كيف نفرق بين النص القرآني المحكم والنص المتشابه؟
السؤال: كيف نفرق بين النص القرآني الواضح والقطعي وبين النصوص المفتوحة والمتشابهة، لنجعل الأول حكما على الآخر، وكذا كيف نفرق بين النص التأريخي والمقيد بقرائن زمنية أو مكانية وبين النص الذي أشبه بالقاعدة الدائمة كنصوص السلم والحرب.
الجواب:
لا يخفى أنّ الاجابة عن هذا السّؤال تستوجب بحثاً مفصّلاً؛ وذلك لأنّ صيغة السؤال تدلّ على أنّ السّائل لا يبحث عن بيان معاني المحكم والمتشابه فقط، ولا يبحث عن معرفة المعيار الذي يميّز بينهما فحسب، وإنّما يبحث بشكل أساسي عن الإطار الذي على موجبه نميّز بين ما هو ثابت من الدّين وما هو منفتح ومتحوّل بحسب المتغيّرات الزمنيّة، وسوف نعمل بقدر المستطاع توضيح ما يسعى إليه السائل دون اختصار مخلّ أو إطناب مملّ، وسنستعين على ذلك بجعل الإجابة في شكل نقاط.
أولاً: المحكم والمتشابه من العناوين الإشكالية بسبب الاختلاف الذي حدث في تحديد المراد من المحكم والمتشابه، والآية التي يرجع لها هذا التقسيم هي قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)، وقد تباينت الآراء حول تفسير هذه الآية، فهناك أكثر من عشرين مورد ذكرها العلماء لبيان معنى المحكم ومعنى المتشابه، والذي يبدو أنّ التفسير الذي تميل إليه أكثر الآراء وإنْ تعددت العبارات هو:
أنّ المحكم ما كان فهمه لا يحمل إلا وجهاً واحداً. بينما المتشابه ما كان فهمه حمّالاً للوجوه.
وعبّر آخرون بالقول: إنّ المحكم ما كان نصّاً أو ظاهراً في معناه من دون الحاجة إلى قرينة. والمتشابه ما لم يكن نصّاً أو ظاهراً في معناه.
وهناك من عبّر بالقول: إنّ المحكم يمكن إدراكه بالعقل، والمتشابه ما لا يمكن إدراكه بالعقل، وغير ذلك من العبارات.
ثانياً: يلاحظ على تفسير المحكم والمتشابه أنّه يقوم على أساس فهم الآية أو عدم فهمها، وترددنا في قبول هذا التفسير يعود إلى أنّ الفهم وعدمه يتعلق بالمتلقي ولا علاقة له بطبيعة النصّ نفسه، في حين أنّ الآية قسّمت القرآن إلى محكم ومتشابه بحسب طبيعة القرآن نفسه، وبمعنى آخر: إنّ المحكم يظلّ محكماً حتى لو كان غامضاً في نظر المتلقي، والمتشابه يظلّ متشابهاً حتى لو كان واضحاً في نظر المتلقي.
وعليه: كيف يمكن تصنيف آيات القرآن وتقسيمها بحسب طبائع الناس وقدراتهم العلمية؟
ومن هنا يمكننا التأكيد على أنّ الفرق بين المحكم والمتشابه لا علاقة له بمستوى فهم الآية؛ وذلك لأنّ الفهم له علاقة بالمتلقي، ولا يمكن تصنيف آيات القرآن وتقسيمها بحسب المتلقي.
وبالتالي وصف القرآن بالمحكم والمتشابه له علاقة بطبيعة القرآن نفسه حتى لو لم يكن هناك إنسان مخاطَب به.
ثالثاً: الذي يبدو لنا والله أعلم أنّ هناك خلطاً بين معنى التفسير ومعنى التأويل، فقد أكّدت الآية على أنّ التشابه له علاقة بالتأويل وليس ناظراً من الأساس إلى التفسير وإمكانيّة فهم معاني الآيات، وإنزال التأويل منزلة التفسير وجعل كليهما بمعنى واحد لا مسوّغ له؛ فإذا كان التفسير هو كشف المراد من الآية، فإنّ ذلك أمر ميسور كما أكّدت بقيّة الآيات: يقول تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، وقال: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ)، وغير ذلك من الآيات التي جاءت في معرض الإشارة إلى كونه كتاباً مفهوماً، ولذا ختمت الآية بقوله: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، أي: أفلا تعقلون معاني القرآن ومضامينه وقد كانت بلسانكم الذي تفهمونه جيداً؟ ولو كان في القرآن آيات غير قابلة للفهم على وجهها الذي تريده الآية لما قال لهم: (أفلا تعقلون)؛ إذْ كيف يعقلون ما لا يفهمونه؟
وعليه: فإنّ القرآن كنصّ قابل للفهم بطبعه، ولا يحتوي على عبارات لا يمكن فهمها على وجهها الصحيح. وبذلك يصبح فهم معنى التأويل هو المفتاح لفهم معنى المتشابه.
رابعاً: الذي يقرّب المعنى الذي نميل إليه في تحديد معنى المتشابه هو معرفة معنى المحكم، فكلّ البحوث المهتمة بعلوم القرآن ركّزت جهدها في معرفة المتشابه بعد أنْ فرضت أنّ المحكم يعني (الواضح)، ولم تكلّف نفسها مناقشة هذا الفرض وإنّما أرسلته إرسال المسلّمات، فإذا تسالمنا على أنّ المحكم يعني الواضح أو الذي يحمل معنىً واحداً فلا بدّ حينها أنْ نفسّر المتشابه بالغامض أو الذي يحمل أكثر من معنى؛ وذلك لوجود مقابلة بين معنى الإحكام ومعنى التشابه، ومن هنا لو افترضنا معنى آخر للمحكم فسوف يتغير المسار لكل البحوث التقليدية.
خامساً: لكي نعرف معنى الإحكام لا بدّ أنْ نلحظ أولاً الوصف الذي ذكرته الآية للمحكمات، ومن ثَمّ نبحث في بقيّة الآيات عن معنى الإحكام. فقد جاء في الآية (آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب)، أي أنّ هناك آيات يعدّها القرآن أُمّاً للكتاب، وممّا لا يخفى أنّ السياق قائم على تشبيه الآيات المحكمات بالأمّ، فكأنّما جعل اللهُ الكتابَ كالبيت وجعل أمّه المحكمات، الأمر الذي يقودنا للبحث عن موقع الأمّ وما تمثله من مكانة في البيت، ومن الواضح أنّ الأمّ تمثّل الأصل والأساس والمركز للبيت، ولذا قيل أمّ كلّ شيء يعني أصله وما يجتمع إليه غيره، وبذلك يجوز لنا أنْ نفهم كلمة محكمات على أنّها الأصول والقواعد وكلّ ما يمثّل أساساً لشـيء آخر. ومن ذلك قوله تعالى: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)، والظاهر أنّ الآية تؤكّد على أنّ تفصيلات الكتاب كانت مسبوقة بالإحكام، الأمر الذي يعني أنّ تلك المحكمات بمثابة أصول ارتكزت عليها التفصيلات، وقد بيّنت آية أخرى أنّ المحكمات التي فصّلت عليها الآيات هي العلم، قال تعالى: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، أي أنّ تفصيلات الكتاب تحتاج إلى أساس ثابت تعتمد عليه وهو العلم، وإذا وضعنا الآيات الثلاثة في حالة مقابلة وتناظر سوف تصبح النتيجة كالتالي:
1- إنّ آيات الكتاب مقسّمة إلى محكم ومتشابه كما في الآية الأولى.
2- إنّ آيات الكتاب مقسّمة إلى محكم وتفصيلات كما في الآية الثانية.
3- إنّ آيات الكتاب مقسّمة إلى علم وتفصيلات كما في الآية الثالثة.
والجامع بين الآية الأولى والثانية هي كلمة المحكم، والجامع بين الآية الثانية والثالثة هي كلمة التفصيلات، وعليه يمكن أنْ نقول إنّ المتشابه في الآية الأولى يقابل التفصيلات في الآية الثانية، والمحكم في الآية الثانية يقابل العلم في الآية الثالثة، وبحكم المقابلة يمكننا أنْ نقول إنّ المتشابه يساوي التفصيلات، والمحكم يساوي العلم، وبالتالي هناك علم ثابت لا يطرأ عليه التغيير هو يمثّل محكمات الكتاب، وهناك تفصيلات قائمة على هذا العلم، وبذلك يمكننا أنْ نقول إنّ المحكم هو أصول العلم وجوامع الكلم، بينما المتشابه هو التفصيلات والمتغيّرات التي ترتكز على تلك الأصول.
وعليه: المحكم من الكتاب يمثّل الأصول والقواعد والبصائر والحِكم، بينما المتشابه هو الفروع والفتاوى والتطبيقات، وبذلك يصبح المقصود من ردّ المتشابه إلى المحكم هو ردّ الفروع الى الأصول.
سادساً: ببحث معنى التأويل تكتمل الصورة ويتّضح المعنى؛ وذلك لأنّ المحكم والمتشابه جاءا مقترنان مع التأويل، (مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)، والتأويل كما نفهم هو تطبيق الآيات على متشابهات الواقع إعتماداً على المحكمات؛ لأنّ كلمة التأويل تحمل معنيين:
الأول: تطبيق الفكرة على الواقع والبحث عما تؤول إليه في الخارج.
الثاني: إرجاع الواقع إلى الفكرة ومعرفة أوّله وأصله وقاعدته.
وكلا المعنيين يحملان معنى واحداً في المحصّلة؛ فسواء أرجعت الواقع إلى الحقيقة، أم أرجعت الحقيقة إلى الواقع، فقد قمت بعملية واحدة وهي توصيل القاعدة العامة بالموضوع الخارجي.
وردُّ المتشابه إلى المحكم ليس خاصاً بالأحكام الشرعية وإنّما يجري في العقائد والفكر وفي كلّ أمر للإسلام موقفٌ فيه؛ بل أكثر الاختلافات والصّراعات التي حدثت بين المسلمين تعود إلى تأويلات المتشابه، فمثلاً: آيات التوحيد تعتبر من الثوابت، بينما الآيات التي تحدّد من هم الكفار والمشركون في الواقع الخارجي من المتشابهات؛ وذلك لكونها تشير إلى واقع خارجيّ متغيّر ومتبدّل، فهي تنطبق على كلّ مشرك وفي كلّ زمان ومكان، ومن هنا تأتي خطورة تأويل الآيات على جماعة بعينها، كما صنع محمّد بن عبد الوهاب عندما أوّلَ آيات المشركين على أهل زمانه من المسلمين، فأحدثَ بذلك فتنة كبرى مازالت آثارها إلى اليوم، فعمد إلى تكفيرهم وإخراجهم عن الملة بحجة أنّهم هم المشركون المقصودون في تلك الآيات، ثم عمد إلى محاربتهم حتى ارتكب المجازر في حقّ مسلمي الحجاز ونجد والإحساء والعراق ما تقشعرّ منه الأبدان، وما زال أتباعه يؤوّلون آيات الشرك على المسلمين ومازالت دماء المسلمين تهدر في بلاد العالم الإسلاميّ بسبب هذا التأويل.
ومنْ هنا حذّرت الآية من اتباع المتشابهات وتأويلها خوفاً من مثل هذه الفتن، وأمرتْنا بالرجوع للراسخين في العلم في تأويل الآيات، وفي مقابل ذلك أكّدت الآية على أنّ المحكمات هي الأساس في التعامل مع الموضوعات المتشابهة والمتغيرة، فمثلاً: إذا كانت (لا إله إلا الله) هي المحكم الذي يعصم دم المسلم حينها يجب التوقف عندها وعدم تأويل آيات المشركين بمجرد الاشتباه في أنّ بعض المسلمين مشركون.
سابعاً: يتّضح من مجموع النقاط السابقة إنّ المحكم هو العقائد والقيم والحِكم والبصائر التي لا تتغيّر بتغيّر الزّمان، والمتشابه هو الموضوعات الخارجيّة المتغيّرة دوماً بتغيّر الزمان، والتأويل هو عمليّة الكشف عن محكمات القرآن التي تمثل حِكَمه وبصائره، ومن ثَمّ القيام بربط الواقع الخارجيّ بهذه القِيَم والبصائر، وبعبارة أخرى: أنّ المحكمات هي الثوابت التي لا تتغيّر ولا تتبدّل، بينما المتشابه هي المتغيّرات المحكومة بحركة الزمان.
وبنفس الطريقة يمكننا أيضاً التمييز بين الروايات والأحاديث ومجمل النصوص التاريخية، فكلّ رواية أو نصّ تاريخيّ قائم على مراعاة ظرفه التاريخي يكون محكوماً بذلك الظرف ولا يجوز تعميمه، وكلّ رواية أو نصّ تاريخي ناظر إلى الحقيقة الكليّة بعيداً عن ظرفها التاريخيّ يصحّ تعميمه في كلّ الأزمنة والأمكنة، ويتمّ ذلك من خلال ملاحظة المضمون والمعنى الذي يشير إليه ذلك النصّ، ولا يخفى أنّ هذه العمليّة معقّدة تحتاج إلى الفقهاء وأهل الخبرة والاختصاص.
اترك تعليق