته لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال له يوماً إيّما أحبّ إليك: أنا وولدايَ المؤيد والمعتز، أم عليّ والحسن والحسين؟ فقال: والله إنّ شعرةً من قنبر خادم عليّ خير منك ومن ولديك، فأمر المتوكل الأتراك فداسوا بطنه فحمل إلى بيته ومات. (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ج 2 ص 321).
وقال ابن خلّكان: وقد رويَ في قتله غير ما ذكرتُه أوّلاً، فقيل: إنّ المتوكل كان كثير التحامل على عليّ بن أبي طالب وابنيه الحسن والحسين (رضي اللّه عنهم أجمعين) وقد تقدّم في ترجمة أبي الحسن علي بن محمد المعروف بابن بسّام أبيات تدلّ على هذا أيضاً، وكان ابن السكّيت من المغالين في محبتهم والتوالي لهم، فلما قال له المتوكل تلك المقالة، قال ابن السكيت: واللّه إنّ قنبر خادم عليّ (رضي اللّه عنه) خير منك ومن ابنيك، فقال المتوكل: سلّوا لسانه من قفاهُ، ففعلوا ذلك به فمات. (وفيات الأعيان، ج 6 ص 401).
قد يظن البعض أن ابن السكيت ألقى بنفسه إلى التهلكة، وليس الأمر كذلك. قال الشيخ المجلسي الأول (ت 1070هـ): واعلم أنّ أمثال هؤلاء الأعلام كانوا يعلمون وجوب التقيّة ولكنهم كانوا يصيرون غضباً لله تعالى بحيث لا يبقى لهم الاختيار عند سماع أمثال هذه الأباطيل، كما هو ظاهر لمن كان له قوة في الدين. (روضة المتقين، ج 14 ص 471).
وقال يوسف بن يحيى الصنعاني (ت 1121هـ) مبيّناً سبب مصارحة ابن السكيت المتوكل باعتقاده: وقال العلّامة أبو عبد اللّه المقداد بن عبد اللّه السيوريّ الحليّ أحد علماء الإماميّة في كتابه «الكنز»: عن عليّ عليه السّلام في كلام له: «أمّا السبّ فسبّوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأمّا البراءة فلا تتبرّوا مني فإني ولدت على الفطرة» وفي رواية أخرى: وأما البراءة فمدّوا الأعناق، ودليل الأفضليّة سيّما إذا كان ممن يُقتدى، وفِعلُ يعقوب بن السكّيت مع المتوكل حيث لم يفضّل ولديه على الحسنين عليهما السّلام من هذا الباب، فإن تفضيل الفاسق عليهما في قوّة البراءة بل هو تكذيب للنّبي (صلّى اللّه عليه واله وسلّم) لقوله هما سيّدا شباب أهل الجنّة. (نسمة السحر بذكر مَن تشيع وشعر، ج3 ص 369).
يوم وسنة شهادته:
قال الشهيد الثاني: توفي يعقوب بن إسحاق بن السكيت صاحب إصلاح المنطق ليلة الاثنين لخمس خلون من رجب، سنة أربع وأربعين ومأتين. (بحار الأنوار، ج 104، ص 1).
فرحم الله ابن السكيت ورفع درجته في عليين.
اترك تعليق