الإمامة منصب ديني أم دنيوي؟

السؤال: روي عن علي رضي الله عنه: أتيتموني لتبايعوني، ولا حاجه لي في ذلك ... فبايعتموني وانا غير مسرور بذلك ولا جزل. وقال ابـن عبـاس «رض»:دخلـت عـلى أمير المؤمنين «ع» بذي قار وهو يخصف نعله فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة له. فقال «ع»: والله لهي أحبّ إليّ مـن إمـرتكم إلا أنْ أقيمَ حقّاً أو أدفع باطلاً. لو كانت الإمامة منصب إلهي ديني، فكيف يقول علي (رض) عنها هكذا؟! وورد في نهج البلاغة حين قال: ولايتكم، التي إنمـا هـي متـاع أيام قلائل، يزول منهـا مـا كـان كمـا يـزول السراب، أوكما يتقشع السحاب. تدل جميع هذه النصوص أنها منصب دنيوي، لا ديني إلهي.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الإجابة:

يبدو أنّ النزاع بين كون الإمامة أصلاً أو فرعاً يعود إلى تعريف الإمامة بين الطرفين، فمَن يرى الإمامة من الشؤون السياسية والاجتماعية لا بدّ أنْ يُرجعها إلى اجتهاد الأمّة.

بينما مَن يرى الإمامة امتداداً لدور رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا بدّ أنْ يُرجعها للنصّ والتعيين، فكما أنّ الأمة ليس لها الحق في اختيار النبي، كذلك ليس لها الحقّ في اختيار مَن يقوم بمهام النبي (صلى الله عليه وآله) بعد وفاته، ومن هنا لم يفرق الشيعة بين الإمامة الدينية والسياسيّة، فالإمام في أمور الدّين وهو ذاته الإمام في الأمور السياسية، بينما نجد أهل السنة لهم أئمة في الدّين غير أئمتهم في السياسة والخلافة.

والغريب أنّ أهل السنة عندما رفضوا الإمامة، بوصفها وسيطاً معيناً من الله تعالى لتحقيق فَهمٍ صحيح للدّين، لم يلتزموا بهذا الرفض، وأوجدوا من عند أنفسهم أئمةً أوكلوا لهم فَهْمَ الدّين، وتعبّدوا بآرائهم، لأنّ الوسيط الذي يحقق لنا الفهم أمرٌ لا مفرّ منه، فإمّا أنْ يتكفّل الله تعالى بتعيينه واختياره، وإما أنْ يختار الناسُ لأنفسهم من يتّبعوه، فإنْ كان هناك احتمالٌ أنّ الله تعالى قد عيّن لنا أئمةً، ألا يكفي هذا الاحتمال لتحريك الأُمّة منْ أجل البحث عن هذا الإمام؟

فطالما هناك قاعدة تلزم الجاهل بالرجوع إلى العالم، لمعرفة مراد الله تعالى، فلا بدّ أن تكون لفكرة الإمامة من الوضوح بقدر دورها المحوريّ في عملية الفهم، أما أنْ تكون بدون محدّدات واضحة ومعايير منضبطة، فإنها ستؤدي إلى نتائج سلبية، بل قد تكون معوّقاً أمام الحركة الطبيعية للأمّة، كما أنّ الكلام عن مستقبل الرسالة ومسارها الطبيعي لا يستقيم إلا بالكلام عن الإمامة، لأن الإمام هو الشخص الذي يتحمّل مسؤولية هذه الرسالة من بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)، وليس من الصحيح أنْ يوكل هذا الأمر إلى مجموع الأُمّة.

وعليه فإنّ الحاجة إلى الإمام لا تقتصر على الضرورة السياسية فحسب، مع ما تمثّله تلك الضرورة من أهميّة لنظم أمر المسلمين، وتحديد خياراتهم المستقبلية وضبط رؤيتهم الاستراتيجية، إلا أنّ الإمام مع ذلك يقوم بالدور المحوريّ لبيان مضامين هذه الرسالة، وتفهيم الأُمّة وتوعيتها بحقيقة الإسلام، بوصفه المرجعية التي تحقق فهم النصّ، والجهة الموثوقة لبيان مدلولات الرسالة وتحديد مرادات الله عز وجل، ولذلك لا يمكن الاكتفاء بالنصوص دون إمام يمثل مرجعية لفهم تلك النصوص.

كما أنّ العصمة كشرط في الإمامة تمثّل ضرورةً عقليةً قبل أن تكون ضرورةً شرعيةً، فالعقل يقضي بوجوب اتّباع المعصوم، كما يحكم بقبح تركه واتّباع غيره، وقد تسالم العقلاء على أنّ المرجعيّة المعصومة هي الطريق الذي يحقق وحدة الناس، وأنّ السبب المباشر لتشتت الجهود واختلاف الناس هو تعدد القيادات، وهذا حكم توافق عليه كلّ العقلاء، فلا يمكن توحيد أيّ مجموعة من الناس كبيرة كانت أو صغيرة ضمن رؤية واحدة وتوجه واحد، إلا إذا كان على رأس هذه المجموعة شخص واحد، يمثّل المرجعيّة الفكريّة لهذه المجموعة، ولا يمكن ضمان مسار هذه المجموعة من دون أيّ انحراف، إلا إذا اتّصف هذا القائد بالعصمة.

وهكذا الإسلام لا يمكن أنْ يكون واحداً، إلا إذا كان هناك إمام معصوم يلتزم الناس باتّباعه، كما لا يمكن أنْ تحقق الأُمّة الاطمئنان في مسيرها، إلا إذا كان على رأسها معصوم. فإذا خُيّر الإنسان المسلم، بين أنْ يختار اللهُ تعالى له إماماً معصوماً ليتّبعه، وبين أنْ يختارَ هو لنفسه إماماً من بين عامّة الناس، فاختيار الله هو الراجح عند كلّ عاقل؛ لأنّ العقل لا يجد سبباً للفرقة بين الناس، إلا تعدد القيادات التي تمثل خيارات مختلفة يتّبعها الناس، ولا يمكن أن يتحقق إجماع المسلمين على إمام واحد، إلا إذا كان هذا الإمام معصوماً ومختاراً من قِبل الله عز وجل، ومن هنا فإنّ تفويض الأمر إلى الأُمّة يؤدي بشكل قطعيّ إلى تعدد الأئمة، وهو السبب المباشر لوجود هذه المذاهب، لأنّ المذهب بإشارة مباشرة هو: إمام له أتباع، وكلما تعددت الأئمة تعددت المذاهب.

والذي يؤكّد على أنّ الإمامة أصلٌ من أصول الدين وضرورة إسلامية هو قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)، وعليه لا يمكن أنْ تكون الإمامة خاضعة لاجتهاد الأمة أو خاضعة للظروف التاريخية؛ وذلك لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) جعلها شرطاً في تمام إسلام الإنسان وإيمانه، حيث حكم على من مات ولم يكن له إمام بأنه (مات ميتة جاهلية)، أيْ مات على غير الإسلام، ومن هنا يكشف هذا الحكم عن عظمة الإمامة في الإسلام وعن أهميتها بالنسبة لإيمان الإنسان المسلم، والذي يؤكّد كون الإمامة من أمور الدين الإعتقادية أنّ أهل السنة تناولوها في كتبهم العقائدية ولم يتطرّقوا لها في كتبهم الفقهية.

أمّا الروايات التي أشار إليها السائل فليس فيها أيّ دلالة على أنّ الإمامة أمرٌ دنيويٌّ، وإنما تثبت زهده الشخصيّ في الخلافة، فأمير المؤمنين (عليه السلام) لم يطلب الخلافة بدافع شخصيّ أو بمطامع ذاتية، وبذلك يكون قد ميّز نفسه عن الذين ينازعونه في الخلافة بدوافع شخصية، وهذا ما صرّح به أمير المؤمنين (عليه السلام) في نفس الرواية التي أوردها السائل وهي قوله: «والله لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلاً» أيْ أنّ أمير المؤمنين ليس له محبةً خاصةً في إمرتهم وإنّما دافِعُه الدينيّ هو الذي يُملي عليه مجاهدة المنكرين لإمامته، ونفس هذا المعنى واضح أيضاً في الرواية الثانية التي أشار إليها السائل، فتمام الرواية هي أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أرسل رسالةً لأهل مصر يشرح لهم فيها طبيعة الأحداث التي وقعت بعد وفاة الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله)، وقد جاء في تلكم الرسالة: فو الله! ما كان يُلقى في روعي ولا يخطر ببالي أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده (صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله‌) عن أهل بيته، ولا أنّهم مُنحّوه عنّي من بعده، فما راعني [افزعني] إلاّ انثيال الناس علىٰ فلان ـ يعني أبا بكر ـ يبايعونه، فأمسكت يدي حتّىٰ رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلىٰ محق دين محمّد (صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله‌) فخشيت إنْ لم أنصر الإسلام وأهله أن أرىٰ فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به علَيّ أعظم من فوت ولايتكم الّتي إنّما هي متاع أيّام قلائل ، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتّىٰ زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدين وتنهنه. (نهج البلاغة: 3 / 118).

فتمام الرواية يكشف اللبس الذي وقع فيه السائل، فأمير المؤمنين (عليه السلام) في هذه الرسالة يُعبّر عن زهده الشخصيّ في الحكم الذي لا يدوم لصاحبه، ويؤكّد على أنّ الذي قام به كان نَصراً للدّين وإقامة للحقّ.

وأمّا الرواية الأولى التي جاء فيها: «اتيتموني لتبايعوني، ولا حاجة لي في ذلك» وهي جزء من خطبة طويلة لا يسعفنا المقام بنقلها كاملة، فأمير المؤمنين (عليه السلام) يشرح في هذه الخطبة تسلسل الأحداث وما أصابه من غدر وخيانة من القوم، فمن ضمن جاء في هذه الخطبة قوله: «.. حتى اجتمع عليّ ملؤكم وبايعني طلحة والزبير وأنا أعرفُ الغدر في أوجههما والنكث في أعينهما ثم استأذناني في العمرة، فأعلمتُهما أن ليس العمرة يريدان فسارا إلى مكة واستخفّا عائشة وخدعاها، وشَخَص معهما أبناء الطلقاء فقدِموا البصرة فقتلوا بها المسلمين وفعلوا المنكر، ويا عجباً لاستقامتهما لأبي بكر وعمر وبغيُهما عليّ وهما يعلمان أنّي لست دون أحدهما ولو شئتُ أنْ أقول لقلت، ولقد كان معاوية كتب إليهما من الشام كتاباً يخدعهما فيه فكتماه عنّي وخرجا يوهمان الطغام أنّهما يطلبان بدم عثمان والله ما أنكرا عليّ منكراً ولا جعلا بيني وبينهم نَصَفاً وإنّ دم عثمان لمعصوب بهما ومطلوب منهما يا خيبة الدّاعي إلامَ دعا وبما ذا أجيب والله إنهما لعلى ضلالة صمّاء وجهالة عمياء وإنّ الشيطان قد ذمّر لهما حزبه واستجلب منهما خيله ورجِله ليعيد الجور إلى أوطانه ويردّ الباطل إلى نصابه. ثم رفع يديه فقال: اللهم إنّ طلحة والزبير قطعاني وظلماني وألّبا عليّ ونكثا بيعتي فاحلل ما عقدا وانكث ما أبرما ولا تغفر لهما أبدا وأرهما المساءة فيما عملا و أمّلا»

فالإمام يتحدث في هذا الخطاب عن نكث طلحة والزبير بيعتهما لأمير المؤمنين (عليه السلام) مع أنهما بادرا ببيعته طمعاً منهما أنْ يولّيهما ولاية مصر والعراق، وعندما خاب ظنّهما نكثا بيعته وخرجا إلى حربه، والإمام هنا يخاصمهما على المبدأ الذي اعترفا به واعترف به عامة المسلمين وهو وجوب الإلتزام بطاعة الخليفة بعد حصول البيعة له.