مَا هِيَ فَلْسَفَةُ الخَيْرِ وَالشَّرِّ فِي الإِنْسَانِ؟

الحميْدَاوِيُّ يَا مَهْدِينَا أَدْرِكْنَا:      السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.. هَلْ جَنْبَةُ الخَيْرِ وَجَنْبَةُ الشَّرِّ مَوْجُودَةٌ فِي الإِنْسَانِ تَكْوِينًا؟ وَإِذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فَهَلْ هِيَ مُتَسَاوِيَةٌ أَمْ مُخْتَلِفَةٌ؟ أَمْ هِيَ مُجَرَّدُ مُقْتَضَيَاتٍ وَالإِنْسَانُ بِاخْتِيَارِهِ وَإِرَادَتِهِ يُرَجِّحُ طَرَفًا عَلَى طَرَفٍ؟ أَمْ أَنَّ اللهَ زَوَّدَ الإِنْسَانَ بِالمَعْرِفَةِ فَقَطْ؟ أَرْجُو التَّوْضِيحَ مَعَ الشُّكْرِ وَالتَّقْدِيرِ.

: اللجنة العلمية

     الأَخُ المُحْتَرَمُ.. السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

     حَقِيقَةُ الإِنْسَانِ ضِمْنَ فَلْسَفَةِ الإِيمَانِ بِاللهِ تَرْتَكِزُ عَلَى عِلَاقَةِ المَخْلُوقِ بِالخَالِقِ، أَيْ أَنَّ الإِنْسَانَ أَوْجَدَهُ اللهُ مِنْ عَدَمٍ وَخَلَقَهُ عَلَى الهَيْئَةِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا، قَبْضَةٍ مِنْ طِينٍ، وَنَفْخَةٍ مِنْ رُوحٍ، فَأَنْتُمَا إِلَى الأَرْضِ مِنْ جِهَةِ الطِّينَةِ، وَأَنْتُمَا إِلَى السَّمَاءِ مِنْ جِهَةِ تِلْكَ النَّفْخَةِ.

     وَالمُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الوَصْفِ; هُوَ أَنَّ الإِنْسَانَ يُمْكِنُهُ العَيْشُ عَلَى الأَرْضِ وَهُوَ يَتَطَلَّعُ إِلَى اللهِ، وَبِهَذَا لَا يَحْكُمُ الإِنْسَانَ مُيُولٌ أَوْ اتِّجَاهٌ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا يَنْجَذِبُ إِلَى الأَرْضِ كَمَا يَنْدَفِعُ إِلَى الأَعْلَى لِيَتَسَامَى عَلَى المَادَّةِ.

     وَعَلَيْهِ فَالإِنْسَانُ فِي المَنْظُورِ القُرْآنِيِّ كَائِنٌ مُرَكَّبٌ مِنْ عَقْلٍ وَمِنْ شَهْوَةٍ، وَالعَقْلُ فِي الإِنْسَانِ يُمَثِّلُ مَرْكَزَ القُوَّةِ وَالتَّمْيِيزِ، فَمِنْ خِلَالِهِ يَعْرِفُ الحَقَّ وَيَتَسَامَى عَلَى الأَنَا وَحُبِّ النَّفْسِ، بَيْنَمَا تُمَثِّلُ الشَّهْوَةُ مَرْكَزَ الضَّعْفِ عِنْدَ الإِنْسَانِ، فَبِهَا يُحِبُّ نَفْسَهُ وَيَنْدَفِعُ إِلَى هَوَاهُ فَتَكُونُ بِذَلِكَ مَصْدَرًا لِلأَنَانِيَّةِ وَالحِرْصِ وَالطَّمَعِ وَالحَسَدِ وَكُلِّ الدَّوَافِعِ الشِّرِّيرَةِ.

     وَيَتَّضِحُ مِنَ الآيَاتِ القُرْآنِيَّةِ أَنَّ العَقْلَ غَيْرُ النَّفْسِ; لِأَنَّ النَّفْسَ فِي آيَاتِ القُرْآنِ قَدْ تَمِيلُ إِلَى الهَوَى وَتَأْمُرُ بِالسُّوءِ، وَهَذَا خِلَافُ مَا وَصَفَ بِهِ القُرْآنُ العَقْلَ وَالتَّعَقُّلَ. قَالَ تَعَالَى: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (يُوسُفُ 53). وَقَالَ تَعَالَى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40) فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَىٰ) (41 النَّازِعَاتُ). وَكُلُّ ذَلِكَ يُدَلِّلُ عَلَى أَنَّ طَبِيعَةَ العَقْلِ مُبَايِنَةٌ لِطَبِيعَةِ النَّفْسِ الإِنْسَانِيَّةِ، وَهَذَا لَا يُفْهَمُ إِلَّا فِي إِطَارِ كَوْنِ العَقْلِ نُورًا مَنَحَهُ اللهُ لِلإِنْسَانِ لِيُدْرِكَ بِهِ حَقَائِقَ الأُمُورِ، وَهَذَا بِخِلَافِ النَّفْسِ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ الأَكْرَمُ (ص): "إِنَّ العَقْلَ عُقَالٌ مِنَ الجَهْلِ، وَالنَّفْسُ مِثْلُ أَخْبَثِ الدَّوَابِّ".

     وَعَلَيْهِ فَلَيْسَ الإِنْسَانُ عَقْلًا مُجَرَّدًا لَا شَهْوَةَ فِيهِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ شَهْوَةً لَا عَقْلَ فِيهِ، وَإِنَّمَا كَائِنٌ مُرَكَّبٌ مِنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ، وَالحِكْمَةُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ أَنْ يَخْتَارَ الإِنْسَانُ بِإِرَادَتِهِ أَنْ يَكُونَ إِنْسَانًا رَبَّانِيًّا مَلَكُوتِيًّا، وَلَا يَكُونَ إِنْسَانًا حَيَوَانِيًّا أَرْضِيًا، قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ..) (176 الإِعْرَافِ) فَالخُلُودُ إِلَى الأَرْضِ يَكُونُ بِاتِّبَاعِ الهَوَى، وَهُوَ أَسَاسُ كُلِّ الشُّرُورِ الإِنْسَانِيَّةِ وَلِذَا شَبَّهَهُ اللهُ بِالكَلْبِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ أَنَّ الكَلْبَ لَا يَكُفُّ عَنِ اللَّهْثِ، وَالإِنْسَانُ الَّذِي يَتْبَعُ هَوَاهُ يَكُونُ فِي حَالَةٍ مِنَ اللَّهْثِ الدَّائِمِ خَلْفَهُ أَنَانِيَّاتُهُ وَمَصَالِحُهُ الخَاصَّةُ.

     وَعَلَيْهِ فَإِنَّ مُعَادَلَةَ الإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ قَائِمَةٌ عَلَى أَنَّ اللهَ أَلْهَمَهُ الفُجُورَ وَالتَّقْوَى، ثُمَّ كَلَّفَهُ أَنْ يَخْتَارَ بِمَحْضِ إِرَادَتِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِنْسَانًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَالأَنْعَامِ (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) (44 الفَرْقَانِ). قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشَّمْسِ: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)، وَمِنَ الوَاضِحِ أَنَّ المَقْصُودَ مِنَ النَّفْسِ هُوَ تَمَامُ الإِنْسَانِ المُرَكَّبِ مِنَ الرُّوحِ وَالبَدَنِ وَلَيْسَ خُصُوصَ الرُّوحِ، قَالَ صَاحِبُ المِيزَانِ: "وَالمُرَادُ بِالنَّفْسِ النَّفْسُ الإِنْسَانِيَّةُ مُطْلَقًا" (1).

     كَمَا قَدْ يُفْهَمُ مِنْهَا أَيْضًا أَنَّ المَقْصُودَ هُوَ الإِنْسَانُ الَّذِي بَلَغَ حَدَّ التَّكْلِيفِ فَلَا تَشْمُلُ الطِّفْلَ الصَّغِيرَ، وَنَسْتَفِيدُ ذَلِكَ مِنْ كَلِمَةِ (سَوَّاهَا) الَّتِي وَرَدَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) فَالتَّسْوِيَةُ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِالإِنْسَانِ يُصْبِحُ المَقْصُودُ بِهَا هُوَ اكْتِمَالُ بُنْيَتِهِ وَبُلُوغِهِ حَدَّ التَّكْلِيفِ، قَالَ تَعَالَى: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا) فَكَلِمَةُ "سَوَّاكَ رَجُلًا" تُشِيرُ إِلَى مَرَاحِلَ يَمُرُّ بِهَا خَلْقُ الْإِنْسَانِ، وَالمَرْحَلَةُ المُشَارُ إِلَيْهَا فِي الآيَةِ هِيَ مَرْحَلَةُ التَّسْوِيَةِ وَالإِكْتِمَالِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) يَقْصِدُ مِنْهَا النَّفْسَ الَّتِي وَصَلَتْ حَدَّ الرُّشْدِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، وَهَذَا الإِسْتِنْتَاجُ يَتَنَاسَبُ مَعَ الآيَةِ الَّتِي جَاءَتْ بَعْدَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)) وَالإِلْهَامُ بِالفُجُورِ وَالتَّقْوَى يَحْتَاجُهُ الإِنْسَانُ فِي سِنِّ التَّكْلِيفِ، وَلِذَا جَاءَ بَعْدَهَا مُبَاشَرَةً (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا). 

     رَوَى الكُلَيْنِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عَ) قَالَ: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) قَالَ: بَيَّنَ لَهَا مَا تَأْتِي وَمَا تَتْرُكُ" (2).

     وَفِي تَفْسِيرِ القُمِّيِّ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللهِ (عَزَّ وَجَلَّ) :(فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا). أَيْ عَرَّفَهَا وَأَلْهَمَهَا، ثُمَّ خَيَّرَهَا فَاخْتَارَتْ (3).

     وَالخُلَاصَةُ أَنَّ طَبِيعَةَ الإِنْسَانِ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَمَصَدَرُ الخَيْرِ فِي الإِنْسَانِ هُوَ العَقْلُ، وَآيَاتُ القُرْآنِ وَتَذْكِرَةُ الأَنْبِيَاءِ تُشَكِّلُ مُحَفِّزَاتٍ لِهَذَا العَقْلِ، بَيْنَمَا مَصْدَرُ الشَّرِّ هِيَ الشَّهَوَاتُ وَالأَهْوَاءُ، وَالشَّيْطَانُ هُوَ الَّذِي يُحَفِّزُ الإِنْسَانَ وَيُغْرِيهِ لِارْتِكَابِ الرَّذَائِلِ، وَبَيْنَهُمَا مُنِحَ الإِنْسَانُ الإِرَادَةَ الَّتِي يَخْتَارُ بِهَا إِمَّا الفُجُورَ وَإِمَّا التَّقْوَى.

     وَدُمْتُمْ سَالِمِينَ.

__________________

  1 -  تفسير الميزان، ج 20، ص 297

  2 - الكليني، محمد بن يعقوب. كتاب الكافي، كتاب العقل والجهل، تحقيق قسم أحياء التراث، مركز بحوث دار الحديث، ج1 ص 163

  3 - القمي، علي بن إبراهيم، تفسير القمي، تحقيق مؤسسة الإمام المهدي، قم، الطبعة الأولى، 1435 ج2 ص 424

 

المرفقات