هل في الإسلام كهنة ورجال دين؟
السؤال: يقولون إنّ مدرّساً واحداً جيداً أفضل من مائة كاهن ورجل دين، وفعلاً مجتمعاتنا تضجّ برجال الدين، ولكن الفائدة التربوية صفر.
الجواب:
يبدو أنّ هذا السؤال يحتاج إلى تصحيح ما جاء فيه من مفاهيم خاطئة أكثر من كونه استفساراً أو إشكالاً يحتاج إلى جواب.
فأوّل هذه المفاهيم التي يجب الوقوف عندها هي مفهوم (رجل الدين) و(الكاهن)، وخاصّة أنّ السائل دمج بينهما، وجعلهما شيئاً واحداً، ونحن هنا لا نجادل السائل في هذا الدمج الذي أحدثه، فنحن نسلّم معه على وجود تداخل وصلة وثيقة بين المصطلحين، ولكنّنا من خلال تسليمنا بهذا التداخل سنُبدي تحفّظنا على إطلاق مصطلح رجال الدين في الوسط الإسلاميّ.
فممّا لا شكّ فيه أنّ مصطلح رجال الدين من المصطلحات الدخيلة على الثقافة الإسلاميّة، فهو لا يخلو من دلالات منحرفة، لها علاقة بالاستخدامات الكنسيّة لهذا المصطلح، إذ يشير هذا المصطلح في الثقافة الكنسيّة إلى الطبقة التي تقوم بدور الوساطة بين الخالق والمخلوق، فيحكمون في شؤون النّاس باسم السماء أو باسم الربّ، وقد مَنحت هذه الطّبقةُ نفسَها درجةً من النيابة عن الله تعالى، حتّى أصبح لهم الحقّ في التحريم والتحليل.
جاء في تعريف الكاهن - بحسب موقع الكنيسة البطريركيّة الكلدانيّة -: (كلمة « الكاهن» مشتقّ من كلمة « كُنْ » بمعنى (قِفْ)، في إشارة إلى وقوف الكاهن أمام الله، خادماً له، وممثّلاً للشعب أمامه، فهو الذي يقف على المذبح بمواجهة الله، ينقل له معاناتنا وتوسّلاتنا وأنيننا وتضرّعنا، بالمقابل ينقل منه لنا عفوه ورحمته الواسعة ومغفرته لخطايانا).
وعليه، فإنّ الكهنوت هم وحدهم مَن لهم الحقّ في تمثيل الدين وتفسيره، ولا يمكن لأيّ مسيحيّ الوصول إلى ربّه إلّا عبر هذه الوساطة.
والإشكال هو إقحام هذا المصطلح في الوسط الإسلاميّ بما يحمله من دلالات منحرفة، وهذا ما نجده واضحاً في كتابات العلمانيّين الذي طابقوا بين دلالات المصطلح في الثقافة الكنسيّة ودلالاته في الثقافة الإسلاميّة.
ومن هنا يجب التدقيق وعدم التساهل في كثير من المصطلحات، وخاصّة التي نُقلت من ثقافات أجنبيّة، ولا يُفهم من ذلك أنّنا ضدّ اصطلاح رجال الدين بالمطلق، وإنّما نتحرّز من الظِلال السلبيّة التي تستتبع هذا المصطلح.
فالقول بأنّ الإسلام فيه رجال دين قد يُحمَل على أنّ الإسلام يؤمن بمبدأ الكهنوت والوساطة، والإسلام كما هو واضح حرّم ذلك ونهى عنه، قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، وروي عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، فقال: « أمَا والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً، وحرّموا عليهم حلالاً، فعبدوهم من حيث لا يشعرون ».
ويبدو أنّ المصطلح الأنسب إسلاميّاً هو مصطلح العلماء أو الفقهاء، ونقصد بذلك مَن اهتمّ بطلب العلوم الدينية وتخصّص بها، وهذا الأمر متاح للجميع، وليس حكراً على جماعة معيّنة، بل الواجبُ على كلّ مسلم طلب العلم والتفقّه في الدين، والنصوص في هذا الشأن أكثر من أنْ تُحصى.
وقد أشرنا في إجابةٍ سابقة إلى أنّ رجل الدين في الملل الأخرى له هالة من القدسيّة تمنع من مخالفته والاعتراض عليه، في حين أنّ علماء الإسلام مع أنّ لهم قدراً من الهيبة والاحترام إلّا أنّ الخطأ أمرٌ متوقّع منهم، ولذا يجوز الاعتراض عليهم وتصحيحهم بالدليل والبرهان، فالحقّ لا يُوزن بالرجال، وإنما يُوزنُ الرجال بالحقّ، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: « إنّ دِينَ اللّه لا يُعرَفُ بالرِّجالِ بَلْ بآيَةِ الحقِّ، فاعْرِفِ الحقَّ تَعْرِفْ أهلَهُ »، وقال (عليه السلام) - لمّا أتاه الحارث بن حوط فقال أتراني -: « يا حارِثُ، إنّكَ نَظَرْتَ تَحْتَكَ ولَم تَنْظُرْ فَوقَكَ فَحِرْتَ، إنّكَ لَم تَعْرِفِ الحقَّ فتَعْرفَ مَن أتاهُ، ولَم تَعْرِفِ الباطِلَ فتَعْرِفَ مَن أتاهُ ».
وفي محصّلة ذلك، نحن لا نسلّم بوجود رجال دين كما هو الحال في الكهنوت المسيحيّ، وكلّ ما في الأمر أنّ الإسلام حضّ جميع المسلمين على طلب العلم، فمنهم مَن استجاب، ومنهم مَن أعرض.
أمّا الجزء الآخر من السؤال والذي حاول التقليل من أهميّة العلماء (رجال الدين)، فهو في الواقع مجرّد ادّعاء يعبّر عن موقفٍ مسبق وتحيّزٍ غير موضوعيّ، فما أنجزه علماء الإسلام منذ بزوغ فجر الإسلام وإلى اليوم أكثر من أنْ يُحصى أو يُعدّ، والتاريخُ الإسلاميّ زاخرٌ بعلماء الإسلام الذين كان لهم قصب السبق في الكثير من العلوم والمعارف التي خدمت البشريّة، وقد كان لجهودهم وإسهاماتهم الدور الكبير في نهضة العلوم والثقافة في الكثير من الحواضر التاريخيّة، إذ كانت لهم إسهامات في مجالات مختلفة - مضافاً إلى الفقه والتفسير وعلوم الحديث - كالرياضيّات والفلسفة والطبّ والكيمياء وغيرها، وعليه لا يمكن إهمال دورهم في تاريخ العلم والثقافة البشريّة.
والمغالطة التي وقع فيها صاحب الإشكال أنّه توهّم وجود تعارض بين مهامّ (المدرّسين) وبين مهام (علماء الدين)، فليس هناك تعارض يضطرّنا للترجيح بين المدرّس وعالم الدين، فلكلّ واحد منهما أهميّته في المجتمع، فالتأكيد على دور المدرّس وأهميته لا يلغي دور عالم الدين وأهميّتهم، وكذلك العكس فإنّ التأكيد على دور عالم الدين وأهميّته لا يلغي دور المدرّس وأهميّته، ومن هنا نحن لا نفهم الداعي لقوله: (أنّ مدرساً واحداً جيداً أفضل من مائة كاهن ورجل دين)، فمثل هذه الكلمات ليست إلّا تحيّزات بغيضة، ودعاوى فارغة لا تصدر إلّا من الحاقدين على الإسلام والمسلمين.
ومن المعلومات المغلوطة التي اعتمد عليها أيضاً هي قوله: (وفعلاً مجتمعاتنا تضجّ برجال الدين ولكن الفائدة التربويّة صفر)، والحقيقة هي عكس ذلك تماماً فالمجتمعات الإسلاميّة تعاني من قلّة الدارسين والمختصّين في العلوم الدينيّة، ولو قمنا بعمل إحصاء لعدد الحوزات والجامعات الإسلاميّة في عموم العالم الإسلاميّ لكانت النسبة أقلّ من أن تُذكر، وإذا حاولنا أنْ نرصد نسبة علماء الدين بالمقارنة مع عدد المسلمين في العالم لكانت نسبتهم تقترب من النسبة الصفريّة، فأين هذه المجتمعات التي تضجّ برجال الدين؟
أمّا قوله: (ولكن الفائدة التربوية صفر)، ففي هذا الكلام إدانة لعامّة المسلمين وليست إدانة لعلماء الدين، إذ كلّ مسلم مُطالَب بالالتزام بأحكام الإسلام وتعاليمه وآدابه، ورجال الدين لا يملكون سلطة على الناس إذا هم تمرّدوا على الالتزام، فدور العلماء هو الإرشاد والوعظ والتذكير، وبعد ذلك مَن شاء أن يستقيم ومَن شاء أن ينحرف.
اترك تعليق