كيف نثبت وجود عالم الغيب لمن لا يؤمن بالنصوص الدينية؟
السؤال: يدّعي المسلمون وجود عالم الغيب، من خلال الاعتماد على النصوص القرآنيّة والروائيّة لديهم، فكيف يمكن إثبات ذلك العالم لغير المؤمن بتلكم النصوص، سواء من الملحدين، أو من أهل الكتاب، وأضرابهم؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم - أيّدك الله - أنّ الغيب كما ورد في معاجم اللّغة العربيّة هو الشيء المخفيّ عنك وغير المُدرك بالحواسّ، إذ ورد عن الفراهيديّ أنّه: (كلّ شيء غاب عنك فهو مُغيَّب ومخفيّ عنك) [العين ج4 ص455]، وورد عن ابن منظور أنّه: (كلّ ما غاب عنك، وشككت به، وجمعه غِياب وغُيوب) [لسان العرب ج1 ص654]: أمّا اصطلاحاً فهو: (الذي لا يقع تحت الحواسّ، وإنَّما من خلال الأنبياء (عليهم السلام)، وبدفعه يقع الإلحاد) [المفردات للراغب ص366]، وعرّفه الواحديّ بقوله: (هو ما غاب عن الحسّ، ويدرك من خلال الدليل) [التفسير البسيط ج2 ص69]، وعرّفه سعيد بن أحمد الهنديّ: (بأنَّه الأخبار الواردة من الله تعالى، أو من النبيّ (صلّى الله عليه وآله) التي لا يمكن للعقل البشريّ الوصول إليها) [الاستشراق على المنهج العقديّ ص463].
إذنْ: فالغيب ما غاب عن الحواسّ، أو ما لا يقع تحت الحواسّ، ونتوصّل إلى معرفته بالخبر الصادق، وبالآثار التي تدلّ عليه، فالغيب عكس الشهادة، إذْ إنَّ الشهادة هي حضور الشيء ومشاهدته وإدراكه، فالغيب إذنْ عكسه تماماً لا يمكن إدراكه بالحواسّ، ولا يمكن مشاهدة عينه، وإنّما يمكن الاستدلال عليه من خلال آثاره.
وبالتالي، فمن المغالطات المنطقيّة أن ترى الشيء وتسمّيه غيباً، إنّما الغيب كما تقدّم هو في الأشياء غير المدركة من خلال الحواسّ، وإنّما يُعلم بطريقين:
الطريق الأوّل: من الأخبار الواردة عن الله تعالى بوساطة الأنبياء والرسل (عليهم السلام).
الطريق الثاني: من خلال الاستدلال المنطقيّ، عِبر دلالة الأثر على المؤثّر، ومشاهدة الآثار المترتّبة عليه.
لكن يبقى السؤال، ما هو الغيب المسؤول عنه؟ فالغيب يمكن تقسيمه الى لحاظات ثلاثة:
اللّحاظ الأوّل: أخبار الماضي الحاصلة، ويمكن الوصول إليها من خلال الآثار التأريخيّة، أو الأحفوريّات، وبالتالي ليست هي المقصودة، رغم أنَّها غيب عند البعض وشهود عند البعض الآخر.
اللّحاظ الثاني: قضايا الحاضر الآني، والمستقبل، التي لم تقع، وهذه القضايا يمكن التنبؤ ببعضها، كما في معرفة أحوال المُناخ، أو وقوع الزلازل، ونحوها من الأمور الثابتة، التي لا يزال العلم يعمل بها، وهذا القسم ليس من الغيب الوارد عنه السؤال أيضاً؛ لأنّه غيب عند البعض، وشهود عند الآخر.
اللّحاظ الثالث: الإيمان بالله تعالى، وأحوال الإنسان ما بعد الموت، والجنّة والنار، وعذاب القبر، ونحوها، فهذه المغيّبات إنَّما جاءت بوساطة أخبار عن الله عزّ وجل، والإيمان بها فرع دخول الإنسان للدين الإسلاميّ الحنيف، ومع ذلك يمكن الاستدلال عليها من خلال العقل.
ففي الخبر الوارد عن الإمام الصادق (ع): قال أبو حامد: سأل رجل جعفر بن محمّد (عليهما السلام) فقال له: ما الدليل على اللّه تعالى، ولا تذكر لي العالم والعرض والجسم والجوهر؟ فقال له: «هل ركبت البحر؟ قال: نعم، قال: فهل عصفت بكم الريح حتّى خفتم الغرق؟ قال: نعم، قال: فهل انقطع رجاؤك من المركب ومن الملّاحين؟ قال: نعم، قال: فهل تتّبعت نفسك أنْ ثمّ من يُنجيك؟ قال: نعم، قال: فإنّ ذلك هو اللّه سبحانه وتعالى» [البرهان في تفسير القرآن ج1 ص166]، وفي [البصائر والذخائر ج6 ص36].
فلاحظ أخي الكريم أنّ الإمام الصادق (ع) - في الخبر المتقدّم - علّم طريقة الاستدلال العقليّ، من خلال الانتقال من الأثر الى المؤثّر، على الرغم من أنّهما غيبيّين، فتعلّق من ركب البحر بشيء ما في أثناء الغرق فهو غيب، ومن تعلّق به غيب يجهله أيضاً، وهو مؤمن بهما رغم أنَّه لم يدرك التعلّق بمشاهدة أو تجربة، وهكذا باقي الأمور التي جاءت بها الشريعة الإسلاميّة من المغيّبات، كالجنّة والنار، فهي جزاء الأعمال التي قام بها الإنسان في هذه الدنيا، من خلال اعتماد السائل نفسه على مبدأ العلل، فلا يمكن حصول سبب ولا تحصل معه نتيجة، ولأنّ نتيجة أعماله لم تظهر في هذه الدنيا، فلا بدّ من ظهور النتيجة في عالم آخر، وهو ما نسمّيه بالحساب.
ثم إنَّ السائل الكريم يؤمن بكثير من المغيّبات التي لا يمكنه إدراكها سوى بمشاهدة آثارها، كقوانين نيوتن في علم الفيزياء، أو نسبيّة أنيشتاين، وغيرها من قوانين الفيزياء والكيمياء وباقي العلوم، بل الأرقام الرياضيّة ما هي إلّا فرضيّات للأعداد عند التعامل معها، إذ لا وجود في الخارج والواقع سوى العدد (الواحد)، فكيف آمن بشيء لم يشاهده بالحسّ، أو لم يثبته بالمختبر؟ وكذلك الإنسان يشعر بالحبّ وهو لا يراه، ويخاف من أشياء ولا يعلم أين هو الخوف وكم مقداره، ويتمرّض ويتألّم رغم عدم مشاهدته سوى آثار المرض والألم، وحتّى الحاذق المختصّ لا يعلم سوى بجزئيّات الخوف، والمرض، والسعادة، ونحوها.
فيأتي هذا السؤال نتيجة الضيق في المعرفة، وأدواتها، فبعض العلوم تأتي بالمشاهدات المدركة من قبل الحواسّ المعروفة، كالألوان، وخشونة الأجسام أو نعومتها، وبعضها يأتي من خلال التجارب المختبريّة ونحوها، كتحليل الماء الى عناصره، وبعضها ما لا مقدار فيزيائيّ له، كالحبّ والبغض والألم، وبعضها يستحيل الإحاطة به، سوى معرفة آثاره، كقوانين الفيزياء وباقي العلوم التطبيقيّة.
وأخيراً، فقد صرّح القرآن الكريم في قوله تعالى: {فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة/ 2 - 3)، فغير المتّقي لا يمكنه الإيمان بالغيب والمغيّبات، التي جعلت شرطاً في حصول أُولى درجات التقى لديه. والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق