تنزيه النبي إبراهيم (ع) عن الشك في قدرة الله تعالى
السؤال: هل كان هناك شك من النبي إبراهيم (عليه السلام)؛ إذ لم يطمئن قلبه بأن الله يحيي الموتى، كما ورد في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]؟
الحواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم - أيّدك الله - أنّ نبيّ الله إبراهيم الخليل (عليه السلام) لم يكن لديه أدنى شكّ في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، بل كان سؤاله يتعلّق بكيفيّة ذلك فقط؛ إذ لو كان إبراهيم مشكّكاً لكان سؤاله بصيغة (هل) فيقول: (هل تحيي الموتى؟)، لكنّه سأل بصيغة (كيف) حيث قال: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى}، وهذا يدلّ على إيمانه القاطع بقدرة الله على الإحياء، وإنّما كان يرغب في معرفة الطريقة التي يتمّ بها الإحياء، ولذلك أراه الله تبارك اسمه صورةً من صور هذا الإحياء.
وأما قول النبيّ إبراهيم (عليه السلام): {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} فقد تمّ توجيهه بعدّة توجيهات، نستعرض بعضاً منها فيما يلي:
الوجه الأوّل: لا ريب أنّ مراتب اليقين تتفاوت، فمنه (علم اليقين) – وهو أدنى مراتب اليقين، وهو الوصول إلى اليقين عن طريق الأدلة العقليّة، كمَن يصل إلى يقين بوجود النار بعد رؤية الدخان–، ومنه (عين اليقين) – وهو أن يصل الإنسان إلى يقين وجود الشيء بمشاهدته، كمَن يرى النار -، وقد سعى إبراهيم (عليه السلام) إلى زيادة يقينه من علم اليقين إلى عين اليقين، إذ أراد أن يشاهد ذلك بنفسه، فقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى}، فأجابه الله تعالى: {أَوَلَمْ تُؤْمِن}؟ فأجابه إبراهيم: {بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}.
روى الشيخ العياشيّ عن عليّ بن أسباط: « أنّ أبا الحسن الرضا (عليه السلام) سُئل عن قول الله: {قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، أكان في قلبه شكّ؟ قال (عليه السلام): لا، ولكنّه أراد من الله الزيادة في يقينه » [تفسير العياشيّ ج1ص153].
الوجه الثاني: وهو أنّ متعلّق قول إبراهيم (عليه السلام): {لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} هو الخلّة؛ وذلك لأنّ الله تعالى لـمّا بشّر إبراهيم (عليه السلام) بأنّه متّخذٌ خليلاً وأنّه لو سأله إحياء الموتى لأجابه، فوقع في قلبه أنّه هو ذلك الخليل، فطلب من الله أن يريه إحياء الموتى ليطمئنّ قلبه بشأن هذه الخلّة، فليس متعلّق الاطمئنان القلبيّ هو ما يرتبط بقدرة الله تعالى على إحياء الموتى، بل اطمئنانه بكونه الذي اتّخذه الله خليلاً.
روى الشيخ الصدوق عن عليّ بن محمّد بن الجهم قال: « حضرتُ مجلس المأمون وعنده الرضا عليّ بن موسى (عليهما السلام)، فقال له المأمون: يا ابن رسول الله، فأخبرني عن قول إبراهيم (عليه السلام): {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، قال الرضا (عليه السلام): إنّ الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم (عليه السلام): إنّي متّخذٌ من عبادي خليلاً إنْ سألني إحياء الموتى أجبتُه، فوقع في نفس إبراهيم أنّه ذلك الخليل فقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} على الخلّة » [عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج2 ص198].
الوجه الثالث: وهو أنّ نمرود بن كنعان لـمّا قال لإبراهيم (عليه السلام): إنّك تزعم أنّ ربّك يحيي الموتى، وأنّه قد قال: أرسلك إليّ لتدعوني إلى عبادته، فاسأله أن يحيي لنا ميتاً إنْ كان على ذلك قادراً، فإنْ لم يفعل قتلتُك، فحينئذٍ طلب إبراهيم من الله تعالى أن يريه كيفيّة إحياء الموتى، وهو قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} فيكون معنى قوله: {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} - على هذا الوجه -: أي لآمن من القتل ويطمئنّ قلبي بزوال الروع والخوف.
وبعد أن ذكر السيّد المرتضى (قدّس سرّه) هذا الوجهَ قال: (وهذا الوجه الذي ذكرناه وإنْ لم يكن مرويّاً على هذا الوجه فهو مجوّز، وإنْ أجاز صلح أن يكون وجهاً في تأويل الآية مستأنفاً متابعاً) [تنزيه الأنبياء ص82].
الوجه الرابع: وهو أنّه يجوز أن يكون إبراهيم إنّما سأل إحياء الموتى لقومه ليزول شكّهم وشبهتهم في ذلك، ويجري مجرى سؤال موسى (عليه السلام) الرؤية لقومه، ليصدر منه تعالى الجواب على وجهٍ يزيل منه شبهتهم في جواز الرؤية عليه تعالى، ويكون معنى قوله: {لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} - على هذا الوجه -: أنّ نفسي تسكن إلى زوال شكّهم وشبهتهم، أو ليطمئنّ قلبي إلى إجابتك إيّاي فيما أسألك فيه.
قال السيّد المرتضى – بعد ذكر هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة -: (وكلّ هذا جائز، وليس في الظاهر ما يمنع منه؛ لأن قوله: {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ما تعلّق في ظاهر الآية بأمرٍ لا يسوغ العدول عنه مع التمسّك بالظاهر، وما تعلّقت هذه الطمأنينة به غيرُ مصرَّح بذكره) [تنزيه الأنبياء ص83].
نكتفي بهذا القدر، والحمد لله أوّلاً وآخراً
اترك تعليق