العلمُ بالغَيبِ لا يَعني مُخالفةُ المحتومِ.
سلمانُ /: عِلمُ الأَئِمَّةِ بالغَيبِ كِذبةٌ وإِلَّا لَمَا وجدنا أَنَّ بعضَهم يَموتُ مَسموماً - كما يَقولونَ-، فأَينَ عِلمُ الغَيبِ؟!
الأَخ سلمان المحترم، السَّلام عليكم ورحمةُ ٱللهِ وبركاتُهُ
الجوابُ على هذا السُّؤالِ نَقْضَاً وَحَلَّاً:
أَمَّا النَّقْضُ: فقد ثَبَتَ مِن مَروِيَّاتِ أَهلِ السُّنةِ أَنَّ عمرَ بْنَ الخطَّابِ قد عَلِمَ الغَيبَ ونادى سَارِيةَ بْنَ زَنيم الَّذي بَعَثَهُ قائداً على إِحدى الجُيُوشِ لِبلادِ فارس ، فناداه وهو في المدينة: يا ساريةُ الجبلَ ، يا ساريةُ الجبلَ، فاستندَ ساريةُ إِلى الجبلِ وتحقَّقَ لهم النَّصرُ على جيشِ الفرسِ [ أُنظُر : البدايةَ والنهايةَ لابْنِ كثير 7: 147 ، قال: هذا إِسنادٌ جيِّدٌ حَسَنٌ ... ويُقَوِّي بعضَه بعضَاً، وسلسلةُ الأَحاديثِ الصَّحيحةِ لِلأَلبَانِيِّ 3: 101].
وكذلكَ أَخرجَ الأَلبَانِيُّ في "إِروَاءِ الغليلُ" ج6 ص 61 حديثَ إِخبارِ أَبي بكر بما في بَطْنِ زوجتِهِ وأَنَّها أُنثَى ، وصَحَّحَهُ.
قال ابنُ تَيميًّة في " مجموعِ الفتاوى " : ( وأَمَّا المعجزاتُ الَّتي لِغيرِ الأَنبياءِ مِن " بابِ الكشفِ والعلمِ " فمِثلُ قولِ عمرَ في قِصَّةِ ساريةَ ، وإِخبارِ أَبي بكر بأَنَّ بِبَطْنِ زوجتِهِ أُنثَى ) [ مجموعُ الفتاوى 11: 318 ].
نقولُ: فإِذا ثبت هذا العلمُ بالغَيبِ لِغيرِ الأَنبياءِ، حَسْبَ ابْنِ تَيميَّة وابْنِ كثير والأَلبَانيّ فهو يَثبُتُ لِغيرِهم ، فحُكمُ الأَمثالِ فيما يَجوزُ ولا يَجوزُ واحدٌ مِن هذه الناحيةِ.
أَمَّا الجوابُ الحَلِّيُّ:
العِلمُ بالغَيبِ لا يعني مُخالفةُ المحتومِ ، فإِنّ هناكَ أُموراً محتومةً لا بُدَّ مِن وقوعِها ، وهذا لا يعني تقديرُ وُقوعِها على نَحوِ الجَبرِ، بل هي مِمَّا جرى في عِلمِ ٱللهِ سبحانَهُ أَنَّها سَتَقَعُ حتماً؛ لِحُضورِ أَسبابِها ومُسبِّباتِها، والتَّكليفُ في دار الدُّنيا إِنَّما يَجري وفقَ قانون الأسباب والمسببات ، فلو فرضِنا أَنَّ هناك شخصاً سيُقتَلُ غداً بالرَّصاصِ في حادثةٍ معينةٍ، وٱللهُ سبحانَهُ قد أَعطى هذا العلمَ بالموتِ لِلشَّخصِ نَفسِهِ، فهل تَرآه يَقدرُ هذا الشَّخصُ أَن يدفعَ الموتَ عنهُ إِذا حضرت كُلُّ الأَسبابِ لِحُضورهِ في تلكَ الحادثةِ ومَقتلِهِ فيها ؟!!
إِنُّ دَفْعَ الأَسبابِ بعدَ حضورِها ليسَ مَقدوراً لأَحدٍ .. ولِنأخذَ مثالاً تَطبيقيَّاً على ذلكَ:
لقد أَخبرَنا رسولُ ٱللهِ (صلَّى ٱللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم) بأَنَّ وَلَدَهُ الحُسين ( عليه السَّلامُ ) سَيُقتَلُ في أَرضِ يُقالُ لها ( كربلاء )، وهذا أَمرٌ تَظافرَ نقلُهُ عَنِ الجميعِ، وهو مِمَّا كان يَعْلَمُهُ الحُسينُ ( عليه السَّلامُ ) جَزماً .. فلماذا لم يَنْهَ النَّبِيّ (صلَّى ٱلله عليه وآلِهِ وسلَّم) وَلَدَهُ الحُسينَ ( عليه السَّلامُ ) من الذَّهابِ إِلى كربلاء حتَّى لا يُقتَلَ فيها؟ .. ولماذا لم يَمْنَعِ الإِمامُ الحُسينُ ( عليه السلام ) نفسَه مِنَ الذَّهابِ إلى كربلاءَ حتَّى لا يُقتَلَ فِيها ؟!!
إِنَّ مَقتلَ الحُسينِ ( عليه السَّلامُ ) في كربلاءَ مِنَ الأُمورِ الحَتميَّةِ؛ لِحضورِ أَسبابِها، ولا يُمكِنُ دفعهُ، وعِلْمُ أَهلِ البيتِ ( عليهم السَّلامُ ) بذلكَ لا يَعني أَن يُخالفوا هذا المحتومَ، وهذا يَرتبِطُ بِمسألةِ القضاءِ والقدرِ، الَّتي نُشيرُ إِليها هُنا بِشكلٍ موجزٍ فنقول: إِنَّ القضاءَ على نَحوينِ:
(1) قضاءٌ محتومٌ، وهو ما أَخبرنا به الرُّسُلُ والأَنبياءُ، فهذا يَحصلُ لا محالةَ؛ لأَنَّ ٱللهَ لا يُكذّبُ أَنبياءَهُ وَرُسُلَهُ.
(2) وقضاءٌ موقوفٌ، أي غيرُ محتومٍ، وهو خاضعٌ لِقانونِ المَحوِ والإِثباتِ الَّذي أَخبرنا به سبحانَهُ في قوله: ﴿ يَمْحُو ٱللهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ ﴾ الرَّعد :39 ، فهُنا في هذا القضاءِ يَجري التَّغييرُ بِحَسَبِ مُقتضياتِ عَمَلِ الإِنسانِ وأَفعالِهِ الَّتي تُبَدِّلُ الأَقدارَ، كما نَصَّت على ذلكَ الأَحاديثِ الشَّريفةُ: بأَنّ الدُّعاءَ يَرُدُّ القضاءَ، والصَّدقةَ تَدفعُ البلاءَ، وَصِلَةُ الأَرحامِ تَزيد الأَعمارِ، ونَحوُ ذلكَ [ أُنظُر : سُنَنَ التِّرْمِذِيِّ 3: 304 ، المُستدركَ لِلحاكمِ 1: 493، شُعَبَ الإِيمانِ لِلبَيهَقِيِّ 3: 214] .
وفي هذا الجانبِ رَوى العَيَّاشِيُّ في تفسيرِهِ عَنِ الفُضَيلِ، قال : سمعتُ أَبا جعفرَ يقولُ: " مِنَ الأُمورِ أُمورٌ مَحتومةٌ
جائيةٌ لا محالةَ، ومِنَ الأُمورِ أُمورٌ موقوفةٌ عندَ ٱلله يُقَدِّمُ مِنها ما يَشاءُ،
ويُثِّبِتُ مِنها ما يَشاءُ... فأَمَّا ما
جاءت بِهِ الرُّسُلُ فهي كائنةٌ لا يُكَذِّبُ نفسَه ولا نَبِيَّهُ ولا ملائكتَهُ". إِنتهَى [ تفسير العَيَّاشيّ 2: 217]
ودُمتُم سالمينَ.
اترك تعليق