المادةُ ليست أزليةً ولا أبدية.
ملحد/: ما الدليلُ على أنّ المادّة ليست أزليةً ولا أبدية؟
قبلَ الجواب لا بُدّ من معرفةِ معنى الأزلي ومعنى الأبدي.
الأزليُّ: هوَ الموجودُ الذي ليسَتْ لهُ بدايةٌ، ولا يحتاجُ في وجودهِ إلى شيء آخر.
الأبديُّ: هوَ الموجودُ الذي ليستْ لهُ نهاية.
فالموجودُ الأزليُّ والأبديُّ هو الموجودُ الذي ليستْ لهُ بدايةٌ، أي القديمُ غيرُ الحادث؛ لأنّ وجودَه بذاتهِ ومِن ذاته، فهوَ الغنيُّ في وجودِه غيرُ المفتَقِرِ إلى أيّ شيء آخر، فاعلٌ غيرُ منفَعِلٍ، مؤثِّرٌ غيرُ متأثّرٍ؛ وليستْ لهُ نهايةٌ، فلا يكونُ محَلّاً للحوادثِ والتغيّرِ والتبدُّلِ والتحوّل.
وهذا المعنى للأزليّ والأبديّ متسالَمٌ ومتّفَقٌ عليهِ بين الإلهيينَ والماديين؛ فالإلهي يؤمنُ بأنّ الخالقَ لا بدّ أنْ يكونَ أزليّاً أبديّاً، وقد أقامَ على ذلكَ المنبّهاتِ الوجدانية، والأدلّةِ العقليّةِ والنقليّةِ والعلميّةِ على أنّ الله تعالى واجبُ الوجود أزليٌّ أبديٌّ غنيٌّ بذاتِه... أمّا الماديُّ فهوَ يدّعي ذلك في المادة، لكنهُ مُجرّدُ إدّعاءٍ و لم يُثبِتْ ذلكَ بدليلٍ لا مِنَ العقل... ولا من العلوم الحديثة، ففي الحقيقة أنّ المُطالَبَ بالدليل والإثبات هو المُدّعي لأزليّة وأبديّةِ المادة؟!!
لكن مع ذلكَ نقول: الأدلّةُ على بُطلان أزليّةِ وأبديّةِ المادةِ كثيرةٌ جداً، منها العقليّةُ، ومنها الأدلةُ العلميّة الحديثة.
أمّا الأدلّة العقليةُ : فهيَ متنوّعَةٌ وكثيرةٌ، أبسَطُها إثباتُ حدوثِ العالم، مِنْ ظاهرةِ التغيّر الملازمةِ لكلّ شيءٍ فيه؛ وذلكَ لأنّ التغيّرَ نوعٌ من الحدوثِ للصّورةِ والهيئةِ والصفات. فلو نظرَنا إلى الموجودات التي تقعُ تحت مجالِ إدراكنا الحسّي في هذا الكون العظيم-ومنها الإنسانُ- لوجدنا أنّها لم تكنْ ثمّ كانت، وأنّ أشكالاً كثيرةً - صغيرةً وكبيرةً - كانتْ معدومةً في أشكالِها وصورِها ثمّ وُجدَتْ - كما تبدو لنا صورةُ التغيّراتِ الكثيرةِ الدائمةِ في كلّ جزءٍ من أجزاءِ هذه الموادّ الكونيّة التي نشاهدُها، أو نحسُّ بها، أو ندركُ قواها وخصائصَها، فمِنْ موتٍ إلى حياة، ومنْ حياةٍ إلى موت، ومنْ تغيّرٍ في الأشكالِ والصوّر إلى تغيّرٍ في الصفاتِ والقوى؛ فلو كانَ الأصلُ في هذهِ الموجوداتِ الماديّة التي ندركُها بحواسّنا هو الوجودُ الأزليّ، لم تكنْ عرضةً للتحوّلِ والتغيّر والزيادةِ والنقصِ، والبناءِ والفناء، ولم تحتجْ في وجودِها وتغيّرها إلى أسبابٍ ومؤثراتٍ، وبما أنّها عرضَةٌ للتغييرِ والتحويلِ، وبما أنّ قوانينَها تفرضُ احتياجَها إلى الأسبابِ والمؤثّرات، فلا يمكنُ عقلاً أن يكونَ الأصلُ فيها هو الوجود، وإنّما يجبُ عقلاً أن يكونَ الأصلُ فيها هو العدمُ، ولا بدّ لها من سببٍ أوجدَها من العدم، وهو الله سبحانهُ وتعالى.
وإليك قولَ صادق العترة صلوات الله وسلامه عليه :(أنّي ما وجدتُ صغيراً ولا كبيراً إلا وإذا ضُمّ إليه مثلهُ صارَ أكبر، وفي ذلك زوالٌ وإنتقالٌ عن الحالة الأولى، ولو كان قديماً ما زالَ ولا حال، لأنّ الذي يزولُ ويحولُ يجوزُ أن يوجدَ ويبطل، فيكونُ بوجودهِ بعد عدمهِ دخول في الحدث، وفي كونه في الأولى دخولُه في العدم، ولن تجتمعَ صفةُ الأزلِ والعدمِ في شيءٍ واحد.
أمّا الأدلّةُ العلميّةُ على بطلانِ أزليّة المادة فهي كثيرة..
منها: ما قد أثبتتهُ الاكتشافاتُ العلميةُ في العصر الحديث، وهو أنّ للمادةِ بدايةٌ؛ حيثُ لاحظَ العلماءُ أنّ حركةَ المادة في الكون كلّه حركةٌ دائريةٌ، فكلّ ذرّة من ذرّات الكونِ مؤلّفةٌ من جزءٍ كهربي موجبٍ، يُسمى (البروتون)، وجزءٍ كهربي سالبٍ، يُسمّى (إليكترون)،وجزءٍ ثالثٍ معتدل يُسمى (النيوترون). هذا ويشكّل البروتون والنيوترون كتلةَ النواة، أمّا الإليكترون فهو يدورُ بسرعةٍ دائريةٍ هائلة، ولولا هذا الدورانُ لجَذبتْ كتلةُ النواة كتلةَ الإليكترون، ولم يكن هناكَ إمتدادٌ لأيّ مادةٍ على الإطلاق، بل لولا هذا الدورانُ لكانت الأرضُ كلّها - كما يُقال - بحجم البيضةِ نسبةً لحجم الذرّة لو إعتبرنا الأخيرة بحجم حبّة العنب !!!!
فكلّ ذرّةٍ تدورُ في هذا الكون، والشيءُ الدائرُ لا بدّ أن تكونَ لهُ نقطةُ بدايةٍ زمانيّةٍ ومكانيّة إبتدأَ منها؛ فالمادةُ ليست أزليّة.
أمّا الأدلّةُ العلميّةُ على بطلانِ أبديّةِ المادةِ فهي كثيرةٌ جداً..
منها: ما قالهُ (جون كليفلاند كوتران) عالم الكيمياء والرياضيات : (تدلّنا الكيمياء على أنّ بعضَ المواد على سبيل الزوالِ والفناء، ولكنّ بعضها يسيرُ نحو الفناء بسرعةٍ كبيرة والآخرُ بسرعةٍ ضئيلة، وعلى ذلك فإن المادة ليست أبدية..).
النتيجةُ: لا دليلَ على أنّ المادّةَ أزليّةٌ وأبديّة، بل الأدلةُ العقليّة وهكذا العلومُ الحديثةُ، تدلُّ على أنّ المادةَ ليست أزليّةً ولا أبديّة، بل لها بدايةٌ ولها نهاية، وبهذا تسقطُ دعوى أزليّةِ وأبديّةِ المادة.
اترك تعليق