السرّ في إطلاق لقب ( ابن الخيرتين ) على الإمام زين العابدين "عليه السلام"..!.
السؤال: ((السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، ما معنى قول الإمام عليّ السجّاد "عليه السلام": أنا ابن الخيرتين..؟ ، ما هو المقصود بابن الخيرتين..؟.))
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الأخ السائل الكريم ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. للإجابة عن سؤالكم لا بدّ من الوقوف على توطئة مهمّة ترتبط بما ترومون الوصول إليه، وهي أنّ أهمّ ما تتميّز به أسماء أئمّة أهل البيت وألقابهم "عليهم السلام" هو ثلاثة أمور:
الأمر الأوّل: هو وجود مناشئ انتزاع حقيقيّة وواقعيّة وراء تلك الأسماء والألقاب، فهي مرآة تعكس كمال المعصوم "عليه السلام" وتحكي عن بعض خصائصه ومقاماته القدسيّة وصفاته الحميدة ، - ومن ذلك لقب "ابن الخيرتين" كما سيتّضح لاحقاً - ، وهذا بخلاف ألقاب مَن سواهم ، كألقاب بني العبّاس - مثلاً - فلا الرشيد كان رشيداً في سلوكه وحكومته ، ولا المأمون مأموناً على الإسلام والمسلمين..!.
الأمر الثاني: أنّ أسماء وألقاب وكنى أهل البيت "عليهم السلام" أيضاً ، إنّما تثبت لهم وتطلق عليهم بواسطة نصوص شرعيّة ، أي أنّها من وضع الشارع المقدّس ، سواء من خلال التصريح بها ، أو عن طريق الإرشاد إلى منشأ انتزاعها ، وبهذا يُفسَّر ويُبَرَّر إطلاق عوامّ الناس عليهم بعض الألقاب غير المنصوصة ، فإنّها إمّا أن تكون مستفادة من بعض النصوص كما في إطلاقهم كنية ( أبو صالح ) على الإمام المهدي "عَجَّلَ اللهُ تعالى فَرَجَهُ الشّريف" ، بعد ملاحظتهم النصوص التي تصفه بأنّه المصلح العالميّ الذي تنتظره البشريّة ، وإمّا تستفاد من ملاحظة أفعالهم "عليهم السلام" وأحوالهم الكماليّة فينتزع العوامّ منها ألقاباً ويطلقونها عليهم ، كما في إطلاقهم لقب ( كريم أهل البيت ) ، فإنّه منتزع من اشتهار الإمام الحسن المجتبى "عليه السلام" بالسخاء والجود.
الأمر الثالث: هو وجود الحكمة والغاية وراء جميع تلك الأسماء والألقاب والكنى[للوقوف على الكثير من تلك العلل انظر كتاب علل الشرايع للشيخ الصدوق] ، ولا تخرج تلك الحكمة أو الغاية عن حدّ الإيجابيّة في حياة الأمّة ، فمثلاّ كنية أبي الأحرار لمولانا سيّد الشهداء الحسين "عليه السلام" واضحة الإرشاد إلى استلهام دروس الحريّة منه ومن نهضته المباركة ، وكذا حينما يُطلَقٌ عليه لقب ( أَبيّ الضَّيم ) ، فإنّ فيه شحنة معنويّة نحو ضرورة العيش بإِباءٍ وكرامة، وهكذا دواليك في جميع ما لهم "عليهم السلام" من تلك التسميات والألقاب ، وسنقف إن شاء الله تعالى لاحقاً على أكثر من "غاية مستنبطة" تكمن وراء لقب ( ابن الخيرتين )..!.
فإذا عرفت ذلك فقد جاء في بعض الروايات أنّ الإمام زين العابدين "عليه السلام" هو الذي أطلق على نفسه هذا اللقب. [انظر مناقب ابن شهر آشوب:ج3،ص304] ، في حين جاء في روايات أخرى – كما في رواية الكافي الآتي ذكرها - أنّ الناس هم الذين أطلقوه عليه. والأمر سهل مادام الجمع بين الروايتين ممكناً، وإنّما المهمُّ هو الوقوف على منشأ انتزاع هذا اللّقب والمصحّح الشرعيّ لإطلاقه، فقد صرّح علماء العامّة بأنّه منتزع من قول النبيّ الأكرم "صلّى الله عليه وآله": ((لله تعالى من عباده خيرتان: فخيرته من العرب قريش ، ومن العجم فارس))، فقريش – بحسب الرواية العاميّة - وفارس هما خير الأعراق والأنساب..!. [انظر وفيات الأعيان لابن خلّكان: ج3،ص267 ، ربيع الأبرار للزمخشريّ:ج1،ص334 ، الوافي بالوفيات للصّفديّ:ج20،ص231 ، معارج الوصول للزرنديّ الحنفيّ:ص107 ... وغيرهم الكثير]. فالإمام "عليه السلام" جمع بين النبوّة من جهة كونه من نسل رسول الله "صلّى الله عليه وآله" وبين الملوكيّة من جهة أمّه شهربانويه إحدى بنات كسرى يزدجرد الثالث آخر ملوك الفرس والذي سقطت في وقته إمبراطوريّة فارس على أيدي المسلمين ، فقد جيء بها مع أختين لها سبايا في خلافة عمر بن الخطّاب - كما هو المشهور - فكانت من نصيب الإمام الحسين "عليه السلام" وأنجبت له زين العابدين "عليه السلام"[انظر السيرة الحلبيّة:ج2،ص222 ، مرآة الجنان لليافعيّ:ج1،ص151 ، ربيع الأبرار للزمخشريّ:ج3،ص351 ، التذكرة الحمدونيّة لابن حمدون:ج9،ص191 ، وغيرهم] ، هذا ما في كتب العامّة.
وبمثله جاءت روايات مذهبنا، فعن جابر ، عن أبي جعفر [الباقر] عليه السلام قال: ((لَمَّا أُقْدِمَتْ بِنْتُ يَزْدَجَرْدَ عَلَى عُمَرَ أَشْرَفَ لَهَا عَذَارَى الْمَدِينَةِ ، وأَشْرَقَ الْمَسْجِدُ بِضَوْئِهَا لَمَّا دَخَلَتْه ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا عُمَرُ غَطَّتْ وَجْهَهَا ، وقَالَتْ: " أُفٍّ بِيرُوجْ بَادَا هُرْمُزْ " [هذا كلام فارسي معناه: ليت هرمز لم يكن فان ابنته أُسرت بصغر ونظر إليها الرجال] ، فَقَالَ عُمَرُ: أتَشْتِمُنِي هَذِه..! ، وهَمَّ بِهَا ، فَقَالَ لَه أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ "عليه السلام": لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ ، خَيِّرْهَا رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ واحْسُبْهَا بِفَيْئِه ، فَخَيَّرَهَا فَجَاءَتْ حَتَّى وَضَعَتْ يَدَهَا عَلَى رَأْسِ الْحُسَيْنِ "عليه السلام" ، فَقَالَ لَهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: مَا اسْمُكِ..؟ ، فَقَالَتْ: جَهَانْ شَاه فَقَالَ لَهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ "عليه السلام": بَلْ شَهْرَبَانُوَيْه ، ثُمَّ قَالَ لِلْحُسَيْنِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّه ، لَتَلِدَنَّ لَكَ مِنْهَا خَيْرَ أَهْلِ الأَرْضِ ، فَوَلَدَتْ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ "عليه السلام" وكَانَ يُقَالُ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ "عليه السلام" - ابْنُ الْخِيَرَتَيْنِ فَخِيَرَةُ اللَّه مِنَ الْعَرَبِ هَاشِمٌ ومِنَ الْعَجَمِ فَارِسُ. ورُوِيَ أَنَّ أَبَا الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيَّ قَالَ فِيه: وإِنَّ غُلَاماً بَيْنَ كِسْرَى وهَاشِمٍ * لأَكْرَمُ مَنْ نِيطَتْ عَلَيْه التَّمَائِم)) [الكافي لثقة الإسلام الكلينيّ:ج1،ص467].
وبناء على أنّ الإمام "عليه السلام" هو من أطلق على نفسه هذا اللّقب، فلا بد ّمن وجود غاية لذلك، والذي يلوح في الأفق من ذلك هو غايتان تكشف عنهما طبيعة المرحلة التي كانت في عصره "عليه السلام":
فأمّا الغاية الأولى: فهي مواجهة ما أذكاه بنو أميّة في عصره "عليه السلام" من فتنة القوميّة" بين أوساط المسلمين ، وخصوصاً في الكوفة التي بدأت آنذاك باستعادة ولائها لأهل البيت "عليهم السلام" وقامت بعدّة ثورات ضدّ الأمويّين شارك فيها العرب والفرس على حدٍّ سواء ؛ لذا سعى الأمويّون إلى تفكيك البيت الشيعيّ من خلال إلقاء فتنة التفرقة بين أبناء القوميّتين العربيّة والفارسيّة ، حتّى كاد الاقتتال أن يقع بين الطرفين ، ولا يخفى ما لتصريح الإمام "عليه السلام" بهذا اللّقب من ترطيب للأجواء ووأد للفتنة بين الطرفين ، واستبطانه الدعوة إلى احترام القوميّات.
وأمّا الغاية الأخرى: فتكمن في مواجهة الإمام "عليه السلام" لما شاع في عصره من التعتيم الإعلاميّ الذي مارسه الأمويّون على نسب آل البيت "عليهم السلام" والتجهيل بقرابتهم من النبيّ "صلّى الله عليه وآله" ، فنجد ركب السبايا يدخل الشام مع جهل أهلها بأنّه يحمل عقائل النبوّة ومخدّرات الوحيّ ، حتّى جرت الحادثة الشهيرة بين الإمام "عليه السلام" وبين الشيخ الشاميّ الذي اعتقد كونهم من الخوارج ومثيريّ الفتن[انظر جامع البيان للطبريّ:ج22،ص12، الصواعق المحرقة لابن حجر:ص230 ، فضل آل البيت للمقريزيّ:ص32 ، الاحتجاج للطبرسيّ:ج2،ص33 وفيه تفصيل الحادثة] ؛ ولذا نجد الإمام "عليه السلام" قد استهلّ خطبته في مجلس يزيد بالتعريف بنفسه وبمدى قرابته من رسول الله "صلّى الله عليه وآله" [انظر الفتوح لابن أعثم الكوفيّ:ج5،ص132 وما بعدها]. هذا ، واستمرّ التعتيم على نسبهم "عليهم السلام" في ذلك العصر حتّى وقعت الحادثة الشهيرة التي أنكر فيها هشام بن عبد الملك معرفته للإمام "عليه السلام" ، وذلك في مكّة عند البيت الحرام حين مجيئه "عليه السلام" لاستلام الحجر الأسود فصار الناس سماطين وفتحوا له الطريق ، فتساءل أهل الشام من هشام عنه فقال لا أعرفه..! ، فأجابه الفرزدق بقصيدته العصماء: ((هذا الذي تعرف البطحاء وطأته......القصيدة )) [انظر تمام القصّة والقصيدة في تهذيب الكمال للمزّيّ:ج20،ص401 ، سير أعلام النبلاء للذهبيّ:ج4،ص398 ، تاريخ دمشق لابن عساكر:ج41،ص400] ، فكأنّ الإمام "عليه السلام" أراد بقوله: ( أنا ابن الخيرتين ) التعريف بنفسه ونسبه الذي دأب الأمويّون على تجاهله وتضليل الناس عنه. هذا ما وَفْقنا الله إليه من الجواب، ودمتم سالمين.
اترك تعليق