ماذا يعني استغفار المعصوم من الذنب؟

ذُكر في كتب الشيعة أنَّ المعصوم يستغفر ربَّه من ذنوبه، وهذا يتعارض مع مفهوم العصمة، وقد حاول بعضهم تفسير ذلك على أنَّه تعليمٌ للناس، إلَّا أنَّ هذا التفسير غير صحيح؛ لأنَّ هناك أدعية لم تُنقل عنهم إلَّا في حالاتٍ خاصَّةٍ السجود؟

: الشيخ نهاد الفياض

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم

في بادئ الأمر لابُدَّ أنْ يعلم السائل بأنَّ الشيعة (أعزَّهم الله تعالى) يعتقدون بعصمة الأئمَّة (عليهم السلام) عصمةً مطلقةً تبعاً للأدلَّة القطعية عندهم. وعليه، فكلُّ حديثٍ أو دعاءٍ يظهر منه اعترافه بالذنب فلابدَّ أنْ يوجَّه بما يناسب القول بالعصمة، من باب حمل المتشابه على المحكم، كما هو مفصَّلٌ في الكتب الكلاميَّة.

ثمَّ إنَّ هذا الإشكال المذكور ليس من إبداعات السائل وإنما هو إشكالٌ قديمٌ كما سيتَّضح عند ذكر كلمات العلَّامة الإربليّ (طاب ثراه).

فإذا بان هذا الأمر فقد ذكر الأعلام جملةً من المحامل لهذه الأدعية المذكورة، نذكر قسماً منها رعايةً للاختصار.

الأوَّل: رجحان الاستغفار، فإنَّ الاستغفار وطلب العفو أمرٌ راجحٌ شرعاً ولو لم يكن عن ذنبٍ مُعيَّن؛ ولذلك ورد في بعض الأخبار الشريفة استغفار المعصوم (عليه السلام) من دون ذنبٍ يستوجب ذلك.

1ـ فقد روي في الكافي بسندٍ معتبرٍ عن ابن بكير قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) في قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: 30] فقال هو: ﴿وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ قال: قلت: ليس هذا أردت، أرأيتُ ما أصاب عليّاً وأشباهه من أهل بيته (عليهم السلام) من ذلك؟ فقال: إنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) كان يتوب إلى الله في كلِّ يوم سبعين مرَّةً من غير ذنب) [أصول الكافي ج2 ص450].

2ـ وما رواه أيضاً بسندٍ معتبرٍ عن عليِّ بن رئاب قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: 30]، أرأيت ما أصاب عليَّاً وأهل بيته (عليهم السلام) من بعده هو بما كسبت أيديهم، وهم أهل بيت طهارةٍ معصومون؟ فقال: إنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) كان يتوب إلى الله ويستغفره في كلِّ يومٍ وليلةٍ مائة مرَّة من غير ذنب، إنَّ الله يخصُّ أولياءَه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب) [أصول الكافي ج2 ص450].

الثاني: تعليم الأمَّة، فإنَّ المعصوم (عليه السلام) لـمَّا كان هو المعلِّم والمربِّي لهذه الأمَّة ـ بعد النبيِّ الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) ـ ناسب أنْ يعلِّمهم كيفية الاستغفار والتوبة عند صدور الذنب والمعصية منهم؛ ولذلك نشاهد هذه الظاهرة في جملةٍ كبيرةٍ من الأدعية التي كان الغرض منها هو التربية والتعليم.

قال السيِّد علي الحسينيُّ (حفظه الله): (إنَّ الرسول وأهل البيت (عليهم السلام) هم الذين علَّمونا التكلُّم مع ملك الملوك وعظيم العظماء الله (جلَّ جلاله)، ولولاهم لم نعرف الطريقة المثلى والنهج الأفضل الذي ينبغي للعبد الابتهال به إلى الله تعالى، والسؤال منه (عزَّ اسمه)، وطلب المغفرة منه (جلَّ جلاله). فإحدى جهات أدعيتهم هو تعليمنا ذلك، فجرى وجوه الاستغفار على لسانهم الطَّاهر حتَّى يجري على لساننا نحن العصاة، لنستقيل من ذنوبنا ونتوب من خطايانا، وننال برد العفو وحلاوة الرحمة من المولى الغفور الرحيم) [العقائد الحقَّة ص341].

وأمَّا ما ذكره السائل ـ كإشكالٍ ـ من أنَّ هناك من الأدعية ما يُقرأ في حالات خاصَّة ـ كالسجود أو الركوع أو غيرهما ـ فهو غير صحيح، لأنَّ ناقل الدعاء، إمَّا أنْ يكون المعصوم الذي بعده أو هو من رواة الأخبار عند الشيعة، فعلى الأوَّل يكون نقله للناس من باب التعليم أيضاً، لفرض عصمته أيضاً، وإنْ كان الناقل من الرواة العاديين فهو تعليم له ولغيره من الناس الذين يُتوقَّع منهم الذنب، وعلى جميع التقادير تتحقق الفائدة المرجوَّة من وراء هذه الظاهرة، كما هو واضح.

الثالث: الضرورات الدنيويَّة، فإنَّ الإنسان مهما علا شأنه وارتفع مقامه يبقى محتاجاً إلى التعامل مع الأمور الدنيويَّة الضروريَّة، كالمأكل والمشرب وما أشبههما من الضرورات التي يحتاجها الإنسان بشكل يوميٍّ، فإنَّ المعصوم (عليه السلام) لعلوِّ شأنه ورفعةِ مقامه عند الله تعالى يَعُدُّ هذه الضرورات من التقصير الذي يوجب الاستغفار والتوبة حقيقية؛ ولذلك يستغفر الله منها.

قال العلَّامة الإربليُّ (طاب ثراه): (إنَّ الأنبياء والأئمَّة (عليهم السلام) تكون أوقاتهم مشغولةً بالله تعالى، وقلوبهم مملوءةً به، وخواطرهم متعلِّقةً بالملأ الأعلى، وهم أبداً في المراقبة كما قال (عليه السلام): «اُعبد الله كأنَّك تراه، فإنْ لم تره فإنَّه يراك»، فهم أبداً متوجِّهون إليه ومقبلون بكلِّهم عليه، فمتى انحطُّوا عن تلك الرتبة العالية، والمنزلة الرفيعة إلى الاشتغال بالمأكل والمشرب والتفرُّغ إلى النكاح وغيره من المباحات، عدّوه ذنباً، واعتقدوه خطيئةً، واستغفروا منه، ألا ترى أنَّ بعض عبيد أبناء الدنيا لو قعد وأكل وشرب ونكح وهو يعلم أنَّه بمرأىً من سيِّده ومَسْمع لكان ملوماً عند النَّاس ومقصِّراً فيما يجب عليه من خدمة سيِّده ومالكه؟ فما ظنُّك بسيِّد السادات ومَلِك الأملاك) [كشف الغمَّة في معرفة الأئمَّة (عليهم السلام) ج3 ص٣٢١ ـ 322].

الرابع: معاصي الشيعة، فإنَّ الشيعة قد نُسبوا إلى المعصوم (عليه السلام)، فكانوا بمنزلة الولد والوالد، كما في قوله (صلَّى الله عليه وآله): (يا عليُّ، أنا وأنت أبوا هذه الأمَّة) [يُنظر: أمالي الصدوق ص411]؛ ولذلك يستغفرون الله تعالى من تلك المعاصي التي يفعلها شيعتهم. ونظير ذلك، ما يعتذر به الأب عن تقصير ابنه في العرف، فكذلك المعصوم يعتذر ويستغفر الله تعالى لما صدر من شيعتهم.

روى شيخنا القمِّيُّ (طاب ثراه) بسنده عن عمر بن يزيد بيَّاع السابري، قال: (قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام) قول الله في كتابه ﴿لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح: 2]، قال: ما كان له من ذنبٍ، ولا همَّ بذنب، ولكنَّ الله حمَّله ذنوب شيعته ثمَّ غفرها له) [تفسير القمِّيّ ج2 ص٣١٤].

الخامس: التزاحم في فعل المستحبَّات، كما لو ترك المعصوم (عليه السلام) الطواف المستحب من أجل قضاء حاجة بعض المؤمنين، كما روي في أحول الإمام الحسن (عليه السلام) مثل ذلك. وعليه، يستغفر المعصوم ربَّه على ترك ذلك المستحب، إذ شأنه وقربه من الله تعالى لا يسمحان له بترك ذلك.

ولعلَّ هذا هو المراد من قول الحسين بن سعيد الأهوازيّ (طاب ثراه): (لا خلاف بين علمائنا في أنَّهم (عليهم السلام) معصومون من كلِّ قبيحٍ مطلقاً، وأنهم (عليهم السلام) يسمُّون ترك المندوب ذنباً وسيِّئةً بالنسبة إلى كمالهم (عليهم السلام)) [كتاب الزهد ص73].

والنتيجة من كلِّ ذلك، أنَّ القطع بأحقيَّة (العصمة) يُوجب توجيه ذلك الدعاء بوجهٍ من الوجوه المقبولة، كما بيَّنا.. والحمد لله ربِّ العالمين.