الحكمة من رمي الإمام الحسين "عليه السلام" بدمه الطاهر نحو السماء..!.

السؤال: ما التفسير أو الغاية التي من أجلها رمى الإمام الحسين "عليه السلام" بدمه الطاهر نحو السماء..؟!.

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم، الأخ السائل الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإنّه يمكن استظهار أكثر من علّة غائيّة لذلك ، ونحن سنعرض لك أهمّ ما ذُكر في المقام:

التعليل الأوّل: وهو ما ذكره سماحة آية الله العظمى السيّد محمّد صادق الروحانيّ "قدّس سرّه" في بعض أجوبة استفتاءاته، جاء ما نصّه: (( الثابت أنّ سيّد الشهداء "عليه السلام" رمى بدم ابنه الرضيع "عليه السلام"، وكذا بدمه الطاهر أيضاً لمّا أصابه السهم المثلّث في قلبه المقدّس، فلم ترجع من ذلك ولا قطرة واحدة من الدم ، والسرّ في ذلك هو المنع من نزول العذاب على القوم. )) [قربان الشهادة: ص46].

وهذا التعليل منسجم مع ما عُرِفَ من أخلاق سيّد الشهداء "عليه السلام" ، إذْ لا يبعد عنه ذلك وهو ابن رسول الله "صلّى الله عليه وآله" والمتخلّق بأخلاقه النبويّة التي قال الله تعالى فيها: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4] ، فالحسين وسائر أئمّة أهل البيت "عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأتمّ التسليم" إنّما أوجدهم الله تعالى من باب اللّطف بعباده والرحمة لهم، فلا يمكن أن يخرج وجودهم القدسيّ المبارك عن حدود وجود رسول الله "صلّى الله عليه وآله" الذي قال تعالى في حقّه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107] ، فمع أنّه "صلّى الله عليه وآله" كثيراً ما كان يلاقي صنوف الأذى والإساءة من أعدائه حتّى قال:(( ما أوذي نبيٌّ مثل ما أوذيت ))[الوافي للفيض الكاشانيّ:ج2،ص235] إلّا أنّ ذلك لم يمنع من مقابلته الإساءة بالإحسان ، وأن يدعو للناس جميعاً بالهداية وحسن المآب.

التعليل الثاني: أن يكون ذلك لأجل الطلب بثأره "عليه السلام" وأنّه أراد أن يكون الطالب به هو الله تعالى سواء بذاته المقدّسة بشكل مباشر أو على يد وليّه الأعظم الإمام المهديّ المنتظر "عجّل الله تعالى فرجه الشريف" ؛ إذْ هو المنصوص عليه بوصف ( الطالب بدم المقتول بكربلاء ) كما في دعاء النّدبة ..!.

وهذا تعليل متين أيضاً، وتشهد له: رواية مسلم بن رباح ، قال ابن عساكر: أنبأنا الخطيب، أنبأنا الحسين بن محمّد الخلّال، أنبأنا عبد الواحد بن عليّ القاضي، أنبأنا الحسين بن إسماعيل الضبّيّ، أنبأنا عبد الله بن شيب، حدّثنا إبراهيم بن المنذر، حدّثني حسين بن زيد بن عليّ بن الحسين، عن الحسن بن زيد بن حسن بن عليّ، حدّثني مسلم بن رباح مولى عليّ بن أبي طالب [ عليه السلام]، قال: كنتُ مع الحسين بن عليّ "عليهما السلام" يومَ قُتِلَ، فَرُمِيَ في وجهِهِ بنشابَةٍ، فقال لي: يا مسلم! أَدْنِ يديكَ من الدَّمِ. فأدنيتهما، فلمّا امتلأتا قال: اسكبهُ في يَدَيَّ، فسكبته في يده، فَنَفَحَ بهما إلى السماء، وقال: { أللّهُمَّ اطْلُبْ بِدَمِ ابْنِ بِنْتِ نَبِيِّكَ }. قال مسلم: فما وقع منه إلى الأرض قطرة. ))[تاريخ ابن عساكر في ترجمة الإمام (ع) : ، كفاية الطالب للكنجيّ الشافعيّ:ص284 طبعة الغريّ] ، كما ويشهد له أيضاً نصوص كثير من الزيارات ؛ إذْ جاء فيها الأمر بالسلام على سيّد الشهداء "عليه السلام" بهذا الوصف: (( السلام عليك يا ثار الله )).

التعليل الثالث: يمكن أن يكون ذلك لأجل غرض رساليٍّ ، وهو أن تتّخذَ السماء على عاتقها التعريفَ به "عليه السلام" وتخليد نهضته المباركة ونشر مبادئها وأهدافها من خلال تخليد دمه الزاكيّ، فقد جاء في بعض زياراته: (( أَشهَدُ أنّ دَمَكَ سَكَنَ في الخُلدِ واقشَعَرَّتْ له أَظِلَّةُ العَرشِ...)) فيكون ذلك طلباً لنصرة الدمّ على السيف. وبهذا يمكن وصول مبادئ النهضة وقيمها إلى الناس جميعاً فيستلهموا منها الدروس والعبر، بعد أن اجتهد بنو أميّة في إخفاء معالمها، واستنزفوا آلتهم الإعلاميّة من أجل تشويه صورة تلك النهضة الربّانية والتقليل من شأنها فأشاعوا في الناس أنّ خروج الحسين "عليه السلام" لم يكن إلّا كانت طلباً للسلطة، كما أنّهم عمدوا إلى حجب المعركة وعزلها في كربلاء بعيداً عن أنظار الرأي العام إتماماً لمشروعهم هذا. كما واجتهدوا في الحطّ من قدسيّة سيّد الشهداء "عليه السلام"، فأنكروا أن يكون سيّد شباب أهل الجنّة ونعتوه بالخارجيّ حتّى احتاج إلى أن يستشهد لبعض مقاماته بجابر بن عبد الله الأنصاريّ وسهل بن سعد الساعديّ في ذلك..! وقد سبق لهم ذلك مع بيعة الغدير وصاحبها، حتّى صار أمير المؤمنين "عليه السلام" يشتم على المنابر عقوداً من الزمن رغم رصيده التاريخيّ الكبير..! ، بل حاولوا إخفاء معالم الجسد الطاهر للمولى أبي عبد الله ، حين عرّضوه للرَضِّ بخيولهم ، ثمّ تبعهم بنو العبّاس فقصدوه في قبره الشريف، لينبشوه عدّة مرات، إمّا بقصد إخفاء معالمه ، أو رغبةً في التمثيل بالجسد الطاهر..!.[انظر مقاتل الطالبيّين:ص428، وأمالي الطوسيّ:ص326].

ويؤيّد هذا التعليل: قول العقيلة زينب الكبرى "عليها السلام" ليزيد "عليه لعائن الله": ((....فكد كيدك واسعَ سعيَك ، وناصب جهدك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها، وهل رأيك إلّا فند ، وأيّامك إلّا عدد ، وجمعك إلّا بدد ، يوم يناد المنادي ألَا لعنة الله على الظالمين...))[بحار الأنوار:ج45،ص135] ، وأوضح منه تأييداً قولها "عليها السلام" للإمام زين العابدين "عليه السلام": ((...ولقد أخذ الله ميثاق أُناس مِن هذه الأمّة لا تعرفهم فراعنة هذه الأمّة ، وهم معروفون في أهل السماوات أنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة فيوارونها ، وهذه الجسوم المضرّجة وينصبون لهذا الطفِّ علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء ، لا يُدرَسُ أَثَرُه ولا يَعفُو رسمُه على كرور الليالي والأيّام ، ولَيَجتَهِدَنَّ أئمّة الكفر وأشياع الضّلالة في محوه وتطميسه ، فلا يزداد أثره إلّا ظهوراً ، وأمره إلّا عُلُوَّاً...)) [كامل الزيارات لابن قولويه:ص444] ، ومن الواضح أنّ بقاء الحسين "عليه السلام" صامداً بوجه الطغاة إلى يومنا هذا بل إلى يوم القيامة إنّما هو بإرادة وعناية ربّانية.

كما يؤيّد هذا التعليل: ما رواه شيخ الطائفة مسنداّ عن أبي عبد الله الصادق "عليه السلام" أنّه قال: (( لمّا قدم عليّ بن الحسين "عليهما السلام" وقد قُتل الحسين بن عليّ "صلوات الله عليهما" استقبله إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله ، وقال: يا عليّ بن الحسين ، من غلب..؟! وهو مغطّي رأسه ، وهو في المحمل. قال: فقال له عليّ بن الحسين: إذا أردت أن تعلم مَن غَلب ، ودخل وقت الصلاة ، فأَذِّنْ ثمّ أَقِمْ..!))[أمالي الطوسيّ:ص677].

التعليل الرابع: أن يكون لذلك بُعد إنسانيّ وأخلاقيّ، فالحسين "عليه السلام" هو آخر عِلل التكوين والبقيّة من أصحاب الكساء "صلوات الله وسلامه عليهم"، وقد روى الصدوق بسنده عن عبد الله بن الفضل الهاشميّ قال:(( قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق "عليه السلام": يا بن رسول الله، كيف صار يوم عاشوراء يومَ مصيبةٍ وغمٍّ وجزع وبكاء دون اليوم الذي قبض منه رسول الله صلّى الله عليه وآله واليوم الذي ماتت فيه فاطمة عليها السلام واليوم الذي قتل فيه أمير المؤمنين "عليه السلام" واليوم الذي قتل فيه الحسن "عليه السلام" بالسمّ..؟!. فقال: إنّ يوم الحسين "عليه السلام" أعظمُ مصيبةً من جميع سائر الأيّام ؛ وذلك أنّ أصحاب الكساء الذين كانوا أكرم الخلق على الله تعالى كانوا خمسةً ، فلمّا مضى عنهم النبيّ "صلّى الله عليه وآله" بقي أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين "عليهم السلام" فكان فيهم للناس عزاءٌ وسلوةٌ، فلمّا مضت فاطمة "عليها السلام" كان في أمير المؤمنين والحسن والحسين للناس عزاء وسلوة، فلمّا مضى منهم أمير المؤمنين "عليه السلام" كان للناس في الحسن والحسين عزاء وسلوة، فلمّا مضى الحسن "عليه السلام" كان للناس في الحسين "عليه السلام" عزاء وسلوة، فلمّا قتل الحسين "عليه السلام" لم يكن بقي من أهل الكساء أحدٌ للناس فيه بعدَه عزاءٌ وسلوةٌ، فكان ذهابه كذهاب جميعهم كما كان بقاؤه كبقاء جميعهم، فلذلك صار يومه أعظمَ مصيبةً... الحديث ))[علل الشرايع للصدوق:ج1،ص225 ، وسائل الشيعة:ج14،ص504] ، فكأنّه "عليه السلام" أراد بذلك أن تخلّد السماءُ ذكر مصابه والحزنَ عليه ؛ لما فيه من تكامل في النفوس وإحياء للقلوب كما يشهد به وجدان كلّ مؤمن وضميره، فعن هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله الصادق "عليه السلام" قال: ((كنّا عنده فذكرنا الحسين "عليه السلام"، فبكى أبو عبد الله "عليه السلام" وبكينا ، قال: ثمّ رفع رأسه ، فقال: قال الحسين "عليه السلام": أنا قتيل العَبرة لا يذكرني مؤمن إلّا بكى )) [كامل الزيارات لابن وقولويه:ص216] ؛ ولهذا قال في البحار: ((...وما عرفت الحمرة في السماء حتّى رمى الحسين عليه السلام بدمه إلى السماء ))[بحار الأنوار:ج45،53] ، وقريب منه ما جاء في كتب العامّة ، فعن محمّد بن سيرين قال: (( لم تكن تُرى هذه الحمرة في السماء حتّى قُتل الحسين بن عليّ)) [انظر تاريخ دمشق لابن عساكر:ج14،ص228 ، تاريخ الإسلام للذهبيّ:ج5،ص15 ، المحاضرات والمحاورات للسيوطيّ:ص79] ، وعن كعب الأحبار قال لبعضهم: (( أظنّكم تهوّنون قتل الحسين..؟! ، أَوَ لا تعلمون أنّه يُفتَحُ كلَّ يومٍ وليلةٍ أبوابُ السماء كلُّها ، ويُؤذِنُ للسماء بالبكاء ، فتبكي دماً عبيطا..؟! ، فإذا رأيتم الحمرة قد ارتفعت من جَنَباتُها شرقاً وغرباً فاعلموا بأنّها تبكي حسيناً ، فتظهر هذه الحمرة في السماء...))[الفتوح لابن أعثم الكوفيّ:ج4،ص327].

فإذا عرفت ذلك فاعلم أخي السائل الكريم أنّ جميع التعليلات المتقدّمة يمكن قبولها وصحّتها معاً؛ إذ لا مانع من اجتماع عدّة علل غائيّة على موضوع واحد ، قال تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى}[طه: 17 – 18] ، هذا ما وفّقنا الله تعالى إليه من الجواب .. ودمتم سالمين.