سورة التوبة والقواعد الاسلامية في التعامل مع أتباع الدّيانات الأخرى.

داود/: سورةُ التّوبةِ وضعتْ قواعدَ التعامل الإسلاميةِ مع أتباع الدّيانات الأخرى الّذين كان محمد على صلة معهم: أولًا: قدّمت السّورةُ أحكامًا قيمية تجاهَ الأديان الأخرى. ثانيًا : نظّمت قواعدَ التّعامل مع أصحابها. ثالثًا : أرستْ نهائيًا مفهومَ الجهاد بوصفه أداة التعامل معهم. والسّورة عمومًا مصبوغةٌ بنزعةٍ قتالية، كما يدلّ على ذلك أمران: 1-أسماء السّورة تورد مصادر التفسير أسماء مختلفة للسورة، أشهر هذه الأسماء: {البراءة} و{التوبة}، على أن للسورة أسماء أخرى. وتعتبر هذه الأسماء بمثابة تعريفات وأوصاف تجسّدُ روحَ السّورة الحربية، مثل:{المخزية والمنلكة والمشردة} المنار 10:175.ويروي أن الصّحابي حذيفة قال:{إنكم تسمونها سورة التوبة، وإنما هي سورة العذاب} الجلالين : 187. 2-إسقاط {البسملة} سورة التوبة هي السّورةُ الوحيدةُ في القرآن التي لا تكتب {البسملة} في مطلعها. وقد طرحت آراء تعليلًا لإسقاط {البسملة}، أبرزها : 1-إنّ{البسملة} تشير إلى الرحمة والأمان، ولما كانت هذه السورة تحتوي على آيات تحث على القتال، أسقطت “البسملة” منها. 2-الرأي الثاني ليس بعيدًا عن الرأي الأول، ويعلل بأنه في ذلك العصر كان العرب إذا كتبوا كتابًا يحتوي على نقض عهد أسقطوا منه {البسملة}. وقد قرئت السورة بدون {البسملة} حسب هذا التقليد الشنقيطي 2 : 501. ويعود اتسام السورة بنزعة الحرب إلى أنها صيغت في مراحل زمنية من التاريخ الإسلامي كانت حافلة بحملات وغزوات، أهمها : -الاستعداد لاجتياح مكة (الآيات13-15)، ثم فتح مكة في السنة الثامنة الهجرية (630م)، ومعركة حنين التي جرت بعد فتح مكة مباشرة (الآية 25). -القيام بغزوة تبوك على مشارف الحدود السورية في السنة التاسعة الهجرية (631م)، وهي أول غزوة عسكرية للمسلمين ضد أطراف خارج الجزيرة العربية. -في السنة التاسعة الهجرية (631م)، أرسل محمد أبا بكر إلى مكة ليؤم الحجيج، ولم يكد يصل علي أبو بكر مكة حتى كان علي بن أبي طالب قد لحق به بأمر من محمد ليقرأ على الحجاج الجزء الأول من سورة التوبة البيضاوي 4 : 426، وقد اشتمل هذا الجزء على إبطال كل ميثاق سلام عقده  محمد مع القبائل العربية المشركة، وعلى حظر تعدد الأديان في وسط الجزيرة العربية ليصبح الإسلام الدين الوحيد. تقسم سورة التوبة أهل الأديان الأخرى إلى قسمين: 1-المشركون: وهم أتباع الديانات غير الكتابية. 2-أهل الكتاب: وهم اليهود والمسيحيون، وبناء على هذا التقسيم تحدد السورة قواعد معاملتهم.

: اللجنة العلمية

الأخ داود، تحيةً طيبةً:

مِنْ خِلالِ السّردِ المُطَوّلِ لم يتّضحْ فَحوى سُؤالكَ ولكنْ سَوفَ نُجيبُكَ ونُبيّن ُ لكَ شَأنَ نُزولِ سورة التّوبةِ.

فقد وَرَدَ في تفسيرِ الأمثَلِ أنّهُ قال:

ذكرَ المفسّرونَ لهذهِ السّورةِ أسماءً عديدةً تَبلغُ العشرَة، غيرَ أنَّ المشهورَ منها هو ما يلي: سورةُ البراءة، وسورةُ التّوبة، والسّورةُ الفاضحةُ. ولكلٍّ من التّسمياتِ سببٌ جليٌّ.

فالبراءةُ: لأنّها تُبتدَأ بإعلانِ براءةِ الله مِنَ المشرِكينَ، والّذينَ يَنقُضونَ عَهدَهُم.

والتّوبة: لمِا وَرَدَ من مَزيدِ الكَلامِ عن التّوبة في هذه السّورة.

والفاضِحَة: لما فيها من الآياتِ الّتي تَكشفُ النّقابَ عن أعمالِ المُنافقينَ لتَعرِيَتِهم وخِزيّهم وفَضيحَتِهم.

أمّا متى نزلَتْ هذه السّورةُ:

هذهِ السّورةُ هيَ آخرُ سورةٍ نزلَتْ على النّبيّ الأكرم (صلّى الله عليهِ وآله وسلّم) أو مِنْ أواخرِ السُّوَرِ النّازلةِ عليهِ في المدينةِ، وهي كما قُلنا ذاتُ ١٢٩ آيةً فحَسب.

والمعروفُ أنَّ بِدايةَ نُزولِ هذهِ السّورة كانتْ في السَّنةِ التّاسعةِ للهجرة، ويدلُّ تتبُّع آياتها على أنّ قسماً مِنها نَزلَ قبلَ معركةِ تَبوك، وقِسماً منها نَزلَ عندَ الاستعدادِ للمَعركةِ أو «الغَزوة»، وقسماً مِنها نزلَ بعدَ الرّجوعِ مِنَ المعركةِ والفَراغِ منها.

ومِنْ بدايةِ السّورةِ حتّى الآية (٢٨) نَزلَ قُبيلَ مَوسمِ الحَجّ، كما سَنبيّنُ ذلكَ بعونِ الله، والآياتُ الأُولى ـ هذه ـ والّتي تتعلّقُ بِمَنْ بقيَ منَ المشركينَ بَلّغَها أميرُالمؤمنينَ (عليه السلام) في مَوسمِ الحَجّ.

أمّا مُحتوى السّورة:

فهو لمّا كانَ نُزولُ هذهِ السّورةِ إبّانَ إنتشارِ الإِسلامِ في الجَزيرة العربيّة، وتَحطيمِ آخرِ مُقاومةٍ للمُشركين فقد كانَ لما حَوتْهُ مِنْ مَفاهيم أهميَّةً بالغةً ومواضيعَ حسّاسة. إذ يَتعلَّقُ قِسمٌ مِنها بالبَقيّةِ الباقيةِ مِنْ عَبَدَةِ الأوثانِ والمُشركين، وقَطعِ العِلاقات مَعَهُم، وإلغاءِ المعاهداتِ والمواثيق التي كانَتْ بَينَهم وبينَ المسلمينَ، لِنَقضِهم لها مراراً، لِيَتمّ تَطهيرُ المُحيطِ الإِسلاميّ مِنْ رِجسِ الوَثنيّة الى الأبد.

وحيثُ أنّ بَعضَ الأعداءِ عندَ إنتشارِ رُقعَةِ الإسلامِ وتَحطيمِ قُوىٰ الشّركِ غيّرَ مَظهرَهُ بُغيَةَ النّفوذِ بينَ المسلمين، ولِتَوجيهِ ضَربةٍ قاضيةٍ للإِسلامِ مِنْ قِبَلِ المنافقينَ فإنّ قِسماً مُهمّاً مِنْ آياتِ هذهِ السّورةِ تَتحدّثُ عَنِ المُنافقينَ وعاقِبَتِهم، وتُحَذّرُ المسلمينَ منهم.

وبعضُ آياتِ هذهِ السّورةِ تتحَدّثُ عنِ الجِهادِ في سَبيلِ الله وأهميَّتهِ، لأنَّ الغَفلةَ عن هذا الأمرِ الحَياتيّ في ذلكَ الظّرفِ الحَسّاسِ تَبعَثُ على ضَعفِ المسلمينَ وتَقهقُرِهم أو إنكسارِهم.

كما أنَّ قِسماً منه يُكملُ البُحوثَ السّابقةَ الّتي تناولَتْ إنحرافَ أهلِ الكتابِ «اليَهود والنّصارى» عن حَقيقةِ التّوحيدِ، وتَتكلّمُ عن إنصرافِ عُلمائِهم عن واجِبِهم في التّبليغِ وقيادةِ المُجتمع.

وفي بعضِ آياتِ هذهِ السّورةِ حَثٌّ للمُسلمينَ على الإتّحادِ ورَصِّ الصّفوفِ ـ تَعقيباً على ما جاءَ آنفاً في الحَثِّ على الجِهاد ـ والتّوبيخِ للمُتخاذلينَ المتَحرّفينَ أو الضِّعافِ الّذينَ يَتذرّعون بذرائعَ واهيَةٍ للتّخلّصِ مِنْ هذا الواجبِ، ثمّ إنّ فيها ثناءً على المهاجرينَ السّابقين إِلى الهجرة، والصّفوةِ مِنَ المؤمنينَ الصّادقين.

أمّا لِمَ لَمْ تَبدَأ هذهِ السّورةُ بالبسملةِ؟

يُجيبُ إستهلالُ السّورةِ على السّؤالِ آنفِ الذّكرِ فقَد بُدِءَتْ بالبراءةِ ـ مِنْ قِبَلِ الله ـ مِنَ المشرِكين، وإعلانِ الحربِ عليهم، وإتّباعِ أسلوبٍ شَديدٍ لمواجَهتِهم، وبَيانِ غَضبِ الله عليهِم، وكُلّ ذلكَ لا يَتناسبُ والبسملة (بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم) الدّالة على الصّفاءِ والصّدقِ والسّلامِ والحُبِّ; والكاشفةِ عن صِفَةِ الرحمة واللُّطفِ الإِلهي.

وقد وردَ هذا التّعليلُ عن علي (عليه السلام) فقد جاءَ في مَجمَع البَيانِ عن الشّيخِ الطبرسي عن علي (عليه السلام) أنّه قال «لم تَنزِلْ بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم على رأسِ سورةِ «براءة» لأنّ بسم الله للأمان والرّحمة ونزلتْ براءةُ لرَفعِ الأمانِ والسَّيف فيه!».

ويعتقدُ بعضُ المفسّرينَ أنّ سورةَ براءة ـ في الحقيقةِ ـ تَتمَّةٌ لسورةِ الأنفالِ، لأنَّ الأنفالَ تتّحدّثُ عن العهودِ، وبراءةُ تتحدّثُ عَنْ نقضِ تلكَ العهودِ، فلَمْ تُذكَرِ البَسملَةُ بينَ هاتَينِ السّورتينِ لإرتباطِ بعضِهما ببَعض. وقد وردَ عن الإِمامِ الصّادق (عليه السّلام) كما في تَفسيرِ الطّبري هذا المعنى أيضاً.

ولا مانعَ أنْ يكونَ السّبَبُ في عَدَمِ ذِكرِ البَسمَلةِ مجموعَ الأمرين آنِفَي الذّكر ـ

كانتْ في المجتَمعِ الإِسلاميّ ومُحيطهِ طَوائفَ شَتّى، وكانَ النّبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتّخِذُ منها موقفاً خاصّاً يَتناسبُ ومَوقفِها منه.

فطائفةٌ مِنها مَثَلاً لم يكُنْ لها أيُّ عَهدٍ مع النّبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والنّبي (صّلى الله عليه وآله وسلّم) كذلكَ لم يَكنْ لهُ أيُّ عَهدٍ مَعَها.

وطوائفُ أُخرى عاهَدَتِ النّبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الحُديبيّةِ ـ وأمثالِها ـ على تَرْكِ المخاصَمةِ والمُنازعةِ، وكانتْ عهودُ بَعضِهم ذاتَ أجَلٍ مُسمّى، وبعضُ العُهودِ لم تَكنْ ذاتَ أجلٍ مُسمّى.

وقَد نَقضَتْ بعضُ تلكَ الطّوائفِ عهودَها من جانبٍ واحدٍ، ومِنْ دونِ أيّ سَبَبٍ يُجيزُ النّقضَ وذلكَ بِمُظاهَرتِها أعداءَ الإِسلامِ، أو حاولتْ إغتيالَ رسولِ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

كما هو الحالُ في يَهودِ بني النَّضيرِ وبَني قُريظةَ، فواجَهَهُم النّبيُّ بِشِدّةٍ وطَرَدَهُم مِنَ المدينةِ، لكنَّ بعض المعاهداتِ بَقيَتْ سارِيةَ المَفعولِ، سواءٌ كانتْ ذاتَ أجلٍّ مُسمّى أو لم تَكُن.

الآيةُ الأُولى مِنَ الآيتينِ مَحَلِّ البَحثِ تُعلِنُ للمشركينَ كافّةً (براءةٌ مِنَ اللهِ ورَسولهِ إِلى الّذين عاهَدتُم مِنَ المشركين).

ثمّ أمهَلتْهُم مدّةَ أربعةِ أشهُرٍ لِيُفكّروا فيها ويُحدِّدوا مَوقِفَهم من الإِسلام، فإمّا أن يَتركوا عِبادتِهم للأصنامِ، أو يتهيؤا للمُواجَهةِ والقِتالِ، فقالتْ: (فسيحوا في الأرضِ أربعةَ أشهُرٍ واعلَموا أنّكم غير معجزي الله وأنّ الله مخزي الكافرين).

نحنُ نعرفُ أنّ الإِسلامَ أولىٰ أهميّةً قُصوىٰ للوَفاء بالعَهدِ والإلتزامِ بالمواثيقِ حتّى معَ الكُفّار والمشركينَ، وهنا يَنقَدِحُ سؤالٌ وهو: كيفَ أمرَ القرآنُ بإلغاءِ العهودِ الّتي كانتْ بينَ المسلمينَ والمشركينَ مِنْ جانبٍ واحد؟!

ويتّضِحُ الجَوابُ بملاحَظةِ الأُمورِ التّالية:

فإنه كما صَرّحَ في الآيتينِ (٧) و(٨) من هذهِ السّورةِ فإنّ إلغاءَ هذا العهدِ لم يكنْ دونَ أيَّةِ مُقدِّمةٍ، بل هناكَ قَرائنُ ودَلائلُ ظَهرَتْ مِنْ جانبِ المشركينَ تدلّ على نَقضِهِم عَهدَهم، وأنّهم كانوا علىٰ إستعدادٍ ـ في ما لو استطاعوا ـ أن يوجّهوا ضربةً قاضيَةً للمسلمين دونَ أدنى إعتناءٍ بِعهودِهم الّتي عاهَدوها، ومِنَ المنطِقيّ أنّهُ إذا رأى الإِنسانُ عَدوّهُ يَتربَّصُ بهِ ويَستعِدُّ لِنَقضِ عَهدِهِ، ولَديهِ قرائنُ على ذلك.

ولهذا نَلحظُ أنّ هذا الحُكمُ مُختصٌّ بالمشركينَ، أمّا أهلُ الكتابِ وسائرُ الأقوامِ الّذينَ كانوا في أطرافِ الجَزيرةِ العربيّةِ مِنَ الّذين كانَ بَينَهُم وبينَ النّبيّ نوعٌ مِنَ المواثيقِ والمعاهداتِ، فقد بَقِيَتْ على حالِها ولَم يُلغِ النّبيُّ (صلّى الله عليه وآلهِ وسلّم) مواثيقَهُم وعهودَهُم حتّى وَفاتِه.

أضِفْ إِلى ذلكَ أنَّ إلغاءَ عهودَ المُشركينَ لم يكنْ قد حدَثَ بِصورةٍ مُفاجئةٍ، بل أُمهِلوا مُدّةَ أربَعةِ أشهُرٍ، وأُعلِنَ هذا القَرارُ في الملأِ العام، وفي إجتماعِ الحاجّ يومَ عيدِ الأضحى، وفي البَيتِ الحَرامِ، لتكون لهمُ الفُرصَةُ الكافِيَةُ للتّفكيرِ، ولِتَحديدِ المَوقفِ، لَعلّهُم يَرجِعونَ عَنْ تلكَ الخُرافة الّتي كانَتْ أساسَ تَفرِقَتِهم وتَشتّتِهم وجَهلِهم، ويَرتَدعونَ عَنْ خِيانَتِهم. والله سُبحانهُ لم يَرضَ لَهُم أن يَكونوا غافلين.

فهذا هوَ شأنُ نزولِ سورَةِ التّوبةِ كما ذَكَرهُ جُملَةٌ مِنَ المُفسّرين.

ودُمتُم سالمين.