لماذا خصّ الله تعالى الرسالات ببعض البشر، دون بعض؟

تقرير الشبهة: يسأل البعض عن سرّ انحصار الرسالات، والنبوات بأشخاص معينين، وأنّه لماذا لا تنفتح رسالات الله تعالى على كلّ أحد حتّى يصبح جميع الناس أنبياء ومرسلين؟

: اللجنة العلمية

لا ريب أنّ الاختصاص بتلك الملكة النبوة والرسالة عند البعض وليس عند الكل، إنّما يكون بجهة مرجحة لا يعلمُها إلاّ الله تعالى، وليس علينا السؤال عن هذه الجهة، وهذا كاختصاص كثير من المخلوقات، بل كلّها بأوصاف خاصة، واختلافهم في الأفراد والأنواع، واختصاص السماء والأرض بالخلق وغير ذلك. 

وما هو المعلوم عقلاً وشرعاً أنّ كلّ ذلك لم يكن عبثاً، ومن خلق هذا الخلق، وجعل هذا النظام المتقن في كلّه، واجزائه لم يكن لاعباً وعابثاً. فالنظام الحاكم على عالم الإنسان، والحاكم على عالم الحيوان، والنباتات بأنواعها، والجمادات كلّها تشهد بحكمته وتقدسّه عن اللغو والعبث.

قال سبحانه وتعالى في وصف أولى الألباب : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)(1). 

وقال تعالى جده : (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)(2). 

وقال عز من قائل: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)(3) 

وهذا لا يمنع عن القول بأشرفية البعض من البعض وأفضليته، بل غاية ما يقال فيه إنّ ذلك بتقديره وحكمته.

والجواب على النحو العام: هو إنّ أفعال الله تعالى كلّها متقنة محكمة صدرت منه لأغراض متعالية، والتفضيل المشاهد في العالم. 

إمّا يحصل لعلل يقتضيها ضيق عالم المادة، وما جعل الله في كلّ جزء من أجزاء هذا العالم بتقديره من التأثير في غيره، أو التأثر منه. 

وإمّا يحصل لعلل اختيارية تؤثر في كمال النفس وفضلها، وتؤثر في تفضيل بعض الافراد من الإنسان والحيوان والنبات على غيرها، وقد يحصل لعلل أخرى اختيارية للعبد، وغير اختيارية، مما يوجب الترجيح ويؤثر فيه.

والجهات المرجحة كثيرة، لا يمكننا إحصائها ومعرفة تفاصيلها. فإذا وجد بإذن الله تعالى وتقديره شخص قابل لإفاضة غيبية وعناية ربانية كالعصمة والعلوم اللدنية لا يحرم منها، ويستحيل أن يمنع الله تعالى ذلك عنه، والله تعالى أعلم بموارد عناياته وإفاضاته. هذا، ولنا أن نقول إنّ النظام لا يتم، بل لا يقوم إلاّ على التفضيل والاختصاص والاصطفاء. فاختصاص العين بالرؤية، والاذن بالسمع، وسائر الأعضاء بخاصية معينة، وكذا اختصاص هذا الشجر بهذا الثمر، وهذا بهذا، هو المقوم لهذا النظام بإذن الله تعالى ، ولو لم يكن هذا الاختصاص لم يكن هذا العالم ، و(ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)(4).

فالاصطفاء والاختصاص والتفضيل أمر واقع في عالم التكوين مهما كانت علله، معلومة كانت لنا أو مجهولة عندنا. نرى ذلك بالعيان، ونقرأه في تراجم الأنبياء والأولياء، وأرباب العقول الكبيرة وغيرها، كما نلمس عصمة الأنبياء، والأولياء من خلال سيرتهم وعباداتهم وخصائصهم وأخلاقهم لا يمكننا إنكار الواقعيات، والقرآن المجيد أيضاً ناطق باصطفاء بعض الناس على بعض، وبعض الأنواع على البعض(5).

قال الله تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ)(6).

وقال سبحانه : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)(7).

وقال عز من قائل : (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ )(8). 

وقال جل شأنه : ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)(9).

وقال تعالى جده : (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)(10).

وقال تعالى شأنه : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا)(11).

وقال تعالى : (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ)(12).

وقوله عز شأنه : (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)(13) .

نعم يستفاد من البعض الآخر جهة التفضيل، كقوله تعالى : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)(14). حيث يستفاد منه أنّ جهة تفضيل موسى على بعض الأنبياء أنّه كلم الله، وجهة تفضيل عيسى البينات، وتأييده من جانب الله تعالى بروح القدس.

وكما يستفاد من البعض الآخر أنّ التفضيل إنّما يكون لحكمة أخرى خارجة عن المفضل والمفضل عليه، وإن كانت فائدته ترجع إليهما، وإلى النظام، كقوله تعالى : (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا)(15)، (15) .

إذاً فلا استبعاد في اختصاص بعض الناس بالاصطفاء والعصمة وغيرها من الفضائل، بعد ما يرى مثلها في نظام الله تعالى في خلقه، وبعد ما جرى عليه عادته وسنته. فلا يجوز السؤال عن ذلك حسداً أو اعتراضاً، ولا فائدة فيه، قال الله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا)(16).

 وروى ثقة الاسلام الكليني في الكافي، عن عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حماد بن عثمان، عن عبد الله الكاهلي، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) : (لو أن قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة ، وحجوا البيت، وصاموا شهر رمضان، ثم قالوا لشئ صنعه الله، أو صنعه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ألا صنع خلاف الذي صنع، أو وجدوا ذلك في قلوبهم، لكانوا بذلك مشركين. ثم تلا هذه الآية: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)(17).

إذاً لا يمكن اسؤال بهذه الكيفية لوجود النظام الأكمل والاحسن والأفضل عند الله وعند البشر ولا يوجد نظام افضل منه مما جعل الله تعالى(18). 

 

_______________________________________________________________________________

(1) آل عمران/ 191.

(2) سورة ص/27.

(3) الحج/115.

(4) ياسين/38. 

(5) العصمة عند المتكلمين، مركز المصطفى، ج1، ص11.

(6) الإسراء/55.

(7) البقرة/253.

(8) آل عمران/42.

(9) بقرة/47.

(10) آل عمران/33.

(11) فاطر/32.

(12) النساء/32.

(13) المجادة/11. 

(14) البقرة/253. (15) الوافي الفيض الكاشاني، ج4، ص124.

(15) الزخرف/32.

(16)  العصمة عند متكلمي الشيعة، ج1، ص11النساء/54. 

(17) الكافي، الكليني، ج1، ص390.

(18) أنظر: لمحات، لطف الله الصافي، ص120. 

ومجموعة الرسائل، لطف الله الصافي، ج1، ص45. 

ومعنى العصمة في اللغة والحديث واصطلاح المتكلمين، ج1، ص11. 

فتح الباري، ابن حجر، ج12، ص325.