معنى تسوية القبر
ورد في الحديث أنَّ النَّبيَّ (صلَّى الله عليه وآله) قال للإمام عليٍّ (عليه السَّلام): «ولا تدع قبرًا إلَّا سوَّيته»، فهل يصحُّ هذا الحديث، وما القول فيه؟
الجواب
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
يُشير الأخ السَّائل إلى ما رُوي في هذا المعنى في جملةٍ من المصادر عندنا وعند العامَّة على حدٍّ سواء، إليك بعضًا منها:
أمَّا عند العامَّة: فقد رُوي عن أبي الهيَّاج الأسديّ عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام) أنَّه قال: "أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله، لا تدع قبرًا مشرفًا إلَّا سوَّيته، ولا تمثالًا في بيتٍ إلَّا طمسته" [يُنظر: المصنَّف للصَّنعانيّ، ج3، ص503؛ مسند أحمد، ج1، ص96؛ صحيح مسلم، ج3، ص61؛ سنن أبي داود، ج2، ص83؛ سنن التِّرمذيّ، ج2، ص256؛ سنن النَّسائيّ، ج1، ص653؛ مسند أبي يعلى، ج1، ص289] وغيرها.
وأمَّا عند الخاصَّة: فقد روى البَرقيُّ والكُلينيُّ (طاب ثراهما) بسندٍ مُعتبرٍ عن أبي عبد الله، عن آبائه (عليهم السَّلام) عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام) قال: «بعثني رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) إلى المدينة، فقال: لا تدع صورةً إلَّا محوتها، ولا قبرًا إلَّا سوَّيته، ولا كلبًا إلَّا قتلته» [المحاسن، ج2، ص613؛ الكافي، ج6، ص528] وغيرهما.
إذا بان هذا، فالحديث ـ ظاهرًا ـ لا إشكال في صحَّته من جهة الإسناد عند الفريقين، وأمَّا الدِّلالة فنقول: إنَّ المراد من قوله (سوَّيته) هو التَّعديل، فـ (سوَّيته) بمعنى عدَّلته، ولم يُرد به هدمته كما يزعم البعض.
الأدلَّة اللُّغويَّة على معنى التسوية بالتَّعديل:
الشَّاهد على أنَّ المراد من كلمة (سوَّيته) هو التَّعديل – مضافًا إلى الفهم العُرفيّ لها – ما جاء في بعض المعاجم اللُّغويَّة، حيث ذكر ابن فارس:
(سوَي: السِّين والواو والياء أصلٌ يدلُّ على استقامةٍ واعتدالٍ بين شيئين. يُقال: هذا لا يُساوي كذا، أي لا يعادله. وفلانٌ وفلانٌ على سويَّةٍ من هذا الأمر، أي سواء. ومكانٌ سوى، أيْ: معلم قد علم القوم الدُّخول فيه والخروج منه. ويُقال: أسوى الرَّجل، إذا كان خلفه وولده سويًّا) [مقاييس اللُّغة، ج3، ص112].
وذكر الفيُّوميّ:
(استوى المكان اعتدل، وسوَّيته عدَّلته) [المصباح المنير، ج1، ص298].
وفي لسان العرب:
(وتساوت الأمور واستوت، وساويت بينهما أي سوَّيت. واستوى الشَّيئان وتساويا: تماثلا. وسوَّيته به وساويت بينهما، وسوَّيت وساويت الشَّيء وساويت به وأسويته به) [لسان العرب، ج14، ص410]، وانظر [شرح سنن أبي داود لابن رسلان، ج4، ص657] وغيرها من المصادر.
تسوية القبر بمعنى تسطيحه وليس هدمه:
لذا، عنوَنَ مسلمٌ - صاحب الصَّحيح - الباب بعنوان: (باب الأمر بتسوية القبر)؛ لأنَّ القبور كانت مُسنَّمة، فأراد النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) تسويتها أي تسطيحها وتعديلها، لكي تكون متساويةً فيما بينها، فقد روى بسنده الصَّحيح عن ثمامة بن شفي قال:
(كنَّا مع فضالة بن عبيد بأرض الرُّوم برودس، فتوفِّي صاحبٌ لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسُوِّي، ثمَّ قال: سمعتُ رسول الله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) يأمر بتسويتها) [صحيح مسلم، ج2، ص666].
وقد قال العلَّامة القَسطَلانيّ في هذا المقام ما لفظه:
(لا يؤثِّر في أفضليَّة التَّسطيح كونه صار شعارًا للرَّوافض، لأنَّ السُّنَّة لا تُترك بموافقة أهل البدع فيها، ولا يُخالف ذلك قول عليٍّ (رضي الله عنه): «أمرني رسول الله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) أنْ لا أدع قبرًا مشرفًا إلَّا سوَّيته»، لأنَّه لم يُرد تسويته بالأرض، وإنَّما أراد تسطيحه، جمعًا بين الأخبار) [إرشاد السَّاري، ج3، ص498].
إبطال دعوى الهدم وتأكيد العمل بسيرة المسلمين:
إذن، المراد من معنى (سوَّيته) هو التَّعديل، وليس ما تمسَّك به شرذمةٌ من المتعصِّبين من دعوى إرادة الهدم.
ثمَّ إنَّ البناء على القبور وتسويتها وتعديلها ممَّا قامت عليه سيرة المسلمين كافَّةً، عدا شرذمةٍ تُحسب عليهم.
قال المحقِّق الشَّيخ جعفر السُّبحانيُّ (دام ظلُّه):
(أمَّا سيرة المسلمين فحدِّث عنها ولا حرج، فقد دُفن النَّبيُّ الأكرم في بيته الرَّفيع، ولم يخطر ببال أحدٍ من الصَّحابة الحاضرين أنَّ البناء على القبر حرام، وأنَّه (صلَّى الله عليه وآله) نهى عنه نهيًا شديدًا، ولمَّا كان البيت متعلِّقًا بزوجته عائشة جعلوا في وسطه ساترًا، ولمَّا تُوفِّي الشَّيخان أوصيا بدفنهما في حجرة النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) تبرُّكًا بذاته ومكانه، ولم تُسمع من أيِّ ابن أُنثى نعيرةٌ أنَّه حرامٌ ولا مكروهٌ، وعلى ذلك استمرَّت سيرة المسلمين في حقِّ الصُّلحاء والأولياء والعُلماء، يدفنونهم في البيوت المعدَّة لذلك، أو يرفعون لمراقدهم قواعد وسقفًا بعد الدَّفن تكريمًا لهم وتقديرًا لتضحياتهم، ولم يخطر ببال أحدٍ أنَّه على خلاف الدِّين والشَّرع. وهذا عمل المسلمين وسيرتهم القطعيَّة في جميع الأقطار والأمصار، ملء المسامع والأبصار على اختلاف نزعاتهم، من بدء الإسلام إلى هذا العصر من الشِّيعة والسُّنَّة، وأيُّ بلادٍ من بلاد الإسلام من مصر، أو العراق، أو الحجاز، أو سوريا، أو تونس، أو مراكش، أو إيران، وهلمَّ جرًّا ليس فيها قبورٌ مشيَّدةٌ، وضرائحُ منجَّدة؟ ....
إلى أنْ قال (دامت بركاته): فكلُّ هذا دليلٌ على الجواز، ولو لم تكن تلك السِّيرة المسلَّمة بين المسلمين والعقلاء عامَّةً غير مفيدةٍ في المقام، فلا يصحُّ الاستناد إلى أيِّة سيرةٍ قاطعةٍ بين المسلمين أو النَّاس) [بحوث في الملل والنِّحل، ج4، ص316].
الخاتمة:
والحاصل ممَّا تقدَّم أنَّ التَّسوية في هذا الحديث لا يُقصد منها الهدم – كما يُزعم – وإنَّما المراد منها التَّعديل... والحمد لله ربِّ العالمين.
اترك تعليق