مَنْ وضع أساس المسجد الأقصى؟
السؤال: من المعلوم لدينا أنَّ الكعبة المشرَّفة قد وضع أساسها آدم (عليه السلام)، ورفع قواعدها إبراهيم (عليه السلام)، فمَنْ وضع أساس المسجد الأقصى؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
بداية لابدَّ أنْ يعلم الأخ السائل بوجود قولين في تحديد مكان (المسجد الأقصى)، يذهب الأوَّل منهما إلى أنّه المكان الموجود في دولة فلسطين الحالية، في حين يذهب الآخر منهما إلى أنّه موجودٌ في السماء الرابعة.
قال الشيخ عبَّاس القمِّي (رحمه الله): (اعلم أنَّه ثبت من الآيات الكريمة والأحاديث المتواترة أنَّ الحقّ تعالى أسرى برسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في ليلة واحدة، من مكَّة المعظَّمة إلى المسجد الأقصى، ومن هناك عرج به إلى السماوات حتَّى سدرة المنتهى والعرش الأعلى -إلى قوله (رحمه الله) - والمعروف أنَّ المسجد الأقصى هو مسجدٌ في بيت المقدس، ويظهر من أحاديث كثيرة أنَّ المراد منه هو البيت المعمور الذي هو في السماء الرابعة، وهو أبعد المساجد) [منتهى الآمال ج1ص78، بتصرُّف].
وبناءً على ذلك، فلو بنينا على القول الثاني، فلا معنى للسؤال المذكور من الأساس، لفرض وجوده في السماء الرابعة، كما لا يخفى.
أمَّا لو بنينا على القول الأوَّل، فحينئذٍ يكون السؤال المذكور وجيهاً، وهو الذي سنعقد الكلام عليه في هذا الجواب، وذلك بذكر أمرين اثنين.
الأمر الأوَّل: أنَّ عنوان (المسجد الأقصى) يُطلق على كلِّ (ما دار حوله السور الواقع في أقصى الزاوية الجنوبيّة الشرقيّة من مدينة القدس المسوَّرة، التي تسمَّى اليوم (البلدة القديمة)، ويشمل كلَّاً من قبَّة الصخرة (ذات القبَّة الذهبيّة)، والموجودة في موقع القلب منه، والجامع القِبْلي(ذي القبَّة الرصاصيّة السوداء) والواقع أقصى جنوبه، ناحية القِبْلة، فضلاً عن نحو (200) معلم آخر تقع ضمن حدود الأقصى، ما بين مساجد، ومبان، وقباب، وسبل ماء، ومصاطب، وأروقة، ومدارس، ومحاريب، ومنابر، ومآذن، وأبواب، وآبار، ومكتبات) [يُنظر: أطلس معالم المسجد الأقصى ص10].
ومنه يتَّضح الوهم بأنَّ (قبَّة الصخرة) هو المسجد الأقصى، وكذلك (الجامع القِبْلي)، بل الصحيح أنَّ عنوان المسجد الأقصى هو ما يشمل المساحة المسوَّرة بالكامل، والتي من ضمنها قبَّة الصخرة، والجامع القِبْلي، كما تبيَّن.
الأمر الآخر: أُختلف في أوَّلِ من شيَّد ووضع أساس المسجد الأقصى، فقد قال أبو عبد الله القرطبيّ: (وأمَّا المسجد الأقصى فبناه سليمان (عليه السلام)، كما خرَّجه النسائيّ بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو. وعن النبيّ (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم): أنَّ سليمان بن داوود (عليه السلام) لـمّا بنى بيت المقدس سأل الله خلالاً ثلاثة - إلى قوله: - فقيل: إنَّ إبراهيم وسليمان (عليهما السلام) إنَّما جدَّدا ما كان أسَّسه غيرهما. وقد روي أنَّ أوَّل من بنى البيت آدم (عليه السلام)...فيجوز أنْ يكون غيره من ولده وضع بيت المقدس من بعده بأربعين عاماً، ويجوز أنْ تكون الملائكة أيضاً بنته بعد بنائها البيت بإذن الله، وكلٌّ محتمل، والله أعلم) [الجامع لأحكام القرآن ج4 ص137].
وقال ابن حجر العسقلانيّ: (قال الخطَّابي: يشبه أنْ يكون المسجد الأقصى أوَّل ما وضع بناءه بعض أولياء الله قبل داوود وسليمان، ثمَّ داوود وسليمان، فزادا فيه ووسّعاه فأضيف إليهما بناؤه. قال: وقد يُنسب هذا المسجد إلى إيلياء، فيحتمل أنْ يكون هو بانيه أو غيره...إلى قوله: وقد رأيتُ لغيره أنَّ أوَّل من أسَّس المسجد الأقصى آدم (عليه السلام)، وقيل: الملائكة، وقيل: سام بن نوح (عليه السلام)، وقيل: يعقوب (عليه السلام)...إلى أنْ قال: ذكر بن هشام في كتاب التيجان أنَّ آدم لما بنى الكعبة أمره الله بالسير إلى بيت المقدس وأن يبنيه فبناه ونسك فيه، وبناء آدم للبيت مشهور)[فتح الباري ج6 ص409].
وقال السيوطيّ: (وقد روي أنَّ أوَّل من بنى البيت آدم، وعلى هذا فيجوز أنْ يكون غيره من ولده وضع بيت المقدس من بعده بأربعين عاماً، انتهى. قلتُ: بل آدم نفسه هو الذي وضعه أيضاً، قال الحافظ بن حجر في كتاب التيجان لابن هشام: إنَّ آدم لما بنى الكعبة أمره الله تعالى بالسير إلى بيت المقدس وأن يبنيه فبناه ونسك فيه) [حاشية السيوطي على سُنن النسائي ج2 ص33].
وقال ابن كثير: (ومضمون ما ذكروه: أنَّ سليمان (عليه السلام) غاب عن سريره أربعين يوماً، ثمَّ عاد إليه، ولما عاد أمر ببناء بيت المقدس، فبناه بناءً محكماً، وقد قدَّمنا أنه جدَّده، وأنَّ أوًّل من جعله مسجداً إسرائيل (عليه السلام)) [البداية والنهاية ج2 ص341].
والمتحصَّل إلى الآن، أنَّ هناك خلافاً في تحديد أوَّل من بنى وأسَّس المسجد الأقصى، كما تقدَّم. نعم، القدر المتَّفق عليه بينهم هو أنَّ (المسجد الأقصى) بُني بعد الكعبة، لما رواه البخاريّ في صحيحه بسنده عن إبراهيم التيميّ، عن أبيه قال: (سمعتُ أبا ذرّ (رضي الله عنه) قال: قلتُ: يا رسول الله، أيّ مسجد وضع في الأرض أوَّل؟ قال: المسجد الحرام، قال: قلتُ: ثمَّ أيّ؟ قال: المسجد الأقصى) [صحيح البخاريّ ج4 ص145].
والنتيجة من كلِّ ما تقدَّم، أنَّ تحديدَ أوَّل من أسَّس المسجد الأقصى وبناه محلُّ خلافٍ بينهم، وذلك بسبب تعدد الأقوال في المسألة.. والحمد لله ربِّ العالمين.
اترك تعليق