القداسة بين الجمود الفكري وعدم قبول الرأي المخالف

السؤال: مفهوم القداسة هو أعظم المفاهيم التي صنعها العقل البشريّ، إذْ يمكنك إقناع أيّ شخص بأيّ فكرة حتّى لو كانت غير منطقيّة إنْ غلّفتها بغلاف القداسة، فسيتقبلها العقل الآخر من دون نقاش لأنّها فقط مقدّسة لا تقبل النقاش أو المساس، وإنْ تعرّضت لهذه الفكرة بالنقد سوف يأتيك عقاب من السماء لا مفرّ منه في الدنيا أو الآخرة، فبهذا المفهوم استُعبِد البشر وجُعلت عقولهم مغلقة، وكان هذا المفهوم سبب عصور الظلام في أوروبا وسبب تخلّف المسلمين في الحاضر، فمتى ما جعلت أفكارك قابلة للنقد والمناقشة كبر عقلك وزاد مستواك المعرفيّ وتوسّع إدراكك للأمور.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

اعلم أخي القارئ الكريم أنّ هذا النصّ كُتب في أحد مواقع الإلحاد العربيّ، لأجل تحميل القداسة مسؤوليّة التخلّف الفكريّ والمعرفيّ في العالم العربيّ والإسلاميّ، والنصُّ

كما هو واضح يحتوي على كثير من الثغرات فيما يتعلّق بالقداسة مفهوماً ومصداقاً، فالقداسة على مستوى المفهوم تحمل معانٍ لها علاقة بالطهارة والنزاهة ومجانبة كلّ ما هو دنس، فيقال شخص مقدّس عندما يكون منزّهاً عن العيوب ومبرّأً من النقائص ومن كلّ ما يعيبه ويشينه، ويقال للمكان مقدّساً عندما يكون فيه خصوصيّة تجعل منه مكاناً شريفاً وطاهراً ومباركاً، فأصل القداسة هي الطهارة والنزاهة والبركة، ففي معجم المعاني (قدَّس اللهُ فلاناً) طهّره وبارك عليه، وقدَّس اللهَ: عظَّمه وبجّله ونزّهه عمّا لا يليق بألوهيّته.

فالمقدّس - حقيقةً - هو الله تعالى، وكلّ ما هو دونه يكتسب القداسة منه وبحسب قربه وشأنه منه تعالى، فمن أسماء الله الحسنى القدّوس، وقد جاء ذكرها مرّتين في القرآن الكريم، والقدّوس تعني المبالغة في القدس والنزاهة والطهارة، يقول تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ﴾ الحشر: ٢٣. ويقول تعالى: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [الجمعة: ١].

أمّا على مستوى المصداق فقد جعل القداسة أمراً خاصّاً بالأمور الدينيّة، فالمتديّن بحسب هذا النصّ هو من يتقبّل الأفكار من دون نقاش خوفاً من عقاب السماء، وبذلك تصبح القداسةُ - كما يُزعم - مسؤولةً عن تخلّف المسلمين كما كانت مسؤولة عن تخلّف أوربا في عصر الظلام، ونحن هنا لم نفهم الداعي الذي جعله يربط بين القداسة وبين الدين، فإن كانت القداسة تعني الجمود الفكريّ كما أراد أن يُسَوّق لها، فإنّ ذلك أمرٌ شائعٌ بين جميع البشر يشمل المتديّن منهم والملحد، فالقداسة ليست وحدها المسؤولة عن السلوك البشريّ الذي يسارع نحو اليقينيّة، والقطعيّة، والجزميّة، والدوغماتيّة، فقد يكون الملحد واللا دينيّ دغمائيّ ومتحجّر لا يقبل مجرّد عرض أفكاره للنقاش، وقد يكون المتديّن أكثر انفتاحاً وقبولاً للآخر، فالقداسة ليست هي المتحكّمة في عمليّة الجمود والانغلاق الفكريّ، وإنّما هناك عامل آخر له علاقة بالحالة النفسيّة للإنسان، وهذه الحالة النفسيّة هي التي توظّف كلّ شيء بما فيه المقدّس لتجعل الذات أكثر انغلاقاً على ذاتها، ومن هنا فإنّ البحث الجدّيّ هو الذي يحفر عميقاً في كوامن النفس الإنسانية ولا يكتفي بما يظهر على السطح.

ولكي نقترب من ذلك لا بدّ أن نسأل عن الجذر النفسيّ الذي يمنع الإنسان من ممارسة النقد على أفكاره، وحتّى نجيب عن ذلك لا بدّ أن نعرف المحرّك الذي يحدّد توجّهات النفس الإنسانيّة، وحتّى لا نطيل في الكلام يمكن أن نقو:ل إنّ الذي يحرّك النفس الإنسانية هو حبّها لنفسها، فالنفس بطبيعتها محبّة لذاتها، ولذا تجدها في حالة سعي دائم لجلب كلّ منفعة لها ودفع كلّ ضرر عنها، وعليه فإنّ (حبّ الذات) أو (حبّ النفس) وبالتعبير القرآنيّ (هوى النفس) هو الذي يتحكّم في كلّ ميولها واتّجاهاتها.

ولتقريب ذلك نقول: إنّ النفس الإنسانيّة تتنازعها قوّتان؛ قوّة العقل والعلم وقوّة الهوى والجهل، فإذا كان العقل موهبة الله تعالى لهداية الإنسان، فإنّ الجهل نابع من ارتباط الإنسان بذاته وحبّه لنفسه، والحبّ من أكثر العوامل الضاغطة على الإنسان، فمن أجل إرضاء الذات تُسَخّرُ النفس كلّ طاقاتها من أجل هذه المهمّة، والتفكير واحد من تلك الطاقات التي تنجذب بشدّة نحو بؤرة الذات، فتجد الإنسان في العادة يختار أفكاره ويبني قناعاته بمعيار ذاته وشخصيّته، فالفكرة التي تنسجم مع ذاته أو تحقّق مصلحته تتحوّل بشكل طبيعيّ إلى أحد مكوّنات الذات والهويّة، وفي المقابل تجده يتعامل بشكل طبيعيّ أيضاً مع الأفكار المخالفة على أنّها مهدّدات حقيقيّة لهذه الذات؛ وذلك لأنّ الذات هي المحور وهي المعيار في قبول الأشياء ورفضها، فالإنسان بطبعه يحبّ المدح والإطراء وينفر من القدح والذمّ، وهو الأمر الذي يفسّر لنا حبّ الناس لسامع كلّ متحدّث يؤكّد قناعاتهم ونفورهم ممن ينقدها، فعندما تصبح الأفكار جزءاً من الذات فإنّ مدحها يكون مدحاً للذات وذمّها يكون ذمّاً للذات، وعندها لا يحتمل الإنسان أيّ نقد أو هجوم على تلك الأفكار ظنّاً منه أنّ ذلك نقدٌ وهجومٌ على ذاته، والإنسان بطبعه وغريزته مجبول على الدفاع عن ذاته، ولذلك يتعصّب لها ويستأسد في الدفاع عنها، ولا يمكن للإنسان قبول الفكرة المخالفة إلّا إذا تعامل مع الفكرة بوصفها شيء آخر منفصل عن ذاته، وهذه درجة من الوعي يفتقدها الكثير، وبالتالي مشكلة الانغلاق والتعصّب ليست لها علاقة بوجود المقدّس أو عدم وجوده، وإنّما لها علاقة بالذات الإنسانيّة التي تعمل على توظيف كلّ شيء لخدمة هذه الذات، فالإنسان بما هو إنسان يتعصّب لكلّ فكرة تكسبه نفعاً أو تدفع عنه ضرّاً، ويتلوّن معها بحسب الظروف وينغلق دون غيرها حتّى تعمى بصيرته ويغترّ بجهله، ولا يكلّف نفسه عناء السؤال والبحث عن الحقيقة أو الاستماع لمن ينادي بها لمجرّد الظنّ بأنّ في ذلك منقصةً لذاته التي يحبّها.

ومن حبّ الإنسان لذاته يتفرّع حبّ الآباء والبيئة والعشيرة والمجتمع مما يبعث الإنسان على تقليدهم من غير تفكّر وتدبّر، فبداعي الاحترام والخشية أو بسبب الوراثة والتربية يسلّم تسليماً مطلقاً بأفكارهم وعقائدهم، وهذا ما نبّه عليه القرآن في كثير من الآيات مثل قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾ [الأحزاب / 67 ]. وقال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾. [البقرة / 170].

ومن مظاهر حبّ الذات أيضاً (التسرّع) الناتج عن حبّ الراحة، فمن غير أن يُتْعِبَ الإنسان نفسه في البحث والتنقيب يريد أن يصدر حكمه من أوّل ملاحظة، ولذا تجد معظم الناس تركن لقناعاتها الأوّليّة وتتعايش معها، وترفض كلّ فكرة تهدّد تلك القناعات ظنّاً منها أنّها ستنزع تلك الراحة والرضا النفسيّ الذي تعوّدوا عليه، فالتفكير الدائم ومناقشة كلّ شيء يجعل الإنسان في حالة من الاضطراب وعدم الاستقرار، وهذا ما يخافه الكثير من الناس، ومن هنا قلّ المفكّرون في العالم لصعوبة التفكير والبحث، فمن يريد الحقّ لا بدّ أن يُجْهِدَ نفسه في البحث.

وهكذا لو تتبّعنا أسباب التعصّب والانحراف الفكريّ نجدها مرتبطة بهوى النفس، ومن هنا نفهم تركيز القرآن الكريم على الهوى بوصفه أهمّ عوامل الانحراف، قال تعالى: ﴿إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس﴾ [النجم/ 23]. وقال: ﴿فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا﴾ [النساء/ 135]. وقال: ﴿فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله﴾ [ص/ 26]. وقال: ﴿ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله﴾ [القصص/ 50].

وبذلك نخلص إلى أنّ سبب الجمود الفكريّ وعدم قبول الآخر حالة نفسيّة وليست عقليّة، والنفس لها قدرة على توظيف كلّ شيء بما فيه الدين من أجل هواها، ومن هنا لا يمكن أن نُحَمِّلَ الدين المسؤوليّة إذا عملت النفس على توظيفه وتسخيره من أجل مصالحها وأغراضها الشخصيّة، وهذا ما صنعته الكنيسة في عصور الظلام في أوربا، إذْ سخّرت الدين من أجل مصالح الرهبان والقساوسة، وهو فعل مدان ولا علاقة له بالدين حتّى وإن وجد في وسط المسلمين، فالمقدّس عند المسلم هو الله تعالى بوصفه الكمال المطلق، وكلّ مخلوق يكتسب مقداراً من هذه القداسة بمقدار تقرّبه من الله وتقدّسه عن كلّ نقص وشين، فالقداسة عندنا طهارة وكمال، والذي يُسَخِّرُ الدين لمصلحته غارق في الدناسة.

وإذا نظرنا إلى القرآن الكريم وجدنا آياته تدور على نقطة مركزيّة تشكّل محوراً لجميع آياته، وهي الأمر الدائم بالعقل، والتعقّل، والتدبّر، والتفكّر، في مئات من الآيات؛ وهو ممّا يكشف عن دور العقل وأهمّيّته كونه محوراً لا تكتمل المعرفة الدينيّة إلّا به، ومن هنا أفتى الفقهاء بحرمة التقليد في العقائد والمعارف الدينيّة، فكلّ مكلّف يجب أن يحقّق الفهم والوعيّ بعقائده، وذلك لا يمكن أن يتحقّق إلّا بالحجّة والبرهان المؤيّد بالعقل.