الإمام الكاظم (عليه السلام) وإنعاشه للمنظومة الأخلاقية للأمّة
السؤال: يقول بعض الكتّاب: إنّ تعاليم السماء وقِيَم الإسلام الأخلاقيّة كادت تُمحى من الوجود، وتنمحي معها الأمّة الإسلاميّة لولا جهود الإمام الكاظم (عليه السلام)، فهل يمكنكم بيان ذلك؟!.
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
بدءاً لابدّ من عقد توطئة دخيلة في الوقوف على الإجابة المناسبة لسؤالكم، وهي أنّ عقيدة المسلمين قائمة على كون المعيار في نهوض الحضارات وازدهارها، أو تردّيها وسقوطها إنّما هو مدى شيوع حالتي الصلاح أو الفساد بين أبنائها، قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}[الإسراء: 16]، ولا نعني بسقوط الحضارات هلاك أبنائها بالضرورة، بل قد يتمثّل ذلك بهبوطها عن موقعها الرياديّ وتأخّرها عن الأمم الأخرى، كما يحدّثنا القرآن الكريم عن حضارة سبأ في الآيات: 15 – 20 من سورة سبأ. [ينظر: تفسير الأمثل ج13 ص420].
والملاحظ أنّ شيوع كلّ من حالتي الصلاح أو الفساد يرتبط وجوداً وعدماً بصنفين من أبناء أيّ حضارة أو أمّة، وهما: (العلماء والأمراء) كما جاء في قول النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «صنفان من أُمّتي إذا صلحا صلحت أُمّتي، وإذا فسدا فسدت أُمّتي، قيل: يا رسول الله ومَن هما؟ قال: الفقهاء والأُمراء» [الخصال ص37]، وهذا أمر واضح أثبتته التجارب أيضاً.
فإذا عرفت ما في التوطئة فلقد فسد الصنفان (الفقهاء والأمراء) في عصر بني العبّاس أيّما فساد، فأمّا الأمراء فأمرهم أبيَن من الشمس في رائعة النهار، وأمّا العلماء فيكفي أنّ تعلم أنّ مالك بن أنس -الذي عمل بنو العبّاس على فرض مذهبه على المسلمين- كان يغنّي ويبدع في الغناء حالة كونه إماماً لمذهبه![ينظر: الأغاني ج4 ص409، نهاية الأرب ج4 ص230]، وكان سفيان الثوري إماماً لمذهب آخر لكنّه كان يُدلّس في الحديث حتّى لو استلزم ذلك الكذب على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)[تهذيب التهذيب ج4 ص115]، وأمّا أبو حنيفة إمام أكبر مذاهب العامّة، فقد كان شديد الحرص على الرئاسة وكثرة الأَتباع وخفق النعال وراءه [ينظر: الاحتجاج ج2 ص117]. وهكذا دواليك في سائر العلماء والفقهاء والقضاة، فتخيّل معي أمّة هذا حال أمرائها وفقهائها كيف يكون حال عوامّها؟!، وأيّ مرتبة يمكنها أن تتبوأها بين الحضارات؟!.
ولقد بلغ انهيار المبادئ والقيم الإسلاميّة ذروته في عصر هارون العبّاسيّ الذي تولّى الخلافة (من سنة 170 هـ، إلى هلاكه سنة 193 هـ)، حتّى روى العامّة عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: «يأتي على الناس زمان لا تُنال فيه المعيشة إلّا بالمعصية، فإذا كان ذلك في الزمان حَلّت العزوبة» [الكشّاف ج3 ص235، تخريج الأحاديث للزيلعي ج2 ص442]، وعن أبرز مصاديق هذا الزمان قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): «إذا أتى على أُمّتي مائة وثمانون سنة فقد حلّت العزبة والعزلة والترهّب على رؤوس الجبال» [تفسير الثعلبي ج7 ص92].
ومن هنا كان لوجود الإمام الكاظم (عليه السلام) في ذلك الزمان أهميّة بالغة كما يظهر ذلك من خلال دوره في إنعاش المنظومة الأخلاقية للأمّة وإحياء مبادئها وقيمها الإسلاميّة التي فقدتها، عبر قيامه بالكثير من الأنشطة التي من أهمّها ما يلي:
أوّلاً: بناء الجماعة الصالحة وتخريجهم كعلماء ربّانيّين ومصلحين:
حيث تولّى (عليه السلام) العمل على استقطاب الكثير من العناصر الصالحة في المجتمع وقام بتربيتهم وإعدادهم كعلماء وفقهاء ومراجع للدين، ثمّ بثّهم في الأوساط الاجتماعيّة؛ لإحياء معالم الدين، وإصلاح ما فسد من أمور المسلمين، فكان من بينهم شخصيّات أجمعت الطائفة على وثاقتهم وصلاحهم وحُسن سيرتهم وتقواهم، منهم مثلاً: يونس بن عبد الرحمن، وعلي بن رئاب، وعلي بن يقطين، وحمّاد بن عثمان، وحمّاد بن عيسى، وصفوان بن مهران الجمّال، وعبد الله بن مسكان، ومعاوية بن وهب، وأحمد بن أبي النصر البزنطي، وغيرهم الكثير.[ينظر عن تراجمهم: رجال الكشيّ، ورجال النجاشيّ، وفهرست الطوسيّ].
ثانياً: التشديد على ضرورة ابتعاد الشيعة عن السلطان:
فقد حرص (عليه السلام) على تحصين أبناء المذهب عن مخالطة السلطان، وضرورة العمل على تجريده من قواعده الجماهيريّة، والدعوة إلى منابذته حتّى على مستوى الأعمال، فمن ذلك قوله (ع) لصفوان الجمّال: «يا صفوان، كلّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً!. قلت: جعلت فداك أيُّ شيء؟ قال: إكراؤك جمالك من هذا الرجل - يعني هارون - قال: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا للصيد ولا للّهو، ولكنّي أكريته لهذا الطريق - يعني طريق مكة -، ولا أتولاه بنفسي، ولكن أبعث معه غلماني. فقال لي: يا صفوان أيقع كراؤك عليهم؟ قلت: نعم جُعلت فداك، قال: فقال لي: أتحبّ بقاءهم حتّى يخرج كراؤك؟ قلت: نعم، قال: من أحبّ بقاءهم فهو منهم، ومَن كان منهم كان وَرَدَ النار. قال صفوان: فذهبت فبعت جِمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلى هارون فدعاني فقال لي: يا صفوان بلغني أنّك بعت جمالك، قلت: نعم، قال: ولم؟ قلت: أنا شيخ كبير وإنّ الغلمان لا يَفُون بالأعمال؟ فقال: هيهات هيهات، إنّي لأعلم مَن أشار عليك بهذا، أشار عليك بهذا موسى بن جعفر، قلت: ما لي ولموسى بن جعفر؟ فقال: دع هذا عنك فوالله لولا حسن صحبتك لقتلتك!» [رجال الكشّي ج2 ص740].
ثالثاً: الدعوة إلى ضرورة التفقّه في الدين:
فلا يمكن للمسلمين العودة إلى المواقع الرياديّة من دون الالتزام بحدود الشريعة وأحكامها، ومن هنا فقد تبنّى الإمام (عليه السلام) بنفسه الدعوة إلى التفقّه في الدين، فكان ممّا قاله في ذلك: «تفقّهوا في دين الله، فإنّ الفقه مفتاح البصيرة، وتمام العبادة، والسبب إلى المنازل الرفيعة، والرتب الجليلة في الدين والدنيا، وفضل الفقيه على العابد كفضل الشمس على الكواكب، ومَن لم يتفقّه في دينه لم يرضَ الله له عملاً» [تحف العقول ص410]، وبسبب تبنّيه لحركة التفقّه ونشره للفقه أصبح (ع) يُعرف بلقب (العالِم).
رابعاً: الدعوة إلى تهذيب النفس والعمل للدارين معاً:
لقد نشر الإمام (عليه السلام) بين الناس الأحاديث الداعية للتحلّي بمكارم الأخلاق وقيم السماء، ودعا إلى محاسبة النفس كلّ يوم وليلة، وجعل ذلك معيار الانتماء لأهل البيت (عليهم السلام)، فكان يقول: «ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم فإن عمل حَسناً استزاد الله وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه»[الكافي ج2 ص453]، كما حرص (عليه السلام) على تولّي الدعوة بصورة عمليّة سيّما في مجال التآخي والتسامح وكظم الغيظ حتّى صار يعرف بالكاظم، قال العلّامة ابن طلحة الشافعيّ – في ترجمته (عليه السلام) -: (ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين عليه دُعي كاظماً، كان يُجازي المسيء بإحسانه إليه، ويقابل الجاني بعفوه عنه) [مطالب السؤول ج2 ص120].
خامساً: تفعيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
فلقد كان الإمام (عليه السلام) ينزل إلى الشارع بنفسه لإحياء هذه الفريضة المعطّلة ما أمكنه ذلك، ولعلّ موقفه مع بِشر الحافيّ من المواقف المشهورة عند المسلمين، فقد اجتاز (عليه السلام) يوماً على دار بِشر ببغداد، فسمع الملاهي وأصوات الغناء والقصب تخرج من تلك الدار، فخرجت جارية وبيدها قمامة البقل، فرمت بها في الدرب: فقال لها الإمام: «يا جارية! صاحب هذه الدار حرّ أم عبد؟ فقالت: بل حرّ فقال: صدقت، لو كان عبداً خاف من مولاه!» فلمّا دخلت قال مولاها وهو على مائدة الخمر: ما أبطأك علينا؟ فقالت: حدّثني رجل بكذا وكذا، فخرج حافياً حتّى لقي الإمام (عليه السلام) فتاب على يده. [ينظر: منهاج الكرامة ص59]، وقد ذكر العامّة أنّ بِشر الحافي كان نديماً للمأمون، فلمّا تاب صار المأمون يستشفع بأحمد بن حنبل في أن يأذن له بِشر في زيارته فقط فكان يأبى ذلك!.[ينظر: الرسالة القشيريّة ج1 ص46].
سادساً: الدعوة إلى تحقيق معنى العبوديّة الخالصة لله تعالى:
فقد حرص (عليه السلام) على أن لا تكون العبادة شكليّة وسطحيّة، وجَهِد في تطبيق ذلك عمليّاً حتّى اشتهر بين العامّة والخاصّة هذا بلقب (العبد الصالح) ، قال الخطيب البغداديّ: (كان موسى بن جعفر يُدعى العبد الصالح من عبادته واجتهاده) [تاريخ بغداد ج13 ص29]، وقال ابن الجوزي: (كان يدعى العبد الصالح لأجل عبادته واجتهاده وقيامه بالليل ...) [صفوة الصفوة ج1 ص399]، وكانت عبادته موضع تأثير في المخالف قبل الموافق، والعدو قبل الصديق، فتأثّر به حتّى بعض رجالات السلطة أمثال عيسى بن المنصور عامل الرشيد على البصرة، والفضل بن يحيى وزير هارون الرشيد وغيرهم [ينظر: حياة الإمام الكاظم ع للقرشي: ج2 ص467–480]، وقد روى علماء العامّة: أنّ أخت السنديّ بن شاهك -الذي تولّى سجن الإمام وتعذيبه- كانت تحكي عجائب عبادته ثمّ تختم حديثها بالقول: (خاب قوم تعرّضوا لهذا الرجل، وكان عبداً صالحاً) [تاريخ بغداد ج13 ص33]، بل حتّى الرشيد نفسه قد تأثّر بعبادته فقال: (أما إنّ هذا من رهبان بني هاشم) [عيون اخبار الرضا ج1 ص89].
سابعاً: الاهتمام بالفقراء وضعفاء الحال:
أحيى الإمام (عليه السلام) بنفسه مبدأ التكافل الاجتماعي فحصّن بذلك ضعفاء المسلمين من المتاجرة بدينهم مع السلطة العبّاسية، أو ابتذال كرامتهم بالوقوف على أبواب الولاة، فكان يرسل بصرر المال إليهم وإن كانوا من المخالفين أو المؤذين له حتّى صارت صِراره مثلاً عند الناس![ينظر: تاريخ بغداد ج13 ص29، مقاتل الطالبيّين ص332]، وروي أنّه (عليه السلام): «مرّ برجل من أهل السواد دميم المنظر، فسلّم عليه ونزل عنده وحادثه طويلاً، ثمّ عرض (عليه السلام) عليه نفسه في القيام بحاجة إن عرضت له، فقيل له: يا ابن رسول الله أتنزل إلى هذا ثمّ تسأله عن حوائجه وهو إليك أحوج؟! فقال (عليه السلام): عبدٌ من عبيد الله وأخٌ في كتاب الله وجارٌ في بلاد الله، يجمعنا وإيّاه خير الآباء آدم (عليه السلام) وأفضل الأديان الاسلام ولعلّ الدهر يردّ من حاجاتنا إليه، فيرانا بعد الزهو عليه متواضعين بين يديه. ثمّ قال (عليه السلام): نواصل من لا يستحقّ وصالنا * مخافة أن نبقى بغير صديق» [تحف العقول ص413].
ثامناً: تصحيح أفكار الناس حول العقل ودوره:
وذلك من خلال الدعوة إلى تفعيل دور العقل الفردي في مجالي التدبّر والتفكّر في أمور الدين والدنيا، وأنّه حجّة لله على الإنسان ويمكنه من خلاله التمييز بين ما هو حَسَن وما هو قبيح؛ فلابدّ من تحكيمه في اتخاذ القرارات المناسبة إزاء الأحداث الخارجيّة بسيطة كانت أم مصيريّة [ينظر: الكافي ج1 ص13]، مضافاً إلى ضرورة عدم الانجراف وراء تأثيرات العقل الجمعي، كما في وصيّته (عليه السلام) للفضيل بن يونس بقوله: «أبلغ خيراً، وقل خيراً، ولا تكوننَّ إِمَّعَةً. قلت: وما الإِمَّعَةُ؟ قال: تقول: أنا مع الناس، وأنا كواحد من الناس. إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: يا أيّها الناس، إنّهما نجدان: نَجْدُ خير ونَجْدُ شرّ، فما بال نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير» [الاختصاص ص343].
هذا أدنى ما يمكن بيانه في المقام، والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق