اقتضاء الصلح أنْ يكون معاوية أميراً على الإمام الحسن (ع).
يظن بعضهم أنّ معاهدة الصلح التي وقعت بين الإمام الحسن (عليه السلام) وبين معاوية، جعلت من معاوية أميراً على الإمام (عليه السلام).
الخطوة الأولى: تعريف الصلح لغةً واصطلاحاً:
الصلح في اللغة من صَلَحَ يَصْلَحُ ويَصلِحُ صَلاحاً وصُلُوحاً زال عنه الفساد، والصلاح ضد الفساد، والإصلاح نقيض الإفساد، والاستصلاح نقيض الاستفساد، وأصلح الشيء بعد فساده أقامه، وأصلح الدابة أحسن إليها فصلحت، واصطلح القوم: زال ما بينهم من عداوة وشقاق، قال ابن فارس: (الصاد واللام والحاء أصلٌ واحد يدل على خلاف الفساد) (١)، والصلح إنهاء الخصومة، وتصالح القوم بينهم، والصلح السلم، وهي المسالمة بعد المنازعة، وقد اصطلحوا، وصالحوا، وتصالحوا، واصّالحوا بتشديد الصاد، قلبوا التاء صاداً وأدغموها في الصاد بمعنى واحد، وقوم صلوح متصالحون كأنّهم وصفوا بالمصدر، والصلاح بكسر الصاد مصدر المصالحة والعرب تؤنثها، والاسم الصلح يذكّر ويؤنث، وأصلح ما بينهم وصالحهم مصالحة وصلاحاً (٢).
وقال الأصفهاني: (والصلح يختص بإزالة النفار بين الناس، يقال منه اصطلحوا وتصالحوا) (٣).
فالصلح في اللغة في معناه العام بمعنى إزالة الفساد وإحلال الخير والصلاح عموماً، وفي معناه الخاص: إزالة الشقاق وإنهاء الخصومات ووقف العداءات.
أمّا معنى الصلح في الاصطلاح فمأخوذ من معناه اللغوي، وقد عرَّفه صاحب (الروض المُربِع)، بقوله: (معاقدة يُتوصل بها إلى إصلاحٍ بين المتخاصمين) (٤)، وعرّفه ابن قدامة في (المغني): (معاقدةٌ يُتوصل بها إلى الإصلاح بين المختلفين، ويتنوع أنواعاً؛ صلح بين المسلمين وأهل الحرب، وصلح بين أهل العدل وأهل البغي) (٥).
وملخّص القول في الصلح هو: كل ما يوفَّق به بين الناس، ويتحقق به رفع النزاع، أو وقف القتال، أو قطع الخصومة الواقعة بين طرفين.
إذن، فمقتضى الصلح هو رفع الخصومة بين المتنازعين ووقف القتال، فأين المقتضي في الصلح الذي يوجب أن يكون أحد المتخاصمين أميراً على خصمه الآخر، هذا ما لم يقل به أحدٌ، ولم يُسمع من جاهلٍ فضلاً عن عالم، فالاقتضاء المدَّعى لا يساعد عليه العرف ولا الشرع ولا اللغة.
الخطوة الثانية: (لا يَلِيَنَّ مُفَاءٌ على مُفِيء) والمُفاء معاوية بن أبي سفيان.
من الأمور التي تنقض المدَّعى وتستأصل الشبهة من جذورها حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): (لا يَلِيَنَّ مُفَاءٌ على مُفِيء) (٦)، قال ابن الأثير في (النهاية): (المفاء: الذي افتتحت بلدته وكورته فصارت فيئاً للمسلمين، يُقال: أفأتُ كذا: أي صيّرته فيئاً، فأنا مفيءٌ، وذلك الشيء مُفاء، كأنه قال: لا يَلِينَّ أحدٌ من أهل السواد على الصحابة والتابعين الذين افتتحوه عنوة) (٧).
وقال الزمخشري في (الفائق) ما نصُّه: لا يحل لأمرئ أن يؤمِّر مُفاءً على مفيءٍ. أي يؤمِّر مولى على عربيٍّ؛ لأنّ الموالي فيئهم (٨).
وكيف كان فـ (المُفاء) هو الذي صار فيئاً للمسلمين، و(المُفيءُ) هو كل مسلم أَخذ ذلك المُفاء عنوةً، فلو كان ذلك المُفاء المأخوذ كبيراً يجوز للمسلمين قتْله، واطلاقه مَنّاً أو فداءً، ولو كان صغيراً لم يبلغ الحُلُم جاز لهم استرقاقه وكذلك إطلاقه مَنّاً أو فداءً.
لكنّ المراد بـ (المُفاء) في هذا الحديث: هو الذي صار طليقاً بالمنِّ عليه، صغيراً كان أو كبيراً.
وفي معنى (الطليق)، قال ابن حجر العسقلاني في (نزهة الألباب) ما نصُّه: (الطليق اسمٌ لكلِّ من كان بمكة يوم الفتح ومَنَّ عليه رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لقوله لهم: أنتم الطُّلَقاء) (٩).
ولا يخفى على ذوي العقول والحجى من المسلمين في شرق الأرض ومغربها، بأنّ معاوية بن أبي سفيان من الطُّلقاء إلى الحدِّ الذي لا يَشك في ذلك عاقل ولا يتردد، قال أبو بكر الجصاص: (والثالث: قوله: (أنتم الطُّلقاء)، وبلغ من استفاضة ذلك في الأمة، أنّ الصحابة كانوا يسمُّون قريشاً الذين أطلقهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) حين فتح مكة: الطُّلقاء، مثل: سهيل بن عمرو، ومعاوية، وأشباههما من الناس، حتى كانوا يسمُّون أبناءهم: أبناء الطلقاء. وقال عمر: إنَّ هذا الأمر -يعني الخلافة- لا يصلح للطُّلقاء، ولا لأبناء الطُّلقاء. فكانت هذه سمةً لهم ولأبنائهم، حتى صارت كالنسب لشهرتها واستفاضتها) (١٠).
ورَوى المتقي الهندي في (كنز العمال) بسندٍ ينتهي إلى المطَّلب بن عبد الله بن حنطب، وأبي جعفر، أنّهما قالا: (قال عمر لأهل الشورى: إن اختلفتم دخل عليكم معاوية بن أبي سفيان من الشام...) (١١).
وروى ابن عساكر في تأريخه ما كتبه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى معاوية في كتابٍ يقول فيه بعد كلامٍ طويل اقتطعنا منه محلَّ الشاهد: (واعلم يا معاويةُ أنّك من الطُّلقاء الذين لا تحلّ لهم الخلافةُ ولا تعرض فيهم الشورى) (١٢).
إذن، فمعاوية ممن كان المسلمون حاكمين عليه بالقتل أو الاسترقاق ولم يفعلوا ذلك، بل تكرّموا ومنّوا عليه بالإطلاق، فولاية القتل والاسترقاق ثابتةٌ لهم كما في ولاء العتق، فلم يكن لمعاوية ولغيره من الطُّلقاء أنْ يأمر ولا أنْ ينهى ولا أن يتأمّر على المسلمين قضاءً لحقوق تلك الولاية.
ووجه ذلك أنّ المسلمين هم الذين وهبوا له آثار الحياة والحريّة، بحيث صار يأمُر وينهى نفسه، يذهب ويجيء حيث يشاء، فلو صار يأمر وينهى المسلمين، ويتأمَّرُ عليهم، صار كعبدٍ يتحكم بمولاه، وهذا منقوضٌ بولاية المسلمين على الطُّلقاء.
هذا مرمى قوله (صلى الله عليه وآله وسلّم): (لا يَلِيَنَّ مُفاءٌ على مفيء) أي لا يكون الطليق أميراً على المسلمين أبداً، ولو تأمَّر عليهم لكان غاصباً لحق الإمارة، ظالماً لهم بحكم الشرع والعقل والاعتبار، فحيث كان معاوية طليقاً لم يكن له أنْ يتأمَّر على المسلمين.
الخطوة الثالثة: شروط الصلح تقتضي أنْ يكون الحسن (عليه السلام) أميراً على معاوية.
تقدم أنَّ الصلح يقتضي رفعَ النزاع، أو وقف القتال، أو قطع الخصومة الواقعة بين طرفين، وأنّه لا يُتصوَّرُ بوجهٍ من الوجوه اقتضاءه إمْرة أحد المتخاصمَين على الآخر، فالصلح المبرَم بين الإمام الحسن (عليه السلام) وبين معاوية بن أبي سفيان، مقتضاه وقفُ القتال ورفع النزاع، وليس من مقتضيات الصلح إمْرة معاوية على الإمام الحسن (عليه السلام)، وليس لهم على ذلك من دليل، بل الدليل على العكس؛ لأمور منها:
الأول: أنَّ الخلافة كما ذاع واشتُهر لا تصلح للطُّلقاء ولا لأبناء الطُّلقاء كما بيّنّا ذلك في الخطوة الثانية، ومعاوية بن أبي سفيان طليقٌ وابن طليق، وهذا الأمر مما تسالمت عليه جميع المذاهب الإسلامية.
الثاني: أنّ شروط الصلح التي أملاها الإمام الحسن (عليه السلام) على معاوية هي التي تقتضي أنْ يكونَ الإمام الحسن (عليه السلام) أميراً على معاوية وغيره، فالأمير هو من يأمُر فيُؤتمَر له وما أثبتته الوثائق التأريخية التي لا يمكن إغفالها أو تجاهلها بحال من الأحوال أنّ معاوية قد قبِل بكل شروط الإمام الحسن (عليه السلام) التي أملاها عليه، كما أنّ مَن يرسل صحيفة بيضاء (١٣)، ويختم في أسفلها فهو بحكم الإقرار منه بمحكوميّته من قبْل أن يسطِّر فيه شروطه، وهذا بحد ذاته كافٍ في نسف المدَّعى من أساسه وانقلاب الآمر- هذا لو سلَّمنا أن معاوية أميرٌ- إلى مأمور.
نقل العلامة المجلسي (ره) في البحار عن الشيخ الصدوق، قال: (... حدّثَنا يوسف بن مازن الراسبي قال: بايع الحسن بن علي (عليه السلام) معاوية على أنْ لا يسمّيه أميرَ المؤمنين، ولا يقيم عنده شهادةٌ، وعلى أنْ لا يتعقّب على شيعة عليٍّ (عليه السلام) شيئاً، وعلى أنْ يفرِّق في أولاد من قُتل مع أبيه يوم الجمل وأولاد من قُتل مع أبيه بصفين ألف ألف درهم، وأن يَجعل ذلك من خراج دار أبجرد.
قال: وما ألطف حيلة الحسن (عليه السلام) في إسقاطه إياه عن إمرة المؤمنين، قال يوسف: فسمعت القاسم بن محيمة يقول: ما وفى معاوية للحسن بن عليٍّ (عليه السلام) بشيءٍ عاهده عليه وإنّي قرأتُ كتاب الحسن (عليه السلام) إلى معاوية يعدِّد عليه ذنوبه إليه وإلى شيعة عليٍ (عليه السلام) فبدأ بذكر عبد الله بن يحيى الحضرمي ومن قتَلهم معه.
فنقول: رحمك الله إنّ ما قال يوسف بن مازن من أمر الحسن (عليه السلام) ومعاوية عند أهل التمييز والتحصيل تسمى المهادنة والمعاهدة، ألا ترى كيف يقول "ما وفى معاوية للحسن بن عليٍّ بشيءٍ عاهده عليه وهادنه" ولم يقل بشيءٍ بايعه عليه، والمبايعة على ما يدَّعيه المدَّعون على الشرائط التي ذكرناها، ثم لم يفِ بها لم يلزم الإمام الحسن (عليه السلام).
وأشد ما ههنا من الحجة على الخصوم، معاهدته إياه على أنْ لا يسمّيه أمير المؤمنين، والحسن (عليه السلام) عند نفسه لا محالة مؤمن فعاهده على أنْ لا يكون عليه أميراً؛ إذ الأمير هو الذي يأمُر فيُؤتمَر له.
فاحتال الحسن (عليه السلام) لإسقاط الايتمار لمعاوية إذا أمَره أمراً على نفسه، والأمير هو الذي أمره مأمور من فوقه، فدل على أن الله عز وجل لم يؤمِّره عليه، ولا رسوله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أمَّره عليه، فقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم): (لا يَلِينّ مُفاءٌ على مفيء) (١٤).
وهنا لابدَّ مِنْ ذكر البنود التي اشترطها الإمام الحسن (عليه السلام) على معاوية لتتضح الصورة التي أُريدُ أنْ أقف عندها،، ومن هذه البنود:
١ - أن لا يسمّيه أمير المؤمنين (١٥).
٢ - أن لا يقيم عنده شهادة (١٦).
٣ - أن لا يتعقّب على شيعة عليٍّ (عليه السلام) شيئاً (١٧).
٤ - أن يفرّق في أولاد من قُتل مع أبيه يوم الجمل وأولاد من قُتل مع أبيه بصفين ألف ألف درهم، وأن يجعل ذلك من خراج دار أبجرد (١٨).
٥ - وأن لا يشتم علياً (١٩).
فالمتأمل في هذه البنود سيجد أنّها بنفسها تنفي الخلافة عن معاوية، وهذا من تدبير الإمام (عليه السلام)، فمِن المسلّم أنَّ الإمام من المؤمنين بل على رأسهم، فإذا كان معاوية ليس أميراً للمؤمنين عملاً بالبند الأول فهذا يعني أنّه ليس أميراً على الحسن بل على سائر المؤمنين، وكذلك البند الثاني، فكيف يكون خليفة ولا تقام عنده الشهادات؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) مقاييس اللغة لابن فارس: ٣ - ٣٠٣.
(٢) لسان العرب لابن منظور: ٢ - ٥١٧.
(٣) مفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني: ١ - ٥٨٧.
(٤) الروض المربع للبهوتي: ٣٧٩.
(٥) المغني لابن قدامة: ٤ - ٣٥٧.
(٦) علل الشرائع للشيخ الصدوق: ١ - ٢١٢.
(٧) النهاية في غريب الحديث والأثر: ٣ – ٤٨٣؛ وانظر: غريب الحديث لابن الجوزي: ٢ - ٢١٣.
(٨) الفائق في غريب الحديث: ٣ – ١٥٢؛ وانظر: المحيط في اللغة: ٢ – ٤٨١؛ والعباب الزاخر: ٣٣.
(٩) نزهة الألباب لابن حجر العسقلاني: ١ - ٤٤٧.
(١٠) شرح مختصر الطحاوي للجصاص: ٧ - ١١٠.
(١١) كنز العمال للمتقدي الهندي: ٥ - ٧٣٥.
(١٢) تاريخ دمشق لابن عساكر: ٥٩ - ١٢٨.
(١٣) انظر: أنساب الأشراف للبلاذري: ٣ – ٤١؛ والكامل في التأريخ لابن الأثير: ٣ – ٦؛ وتأريخ ابن خلدون: ١ - ٣٢٨.
(١٤) بحار الأنوار: ٤٤، ١ - ٢.
(١٥) علل الشرايع للشيخ الصدوق: ١ - ٢٠٠.
(١٦) المصدر نفسه.
(١٧) المصدر نفسه.
(١٨) الكامل في التاريخ: ٣ - سنة ٤١؛ علل الشرايع: ١ - ٢٠٠.
(١٩) الكامل في التاريخ: ٣ - سنة ٤١؛ وقريب منه: سير أعلام النبلاء للذهبي: ٣ – ٢٦٤.
اترك تعليق