كيف يعد الله بني اسرائيل بالأرض المقدسة؟

السؤال: هل كان الله يعلم عندما أعطى هذا الوعد للنبي موسى و اليهود أنّ ذلك الوعد سوف يكون سبباً في حروب دينية على مدى التاريخ يذبح بسببها الأبرياء؟ ما هو السبب الذي يدفع بالله أنْ يعتبر أرضاً بعينها مقدّسة ثم ما الحكمة بأنْ يمنحها لفئة معينةٍ من البشر؟ ما الحكمة الربانية من وراء جعل ذات الأرض مقدسة عند المسيحيين و المسلمين بعد أنْ باركها سابقاً لليهود ؟ لماذا يجعلها رمزاً للديانات الثلاث إذا كان يعلم مسبقاً أنه ستسفك دماء الأبرياء بسببها ؟ هل من الرحمة إعطاء مثل تلك الوعود الربانية ؟ هل الله راض عما يجري الآن في غزة ؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

من الواضح أنّ جميع هذه الاسئلة ترتكز على وعد الله تعالى لبني اسرائيل بالأرض المقدسة، وعليه من الضروري قبل الإجابة المباشرة عن الأسئلة الرجوع إلى تفسير الآية التي يظنّ بعضهم بأنّ فيها وعداً لبني إسرائيل بأرض فلسطين، وهي قوله تعالى: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ)، وبالوقوف على تفسير هذه الآية ترتفع الكثير من هذه الشبهات التي أثارها صاحب الأسئلة.

ونحن هنا نُجمل التفسير في عدّة نقاط:

أولاً: ليس في هذه الآية أو في غيرها تحديدٌ لموضع هذه الأرض، وقد اختلف المفسرون بين كونها الطور وما حولها، أو بيت المقدس، أو أرض الشام، أو أرض فلسطين والأردن، وللخروج من هذا التردّد نجد أنّ الطبريّ في تفسيره يُجمل كل تلك الاحتمالات بقوله: "غير أنها لن تخرج من أن تكون من الأرض التي ما بين الفرات وعريش مصر، لإجماع جميع أهل التأويل والسِّيَر والعلماء بالأخبار على ذلك" (تفسير الآية 21 من سورة المائدة)

ويقول الشيخ مكارم الشيرازي: "ولكن لا يُستبعد أن يكون المراد من العبارة المذكورة كلّ أرض الشام التي تشمل جميع الاحتمالات الواردة، لأنّ هذه الأرض - كما يشهد التاريخ - تعتبر مهداً للأنبياء، ومهبطاً للوحي، ومحلاً لظهور الأديان السماوية الكبرى، كما أنّها كانت لفترات طوال من التاريخ مركزاً للتوحيد وعبادة الله الواحد الأحد، ونشر تعاليم الأنبياء... لهذه الأسباب كلها سميت ب‍ «الأرض المقدسة» مع أنّ هذا الاسم يطلق على منطقة «بيت المقدس» بصورة خاصة أحيانا" (تفسير الأمثل ج3 ص 669)

ثانياً: لم يَرِدْ في الآية تصريح بالمقصود من كلمة مقدّسة وقد حمل المفسرون قداسة الارض على كونها دارٌ للأنبياء والمؤمنين، وكما يقال إنّ قداسة المكان بالمكين، يقول السيد الطباطبائي في الميزان: "وقد وَصفَ الأرض بالمقدّس، وقد فسّروه بالمطهرة من الشرك لسكون الأنبياء والمؤمنين فيها، ولم يَرِد في القرآن الكريم ما يفسّر هذه الكلمة. والذي يمكنُ أنْ يستفاد منه ما يقرب من هذا المعنى قوله تعالى: "إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله"، وقوله: "وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها" وليست المباركة في الأرض إلا جعل الخير الكثير فيها، ومن الخير الكثير إقامة الدين وإذهاب قذارة الشرك" (الميزان ج 5 ص 288)

ثالثاً: قوله تعالى: {كتب الله لكم} قيل إنّ المقصود منها هو أنّ الله قضى لبني إسرائيل أنْ يسكنوا فيها، والمعلوم أنّ الجيل الذي كلّف بدخول الأرض المقدسة لم يدخلها وإنما دخلتها الأجيال اللاحقة، يقول السيد الطباطبائي: "إنّ السامعين لهذا الخطاب الحاضرين المكلّفين به ماتوا وفنوا عن آخرهم في التيه، ولم يدخل الأرض المقدسة الا أبناؤهم وأبناء أبنائهم مع يوشع بن نون"

والذي يدلّ على هذا المعنى وبشكل واضح وصريح هو قوله تعالى: (قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)، وعليه لا يكون للمخاطبين خصوصيّة في ذواتهم أو لانتمائهم إلى عِرق معيّن، وإنّما هي كرامة وعهد من الله لعباده المؤمنين الذين يحملون رسالته ويطبقون أوامره، يقول مكارم الشيرازي في تفسيره: "ويُستدلّ من جملة {كتب الله عليكم...} إنّ الله قد قرّر أنْ يعيش بنو إسرائيل في الأرض المقدّسة بالرغد والرخاء والرّفاه شريطة أن يحموا هذا الأرض من دنس الشرك والوثنية وأن لا ينحرفوا عن تعاليم الأنبياء إن لم يلتزموا بهذا الأمر سيحيط بهم من قبل الله عذاب أليم شديد".

ويقول صاحب الميزان: "وهذه الكتابة هي التي يدلّ عليها قوله تعالى: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض} وقد كان موسى عليه السلام يرجو لهم ذلك بشرط الاستعانة بالله والصبر حيث يقول: {قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون} وهذا هو الذي يخبر تعالى عن إنجازه بقوله: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا} فدلّت الآية على أنّ استيلائهم على الأرض المقدسة وتوطنهم فيها كانت كلمة إلهية وكتاباً وقضاء مقضياً مشترطاً بالصبر على الطاعة وعن المعصية"

رابعاً: اتّضح ممّا تقدّم أنّ كتابة الأرض المقدسة لبني إسرائيل كانت مشروطة وليست مطلقة، وقد أكّدتْ هذا المعنى آيات أخرى ففي ذيل آيات سورة الإسراء يقول تعالى: (وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً)، وكذا قول موسى لهم في سورة الأعراف: (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون)، وقوله أيضاً في سورة إبراهيم: (وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم - إلى أن قال - وإذ تأذّن ربّكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديد) وغير ذلك من الآيات كلها تدل على أنّ هذه الكتابة كتابة مشترطة لا مطلقة غير قابلة للتغير والتبدل.

وبعد هذه المقدّمة نجيب بشكل مباشر عن جميع تلك الاسئلة.

السؤال الأول: هل كان الله يعلم عندما أعطى هذا الوعد للنبي موسى و اليهود أنّ ذلك الوعد سوف يكون سبباً في حروب دينية على مدى التاريخ يذبح بسببها الابرياء؟

يَفترض هذا السؤال وجود علاقة مباشرة بين ما كتبه الله على بني إسرائيل من دخول الأرض المقدّسة وما حدث بعد ذلك من حروب دينية حول هذه الأرض، وهذا الافتراض مغالطة واضحة لعدم وجود أيّ إرتباط بين الأمرين، فتكليف الله لبني إسرائيل في مرحلة تاريخية معينة بدخول الأرض المقدّسة شيء، وما حدث في فلسطين من حروب دينية في مراحل متأخرة شيء آخر، والذي يلمح بوجود نوع من الربط إنما يعمل على إيجاد تبريرات للجرائم التي يُحدثها الصهاينة في فلسطين، فمن يجب أنْ يُدان هو الصهيونية العالمية التي عاثت في الأرض الفساد وليس الله الذي أراد أنْ ينزه بني إسرائيل من الشرك والظلم فأبوا إلا أنْ يكونوا عتاة مجرمين.

وحتى النصوص التوراتية قد بدأت تتهاوى أمام البحوث العلمية لعلماء الآثار الغربيين، وقد استشهد الباحث الفرنسي (روجيه غارودي) بأقوال كثيرٍ من علماء الآثار الغربيين في كتابه (الأساطير المؤسّسة للسياسة الإسرائيلية) الذي نشر عام 1996، حيث أكد في هذا الكتاب أنّ كل ما يتمسك به الصهاينة هو مجرد أساطير لاهوتية لا علاقة لها بالحقيقة العلمية والتاريخية، فأسطورة الأرض الموعودة بحسب غارودي ليس إلا ذريعة للإستعمار والهيمنة على أرض غيرهم، وقد اعترف بذلك الحاخام (آلمر برغر) الرئيس السابق لرابطة من أجل اليهود، كما تعرض لذلك (ألبير دي بوري) في رسالته للدكتوراه حول الوعد الإلهي والخرافة الشعائرية في أدبيات يعقوب، وخلص فيها إلى أن تفسير الوعد الإلهي بالمعنى الذي تروج له إسرائيل ليس إلا تبريراً لغزوها فلسطين. وقد توصل عالم الآثار (كيث وايتلام) إلى نفس هذه النتيجة، في كتابه (إختلاق إسرائيل القديمة وإسكات التاريخ الفلسطيني)، حيث أكّد فيه المحاولات التي تمت لطمس التاريخ الحقيقي بدواعي سياسية.

كما أنّ علم الله المسبق بما يُحدثه الإنسان من انحراف لا علاقة له بتحمل الإنسان لمسؤولية أعماله التي اختارها بمحض إرادته.

السؤال الثاني: ما السبب الذي يدفع بالله إلى أنْ يعتبر أرضاً بعينها مقدّسة ثم ما الحكمة بأنْ يمنحها لفئة معينة من البشر؟

كما بينّا سابقاً أنّ قداسة الأرض لا تكون لخصوصية في الأرض نفسها وإنما تكتسب هذه القداسة لكونها أصحبت مكاناً لشيء مقدّس، ومثال على ذلك فإنّ مكة أصحبت مقدّسة لوجود بيت الله فيها، ومدينة الرسول أصبحت مقدسة لوجود قبره ومسجده فيها، وكذلك الحال في كربلاء وبقية الأماكن المقدسة، والأرض المقدسة هي مقدّسة في نظر كل من يؤمن بقداستها ولذا لا تكون خاصة بطائفة دون أخرى وإنّما لجميع من يعترف بقداستها ويعمل على صيانتها، فمكة مثلاً محرّمة على دخول المشركين لأنهم لا يراعون قداستها ومتى ما دخلوا في الإيمان تفتح لهم أبواب الدخول.

السؤال الثالث: ما الحكمة الربانية من وراء جعل ذات الأرض مقدسة عند المسيحيين و المسلمين بعد أنْ باركها سابقا لليهود؟

يتضح ممّا تقدّم أنّ الله جعل الارض مقدّسة للمؤمنين الذين يحملون رسالته، ولذا كانت مقدسة عند اليهود في زمن نبي الله موسى (عليه السلام)، ثم أصبحت مقدّسة في زمن نبي الله عيسى (عليه السلام)، وبعد بعثة الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) أصبحت مقدّسة عند المسلمين، وكما هو معلوم أنّ كل رسالة تنسخ الرسالة التي قبلها وعدم اعتراف اليهود والمسيحيين بذلك لا يغيّر شيئاً في الحقيقة.

السؤال الرابع: لماذا يجعلها رمزاً للديانات الثلاث إذا كان يعلم مسبقاً أنّه ستسفك دماء الأبرياء بسببها؟

إذا قبلنا مصطلح (الرمز) دون التدقيق في معانيه يمكن أنْ نقول إنّ الله لم يجعل القدس رمزاً لديانة معينة وإنما جعلها رمزاً لمن يحمل دينه ورسالاته، وبعد بعثة الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) أصبح الإسلام هو الأولى بتلك الأرض، وعليه فإنّ ادعاء اليهود والنصارى بأنهم الممثلون لرسالات الله ادعاء كاذب لا يمكن نسبته إلى الله تعالى، كما أنّ الدماء التي سفكت لم تسفك لكون الله جعلها أرضاً مقدّسة وإنما تسفك نتيجة لمطامع الإنسان وظلمه ولذا فإنّ الدماء تسفك في جميع بقاع الارض.

السؤال الخامس: هل من الرحمة إعطاء مثل تلك الوعود الربانية؟ هل الله راضٍ عما يجري الآن في غزة ؟

ليس هناك من الأساس وعدٌ لجماعة معينة بأنْ ترث أرضَ فلسطين حتى نسأل إنْ كان في ذلك الوعد رحمة أم لا، وكل ما في الأمر أنّ الله كلف بني إسرائيل بدخول الأرض المقدّسة، وقد تمرّدوا على هذا التكليف وتحججوا بأنّ فيها قوماً جبارين، يقول تعالى: (قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ)

أمّا السؤال عن رضا الله عما يحصل في غزّة، فبالتأكيد أنّ الله تعالى لا يرضى بالظلم ولا يحب الظالمين، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّـهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا) فالبشر هم الذي يرتكبون الظلم ويسكتون عن الظالم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّـهَ لا يَظلِمُ النّاسَ شَيئًا وَلـكِنَّ النّاسَ أَنفُسَهُم يَظلِمونَ)، وعليه: فإنّ السؤال الصحيح لماذا ترضى البشرية بظلم الصهاينة في غزة ولا تحرك ساكناً؟