ما هي الدراسة الحوزوية؟

السؤال: أغلب علماء الدين والمراجع ممن لم يكملوا الدراسة الاعدادية فضلا عن الاكاديمية، فكيف يمكن الاعتماد على رأيهم ؟ وهنا يطرح تساؤل: ما هي دراسة الحوزة وما الدروس التي يتطرقون لها وهل تعتبر علماً؟ وما الفرق بينها وبين الدراسة الاكاديمية؟ مقصد السؤال هل تغني الدراسة الحوزوية عن الاكاديمية؟

: سيد صلاح الحلو

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمدُ لله ربِّ العالمين

وصلى الله على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين

لو أنَّ السائل – حفظه الله – اقتصرَ على آخر السطر لكان أغنى ذلك عن مقدّمة سؤاله فإنَّ خير الكلام ما قلَّ ودلّ.

ولعله قصد بقوله: (لم يكملوا الدراسة الاعدادية فضلا عن الاكاديمية) أنهم لم يُكملوا الدّراسة الإعداديَّة فضلاً عن الجامعيَّة، لأن الإعداديَّة من ضمن المنهج الأكاديميّ.

والسؤال ينحلُّ إلى أمرين:

الأول: إنَّ الدّراسة الأكاديميَّة لا بُدَّ منها للمرجع، وعليه عدم الاعتماد على رأيه مادام لم يدرس هذا المنهج المعروف!

الثاني: ما هي دراسة الحوزة؟ وهل هي علمٌ يؤهله لبتِّ الرأيّ في قضايا النَّاس وحياتهم؟

وكأنَّ السائل يستكثر عليها أن تكون عِلماً فيتساءلُ كالمُستنكر: وهل تُعدُّ علما؟

الجواب عن الشقّ الأول:

لا يُنكَرُ أن للدّراسة الأكاديميَّة فوائدها وعوائدها، وقد تخرَّج في جامعاتِها الكثيرُ من الأساتذة الأكْفَاء الذين كانت لهم إسهاماتٌ رائعةٌ في العلوم والحضارة، ولكنْ هي ليست كلَّ شيء، فها أنتَ ترى مثلاً أنَّ ميكانيكيَّ السيارات في الحيّ الصناعي الذي لم يدرس ميكانيك السيارات في الجامعة يكون في كثيرٍ من الأحيان أكثر مهارةً من مهندس السيارات خرّيج الجامعة، فليست الدّراسة الأكاديميَّة مما تؤهّل الإنسان دائماً ليكون الأقدر على البتِّ في القضايا المختلفة، ومنها القضايا الدّينيَّة محلّ البحث.

ولعلَّك ستُدهش إذا ما تناهى إلى علمك وقرع بابَ سمعِك أنَّ كثيراً من العلماء والأدباء لم يُكملوا سلكهم التعليميَّ، أو لم يدرسوا في المدارس كـ «وليم شكسبير» و «أجاثا كريستي» كاتبة روايات الجريمة الأشهر، و «توماس أديسون» مخترع المصباح الكهربائيّ، و «مندل» مؤسس قانون الوراثة، وهؤلاء جميعاً لهم تأثيراتهم في مجتمعاتهم وفي العالم.

على أنَّ الفقيه مستغنٍ عن الدروس الأكاديميَّة لعدم دخالة بعضٍ منها في اختصاصه بالمرَّة كعلوم البرمجيَّات والعلوم الصناعيَّة والرَّسم الهندسي والطّب مثلاً، أو لها دخالة ولكن يدرسُها في الحوزة بنحوٍ أعمق كعلوم العربيَّة من النحو والصَّرف والبلاغة.

نعم، يحتاج إلى بعض المسائل من بعض العلوم كالهندسة لحساب الكُرّ على سبيل المثال، والفلك لمعرفة مسائل الهلال بالمقدار الذي له دخالة في استنباط الحكم الشرعيّ.

ولكن مهلاً، ودعني أتريَّثُ قليلاً فأبيّنُ لكَ أنّ الفقيه يدرس ما يوازي الدراسة الإعداديَّة، وبمنهجٍ أكثر رصانةً وأشدَّ عمقاً، تشهد له على ذلك دروس المقدّمات التي يأخذها في الحوزة وسنمرُّ عليها عن قليل، هذه واحدة.

ثمَّ هاهنا واحدةٌ أخرى، وهي أنَّ المنهج الحوزويَّ يختلف عن المنهج الأكاديميّ من حيث هدف الدراسة، بل إنَّ ذلك جارٍ أيضاً في الدّراسة الأكاديميَّة نفسها، فمنهج الهندسة يدرسه الطالِبُ ليكون مهندساً، ومنهج الطبِّ يدرسه الطالب ليكون طبيباً، وكذلك منهج الحوزة يدرسه الطالب ليكون مؤهلاً لاستنباط الفتوى من مداركِها المقرّرة، وللرَّدِّ على الشبهات العقائديَّة، وليكون مبلّغاً لرسالات الله تعالى، ومرشِداً دينيَّاً.

فكما أنّ طالب الكيمياء لن يكون قادراً على البتِّ في القضايا الطبيَّة، لأنه ليس متخصّصاً فيها عن طريق الدرس والبحث والتحصيل، كذلك – لهذا السبب – لن يكون مؤهَّلاً للإفتاء في القضايا الدّينيَّة.

فكلٌّ له تخصّصه ومجالُه.

وهنا خصيصة أخرى في الحوزة تفتقدها الجامعة، وهي أن الحوزة تأكلُ من كدِّ يدها علميَّاً، وليست عالَةً في المجال المعرفيّ على غيرها، بمعنى أنّ المقارنة بين التخصّص العلميّ في مادَّة اللغة العربيَّة على سبيل المثال بين الحوزة والجامعة تُريك أنّ متون الدّراسة فيها – أعني الجامعة - في النَّحو كشرح ابن عقيل مثلاً، وفي البلاغة كالمفتاح وتلخيصه، والصرف كشذا العرف كلُّ أولئك نِتاجٌ حوزويٌّ – أعمُّ من كونها - أي الحوزة - شيعيَّةً أو سنيَّة تعتاش أروقة الجامعاتِ على موائدها العلميَّة.

وكذا في الفلسفة والمنطق ودونك الإشارات وشروحه، وحاشية ملا عبد الله وشروحها، ومنطق الشيخ المظفر ونحو ذلك.

بل لمَّا تنازلت الجامعات عن رصانة هذا المنهج بحجَّة التجديد مرة، ومواكبة التطور أخرى، ضعف مستوى طلابها إلى حدٍّ يدعو للأسف الشديد، والحسرة والدَّائمة.

الجواب عن الشقِّ الثاني من السؤال:

الدّراسة الحوزيَّة لها ثلاث مراحل، المُقدِّمات والسطح والخارج.

ويدرس فيها الطالب في الفقه تبصرة المتعلّمين للعلامة الحسن بن يوسف الحليّ – قُدِّس سره - أو الرسالة العمليَّة لبعض المراجع المعروفين كمنهاج الصالحين للسيد الخوئيّ – قُدِّس سره – ثم كتاب شرائع الإسلام للمُحقق الحليّ إبي القاسم نجم الدّين جعفر بن الحسن – قُدِّس سره – ثم ينتقل للسطوح الدُّنيا فيدرس اللمعة الدَّمِشقيَّة للشهيدين الأول والثاني – قُدِّس سرهما – ثم المكاسب للشيخ مرتضىِ الأنصاري – قُدِّس سره -، ثم البحث الخارج فيحضر بحث الخارج في العبادات وغالباً ما يكون على متن العروة الوثقى للسيد محمد كاظم اليزديّ - قُدِّسَ سرُّه -، وفي المعاملات وغالباً ما يكون على متن المكاسب.

وفي الأصول يدرس أصول الشيخ المظفَّر – قُدِّس سره – سطحاً، ثم الكفاية للشيخ محمد كاظم الآخوند - قُدِّسَ سرُّه -، ثم يدخل البحث الخارج. وفي العقدينِ الأخيرين صار بعضهم يدرس الحلقات الثلاث للسيد الشهيد محمد باقر الصدر - قُدِّسَ سرُّه - ، ثم يحضر الكفاية سطحاً فالبحث الخارج.

ولا يدرس الأصول في مرحلة المُقدَّمات لأنها تحتاج إلى خلفيَّةٍ علميَّة لاعتمادها على بعض العلوم السابقة؛ وهو ما يتمُّ الإعداد له في المقدّمات.

ويقرأ في الكلام الباب الحادي عشر للعلامة الحليّ - قُدِّسَ سرُّه - بشرح المقداد السيُّوري - قُدِّسَ سرُّه -، ثم التجريد للشيخ الطوسيّ - قُدِّسَ سرُّه -.

ويقرأ في العربية نحواً كتاباً ابتدائيَّاً كالآجروميَّة لابن آجرُّوم، وهو ينحو نحوَ أهل الكوفة، ويُثنّي بقطر النَّدى لابن هشام، ثم شرح ابن مالك بدر الدين محمد ابن جمال الدين على ألفيَّة أبيه، وبعضهم يقف هنا، وبعضٌ آخر يواصل درسه فيدرس مُغني اللبيب لابن هشامٍ المذكور، ثم الكافية لنجم الأئمَّة محمد بن الحسن الاستراباذيّ، وقد كتبها في النَّجف الأشرف.

وفي البلاغة يدرس جواهر البلاغة للسيد أحمد الهاشميّ، ثم تلخيص المفتاح لمحمد بن عبد الرحمن القزوينيّ، ثم المطوَّل لسعد الدين التفتازاني إن أحبّ.

ويدرس منطق الشيخ محمد رضا المظفر – قُدِّس سره – ثم حاشية ملا عبد الله على تهذيب التفتازاني، ثم الشمسية لنجم الدّين الكاتبيّ القزوينيّ، ومنهم من يكتفي بذلك ومنهم من يتوسَّع فيدرس بعد ذلك سلَّم العلوم أو إشارات ابن سينا.

ويدرس أيضا مباحث الدرايَّة والرجال والتفسير وآيات الأحكام والقواعد الفقهيَّة، وبعضهم يتوسَّع ليدرس الفلك القديم "الهيئة" والرياضيات والهندسة ونحو ذلك.

وتستمر هذه الدَّراسة نحو عقدين أو عقدٍ ونصفٍ من الزمان بحسب استعداد الطالب الذهنيّ وتحصيله وكدِّه العلميِّ، يتخلَّلها مباحثات علميَّة واختباراتٌ متعدّدة في أندية العلم ومجالس الدرس ومنتديات البحث، تعلو فيها حجَّة طالبٍ وتنزل فيها حجَّة طالبٍ آخر.

والدَّرس الحوزويّ فيه حريَّة النقاش، فلا رأي مقدّس هنا إلَّا ما أحاطه البرهان الساطع بنور الصحَّة، والفكرُ كالبحر فيه من الآراء زبدٌ رابٍ يذهبُ في غربال النَّقد جفاءً، وفيه جواهر تنفع الفكر تحلّي صدور الكتب، وتُزيّن نحور السطور، بخلاف الدرس الأكاديمي الذي هو عبارة عن استاذٍ يُملي وطالبٍ يكتب ويأخذ بما يقوله الأستاذ – في الغالب – أخذ المُسلَّمات فلا يُبدي رأياً ولا يخالف قولا.