لماذا يحتاج المسلمون إلى تفسير القرآن بينما فهمه الجنُّ مباشرة؟

السؤال: ما فائدة القرآن إذا لم نفهم معانيه؟ القرآن كان واضحاً للجنّ وأرشدهم للهدى بقوله تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً). فلماذا عند الشيعة القرآن يحتاج الى تفسيرٍ من المعصوم ليهديهم...وعند الجنّ واضحٌ ويهدي للهدى. هل الجنُّ افضل من المسلمين ليفهموا القرآن افضل منهم ؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

السؤال المطروح ينطلق من فهمٍ غير دقيقٍ لموقف الشيعة من القرآن الكريم، وهو أنَّ القرآن عند الشيعة لا يكون هادياً إلّا إذا فسره المعصوم، بينما عند الجنّ كان واضحاً بلا تفسير. وهذا غير صحيح؛ لأنَّ القرآن في حدّ ذاته نورٌ وهدايةٌ لكلّ البشر، لكنَّه يحتوي على مستوياتٍ متعدّدةٍ من الفهم، فهناك معانٍ ظاهرةٌ يفهمها الجميع، وهناك معانٍ عميقةٌ تحتاج إلى تأمّلٍ وتفسيرٍ من أهل العلم، وهذا لا يقتصر على الشيعة فقط، بل هو أمرٌ متفقٌ عليه بين جميع المسلمين.

أما ما جاء في الآية التي استشهد بها السائل، فهي لا تدلًّ على أنَّ الجنَّ فهموا كلَّ معاني القرآن بدون تفسير، بل تدلُّ على أنَّهم أدركوا هدايته وصدقه وآمنوا به، وهذا مشابهٌ لحال الكثير من البشر الذين يسمعون القرآن فيتأثرون به ويؤمنون به، حتى لو لم يفهموا كلَّ دقائقه وأسراره؛ وهذا لا يعني أنهم استغنوا عن الحاجة إلى التعلُّم والتفسير، بل ربما احتاجوا إلى مزيدٍ من التدبّر والتوضيح، كما هو حال المؤمنين من البشر الذين يتعلّمون من أهل العلم ليزدادوا فهماً.

فالقرآن الكريم كتاب هدايةٍ ونور، وقد جعله الله حُجَّةً على جميع البشر، وليس نصاً مغلقاً أو مستحيل الفهم. لكن في الوقت ذاته، يحتوي على مستوياتٍ متعدّدةٍ من المعاني، بعضها واضحٌ ومحكمٌ يمكن لأي شخصٍ تدبّره، وبعضه يحتاج إلى علمٍ وتأمُّلٍ أعمق لفهمه بشكلٍ صحيح. وهذا لا يعني أنَّ القرآن لا يمكن فهمه من دون المعصوم، بل يعني أنَّ المعصوم هو المرجعية الأوثق لفهم معانيه الدقيقة ومنع تأويله تأويلاً خاطئاً، فالمعصومون هم الأعلم بحقائق القرآن وتأويله الصحيح، كما قال تعالى: {فَاسأَلُوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لَا تَعلَمُونَ} [النحل: 43].

ولو كان القرآن غير مفهوم أبداً لعامَّة الناس، لما أمرهم الله بتدبره كما في قوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أَم عَلَى قُلُوبٍ أَقفَالُهَا} [محمد: 24]، وكذلك قال تعالى: {وَلَقَد يَسَّرْنَا القُرآنَ لِلذِّكرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ} [القمر: 22]، فالتيسير لا يعني الاستغناء عن التفسير، بل يعني أنَّ هناك مستوىً من الفهم متاحٌ للجميع، ومستوياتٌ أخرى لا يصل إليها إلَّا أهل العلم والراسخون فيه.

ومن هنا نفهم لماذا حذّر الإمام علي (ع) عبد الله بن عباس من الاحتجاج بالقرآن على الخوارج؛ لأنهَّم كانوا يحملون النصوص على أوجهٍ متعددةٍ وفق أهوائهم. وهذا التحذير لا يعني أنَّ القرآن غير مفهوم، بل يعني أنّ الاعتماد على التفسير غير المنضبط قد يؤدّي إلى الانحراف. لذا، كان الرجوع إلى أهل البيت (ع) ضرورةً لحفظ المعاني الصحيحة للنصوص؛ لأنَّهم هم المرجعيَّة العلميَّة التي تمنع تأويل القرآن وفق الهوى، كما قال النبيُّ (ص): «إنّي تاركٌ فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إنْ تمسَّكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً»، فارتباط القرآن بأهل البيت (ع) هو الذي يحفظ معانيه الصحيحة ويمنع الانحراف في تفسيره.

وفي المحصلة، القرآن في حدّ ذاته هادٍ وواضحٌ في محكماته، لكن فهمه العميق والاستدلال به يحتاج إلى مرجعيَّةٍ علميَّةٍ، والمعصومون ليسوا بدلاء عن القرآن بل مكمّلون له في بيان معانيه الصحيحة، تماماً كما أنّ السنة النبوية شارحةٌ للقرآن ولا تلغيه.