من قتل عثمان ؟!!

:

تبقى مشكلة التأريخ وسبر الحقائق من بين سطوره مهمة صعبة للباحث عن الحق والحقيقة، خاصة لو لاحظنا - كما يشير إليه أحد الكتاب المعاصرين - كيف جرى التزوير  والتحوير ومحاولة قلب الحقائق  في قضية معاصرة شهدها العالم كله وهي حادثة قتل صحفي في قنصلية بلاده بحيث وردت فيها خمس روايات رسمية متضاربة وعشرات الروايات المختلفة هنا وهناك ، فما بالك بالتاريخ الإسلامي المليء بالقتل  والفتن والمشاكل ؟!!

ومن أبرز هذه الفتن التي حصلت في أوليات تاريخنا الإسلامي  هي قضية  مقتل الخليفة عثمان بن عفان ، الذي قال له الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام  يوما - وقد أقبل الناس إليه يشكون منه فدخل عليه السلام يكلمه - : " إني أنشدك الله أن لا تكون إمام هذه الأمة المقتول ، فإنه كان يقال : يقتل في هذه الأمة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة " نهج البلاغة 2 :69.

ولكن للأسف لم  يكن هناك مجال لسماع النصيحة بعد سيطرة  الأرحام  والأقارب على زمام الأمور،  و هم كانوا السبب في تحريض الناس عليه حتى انتهى الأمر  بمقتله !!

والسؤال المهم الذي يواجه الباحث التاريخي هو : من الذي قتل عثمان ؟!!

يقول البعض أن الذي حرض الناس على عثمان  وساهم في قتله هو عبد الله بن سبأ ، وهو رجل يهودي كان يتظاهر بحب علي عليه السلام  ويقول بالوصية له !!

فهل هذا صحيح  أم للحقيقة وجه آخر يحاول البعض اخفاؤه  خشية اكتشاف الحقيقة المروعة في الموضوع ؟!!

إننا عند البحث والتتبع نجد أنه لم يؤلب الناس على عثمان سوى تصرفاته بتسليط ارحامه وأقاربه على رقاب الناس ، كابن خاله عبد الله بن عامر الذي ولاه  العراق وهو ابن ست عشرة سنة ( كما يذكر ذلك ابن عبد البر  في الاستيعاب 2: 693).

وتوليته  للوليد بن عقبة أخوه لأمه الذي ولاه الكوفة وقد صلى بالناس صلاة  الصبح يوما  وهو مخمور ! 

ثم توليته لسعيد بن العاص من أقرباءه الذي كان يتبجح أمام الناس أن هذا السواد هو ملك لنا وبستان لقريش فناهضه أهل الكوفة وكادوا يحاربوه حتى فر هاربا إلى عثمان، وهكذا غيرهم .

وقد كان أول من ناهض عثمان وأمال حرفه هي السيدة عائشة زوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،  كما ذكر الفخر الرازي في (المحصول) : أنّ عثمان (رضي الله عنه) أخّر عن عائشة (رضي الله عنها) بعض أرزاقها فغضبت ثمّ قالت: يا عثمان أكلت أمانتك وضيّعت الرعية وسلّطت عليهم الأشرار من أهل بيتك، والله لولا الصلوات الخمس لمشى إليك أقوام ذوو بصائر يذبحونك كما يذبح الجمل. فقال عثمان(رضي الله عنه): {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ}(1) (الآية). فكانت عائشة(رضي الله عنها) تحرّض عليه جهدها وطاقتها وتقول: أيّها الناس هذا قميص رسول الله(صلى الله عليه وآله) لم يبل وقد بليت سنته اقتلوا نعثلاً قتل الله نعثلاً(2).

قال ابن الأثير في (النهاية)، وابن منظور في (لسان العرب): أعداء عثمان يسمّونه نعثلاً، تشبيهاً برجل من مصر، كان طويل اللحية اسمه نعثل، وقيل: النعثل: الشيخ الأحمق، وذكر الضباع ومنه حديث عائشة: (اقتلوا نعثلاً، قتل الله نعثلاً) تعني عثمان(3).

وعن الزبيدي في (تاج العروس): ((.. وقال الليث النعثل الشيخ الأحمق..ونعثل يهودي كان بالمدينة قيل به شبه عثمان رضي الله تعالى عنه كما في التبصير..وفي حديث عائشة: اقتلوا نعثلاً قتل الله نعثلاً)) (4).

وقد أخرج الطبري في تاريخه من طريقين - واللفظ له - ، وابن الأثير في (الكامل في التاريخ)، وابن قتيبة في (الإمامة والسياسة)، وسبط بن الجوزي في (تذكرة الخواص): أنّ عائشة(رضي الله عنها) لمّا انتهت إلى سرف(5) راجعة في طريقها إلى مكة لقيها عبد بن أم كلاب وهو عبد بن أبي سلمة ينسب إلى أمّه، فقالت له: مهيم؟ قال: قتلوا عثمان(رضي الله عنه) فمكثوا ثمانيا. قالت: ثمّ صنعوا ماذا؟ قال: أخذها أهل المدينة بالاجتماع فجازت بهم الأمور إلى خير مجاز، اجتمعوا على عليّ بن أبي طالب. فقالت: والله ليت أنَّ هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك ردّوني ردّوني فانصرفت إلى مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوماً، والله لأ طلبنّ بدمه. فقال لها ابن أم كلاب: ولم؟ فوالله إنّ أوّل من أمال حرفه لأنت ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلاً فقد كفر(6).

قالت: إنّهم استتابوه ثمّ قتلوه، وقد قلت وقالوا وقولي الأخير خير من قولي الأوّل. فقال لها ابن أم كلاب(7):

منك البداء ومنك الغير ومنك الرياح ومنك المطر

وأنت أمرت بقتل الإمام وقلت لنا: إنّه قد كفر

فهبنا أطعناك في قتله وقاتله عندنا من أمر(8)

وقال ابن عبد البر في (الاستيعاب): ((إنّ الأحنف بن قيس كان عاقلاً حليماً ذا دين وذكاء وفصاحة ودهاء، لما قدمت عائشة البصرة أرسلت إلى الأحنف بن قيس فأبى أن يأتيها, ثمّ أرسلت إليه فأتاها فقالت: ويحك يا أحنف! بم تعتذر إلى الله من ترك جهاد قتلة أمير المؤمنين عثمان(رضي الله عنه) ؟ أمن قلة عدد؟ أو أنّك لا تطاع في العشيرة؟ قال: يا اُمّ المؤمنين! ما كبرت السن ولا طال العهد وإنّ عهدي بك عام أوّل تقولين فيه وتنالين منه. قالت: ويحك يا أحنف! إنّهم ما صوه موص الإناء ثمّ قتلوه. قال: يا أم المؤمنين! إنّي آخذ بآمرك وأنت راضية، وأدعه وأنت ساخطة))(9).

وفي (السيرة الحلبية) لبرهان الدين الحلبي الشافعي: ممّا كتبه عليّ(عليه السلام) إلى عائشة قبل حرب الجمل: ((أمّا بعد، فإنّك قد خرجت من بيتك تزعمين أنّك تريدين الإصلاح بين المسلمين وطلبت بزعمك دم عثمان وأنت بالأمس تؤلّبين عليه فتقولين في ملأ من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله): اقتلوا نعثلاً فقد كفر قتله الله, واليوم تطلبين بثأره فاتقي الله وارجعي إلى بيتك واسبلي عليك سترك قبل أن يفضحك الله ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم))، ثمّ ذكر الحلبي كتاباً آخر بعثه عليّ(عليه السلام) إلى طلحة والزبير، وقال بعدها: ((فلمّا قرأوا - أي: عائشة وطلحة والزبير - الكتابين عرفوا أنّه على الحقّ))(10).

هذا، ويوجد غير هذا شواهد من ألفاظ ومواقف لعائشة في حق عثمان، وأيضاً أقوال قيلت في حقّها من قبل بعض الصحابة المعاصرين لموقفها المتقدّم من عثمان، وبعضها قد قيل لها مباشرة كالذي تقدّم ذكره عن أمير المؤمنين(عليه السلام) والأحنف بن قيس وابن أم كلاب.. والمتتبع لمجموع هذه المواقف والألفاظ لا يستبعد استفادة التواتر المعنوي في مناهضة عائشة لعثمان، وأنّ هذا الأمر ثابت عنها، ولاريب فيه.

فانظر مثلاً إلى قولها لابن عباس، وتحريضها على عثمان، حيث قالت: يا بن عباس إنَّ الله قد أعطاك لساناً وعلماً، فانشدك الله أن تخذّل عن هذا الرجل وأن تشكّك فيه، تعني عثمان(11).

وفي لفظ البلاذري: أن تردّ الناس عن هذا الطاغية(12).

وقولها لمروان: والله لوددت أنَّ صاحبك الّذي جئت من عنده ـ تعني عثمان ـ في غرارتي هذه فأوكيت عليها فألقيتها في البحر(13).

ومن أقوال الصحابة والتابعين لها، قول عمار بن ياسر لها: أنتِ بالأمسِ تحرّضين عليه، ثمّ أنت اليوم تبكينه(14).

وقول أم سلمة: والله لقد كنتِ من أشدّ الناس عليه، وما كنتِ تسمّيه إلا نعثلاً، فما لك ودم عثمان؟!(15)

وقول المغيرة عندما أخبرته بأنَّ السهام قد وصلت إلى جلدها في يوم الجمل: وددت والله أنَّ بعضها قتلك، فقالت: يرحمك الله ولم تقول هذا؟ قال: لعلها تكون كفارة في سعيك على عثمان(16).

وكذلك قول مالك الأشتر لها: كتبتن إلينا حتّى إذا ما قامت الحرب على ساق أنشأتن تنهينا(17).

وأيضاً قول سعد بن أبي وقاص، عندما سؤل عمّن قتل عثمان، فقال: قتله سيف سلّته عائشة(18).

وأيضاً قول عبد الله بن أذينة: إنَّ دم عثمان ثلاثة أثلاث ثلث على صاحبة الخدر، يعني عائشة(19).

وقول أبي مسلم الخولاني لأهل الشام عندما سمعهم ينالون من عائشة في شأن عثمان: يا أهل الشام، أضرب لكم مثلكم ومثل أمكم هذه، مثلكم ومثلها كمثل العين في الرأس تؤذي صاحبها ولا يستطيع أن يعاقبها إلا بالّذي هو خير لها(20).

وأيضاً قول سعيد بن العاص معرِّضاً بها يوم الجمل ومحرِّضاً للأمويين: أين تذهبون! وثأركم على أعجاز الأبل؟!(21).

وقد ورد عن عائشة نفسها قولها: ليتني كنت نسياً منسياً قبل أمر عثمان(22).

فهذه الوثائق الّتي ذكرها أصحاب الحديث والسير في مصنفاتهم تؤكّد كلّها على حقيقة لا مهرب منها، وهي أنَّ عائشة أوّل من حرّض على عثمان وألّب الناس عليه.

ودعوى أنَّ عائشة قالت في حق عثمان: ((لعن الله من لعنه))(23)، أو أنّها قالت ((والّذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما كتبت سوداء في بيضاء))(24).. نقول: إنَّ هذين القولين لم تصح نسبتهما إليها بسند صحيح يمكن الاحتجاج به، فالقول الأوّل وهو: ((لعن الله من لعنه)) ورد عند أحمد والطبراني في الأوسط بسند فيه أم كلثوم بنت ثمامة، علّق عليه الهيثمي بقوله: وأم كلثوم لم أعرفها وبقية رجال الطبراني ثقات(25).

وهذه الرواية يجزم بكذبها، لأنّه ورد فيها ـــ بحسب رواية أحمد ـــ عن عمر بن إبراهيم اليشكري أنّه قال: سمعت أمي تحدّث أنّ أمّها انطلقت إلى البيت حاجّة والبيت يومئذٍ له بابان قالت: فلمّا قضيت طوافي دخلت على عائشة قالت: قلت: يا أم المؤمنين أنّ بعض بنيك بعث يقرئك السلام وأنَّ الناس قد أكثروا في عثمان فما تقولين فيه، قالت: لعن الله من لعنه (الرواية).

فالملاحظ على هذا النص أنَّ عائشة قد قالت هذا الكلام في أيام عبد الله بن الزبير، لأنّه هو الّذي جعل للبيت بابان عندما سيطر على الكعبة المشرّفة بعد السنة الثالثة والستين للهجرة(26). ومن المعلوم أنَّ السيدة عائشة قد توفيت في السنة الثامنة والخمسين للهجرة عند الأكثر، أو في السنة السابعة والخمسين كما عند هشام بن عروة(27).

أي: أنّها لم تدرك أيام ابن الزبير وسيطرته على مكة وهدمه للكعبة وجعل بابين لها كما كانت على عهد إبراهيم الخليل(عليه السلام) بحسب ما ينقله المؤرّخون عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) عند ذكر هذه الحادثة.

فهذه الرواية لا تصح، بل هي رواية باطلة ومكذوبة عليها، وهي تفضح نفسها بنفسها!

وأمّا القول الآخر وهو: ((والّذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما كتبت سوداء في بيضاء))، فهو ـــ وإن شهد ابن كثير بصحته في (البداية والنهاية)(28) ـــ قد ورد بسند ضعيف، هذا رجاله: قال أبو معاوية عن الأعمش عن خيثمة عن مسروق، قال: قالت عائشة حين قتل عثمان: تركتموه كالثوب النقي من الدنس ثمّ قتلتموه، وفي رواية: ثمّ قربتموه ثمّ ذبحتموه كما يذبح الكبش؟ فقال لها مسروق: هذا عملك، أنتِ كتبت إلى الناس تأمريهم أن يخرجوا إليه، فقالت: لا والّذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون، ما كتبت لهم سوداء في بيضاء حتّى جلست مجلسي هذا، فقال الأعمش: فكانوا يرون أنّه كتب على لسانها(29).

فالملاحظ على هذا الحديث أنّ في سنده مدلِسين اثنين - بحسب علم الجرح والتعديل عند أهل السنة - ، هما: أبو معاوية الضرير، والأعمش.

فأمّا أبو معاوية الضرير فقد ذكر ابن حجر في التهذيب عن يعقوب بن شيبة بأنّه ربما كان يدلّس، ونقل عن ابن سعد قوله بأنّه كان يدلّس(30). وكذا عن أحمد بن أبي طاهر قوله فيه بأنّه كان يدلّس(31).

وقد صرّح أبو معاوية بنفسه - كما في التهذيب - بأنَّ كلّ حديث قلت فيه: حدّثنا، فهو ما حفظته من فَي المحدِّث. وكلّ حديث قلت وذكر فلان فهو ممّا قُرئ من كتاب..(32).

وفي هذا الحديث لم يصرّح أبو معاوية بقوله: حدّثنا، أو : ذكر فلان، وإنّما عنعن عن غيره، والمدلّس إذا عنعن فروايته لا تقبل ولا حجيّة لها كما سيأتي بيانه.

وأمّا الأعمش، فقد قال الذهبي عنه: ما نقموا عليه إلا التدليس(33).

وقال الجوزجاني: قال وهب بن زمعة المروزي: سمعت ابن المبارك يقول: إنّما أفسد حديث أهل الكوفة أبو إسحاق، والأعمش.. وقال علي بن سعيد النسوي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: منصور أثبت أهل الكوفة، ففي حديث الأعمش اضطراب كثير.

قال أبو داود: روايته عن أنس ضعيفة. وقال الذهبي في تعليقه على كلام أبي داود هذا: قلت: وهو يدلّس، وربما دلّس عن ضعيف ولا يدري به، فمتى قال: حدّثنا، فلا كلام. ومتى قال: عن، تطرق إلى احتمال التدليس إلا في شيوخ له أكثر عنهم، كإبراهيم، وابن أبي وائل، وأبي صالح السمان، فإنَّ روايته على هذا الصنف محمولة على الاتصال(34).

وعن ابن حجر في (تقريب التهذيب)(35) و(طبقات المدلّسين)(36) بأنّه كان يدلّس.

وقد ذكر جمهور أهل التحقيق من أئمة الحديث عند أهل السنة أنّ المدلّس لو عنعن فإنّه لا يقبل منه، وروايته ساقطة عن الحجية، هذا هو صريح الحاكم والطيبي وابن كثير والنووي والعراقي والسخاوي والسيوطي وابن الصلاح وغيرهم(37).

وأضف إلى ذلك أنّ المقطع المتقدّم وردت فيه شهادة مسروق على عائشة بأنّها كتبت إلى الناس بالخروج على عثمان، فإذا اتُهم مسروق بالكذب هنا فقد سقط الحديث برمّته، لأنَّ مسروق هو أوّل رواته!!

وأيضاً يمكن القول بأنّ الحديث المتقدّم لم ينفِ كتابة عائشة إلى الناس بالخروج على عثمان، وإنّما كانت تلك الكتابة ـــ بحسب ما يرونها ـــ على لسانها، لا في سواد على بياض.. فتدبّر.

وبالإضافة إلى هذا الدور المشار اليه في التحريض على عثمان توجد هناك وثائق أخرى تؤكّد دوراً آخر بارزاً لطلحة والزبير في التحريض على عثمان والتأليب عليه.

منها ما ذكره البلاذري في الأنساب في حديث: ((أنَّ طلحة قال لعثمان: إنّك أحدثت أحداثاً لم يكن الناس يعهدونها، فقال عثمان: ما أحدثت أحداثاً ولكنكم أظنّاء تفسدون عليّ الناس وتؤلّبوهم))(38)، وفي مورد آخر قال البلاذري: ((كان الزبير وطلحة قد استوليا على الأمر، ومنع طلحة على عثمان من أن يدخل عليه الماء العذب فأرسل عليّ إلى طلحة وهو في أرض له على ميل من المدينة: أن دع هذا الرجل فليشرب من مائه ومن بئره يعني بئر رومة، ولا تقتلوه من العطش، فأبى. فقال عليّ: لولا أنّي قد آليت يوم ذي خشب أنّه إن لم يعطني لا أرد عنه أحداً لأدخلت عليه الماء))(39).

وفي (الإمامة والسياسة): ((أقام أهل الكوفة وأهل مصر بباب عثمان ليلاً ونهاراً وطلحة يحرّض الفريقين جميعاً على عثمان، ثمّ إنّ طلحة قال لهم: إنّ عثمان لا يبالي ما حضرتموه وهو يدخل إليه الطعام والشراب فامنعوه الماء أن يدخل عليه))(40).

وجاء في (تاريخ مدينة دمشق) لابن عساكر: أنّ مروان بن الحكم رمى بطلحة يوم الجمل وهو واقف إلى جنب عائشة بسهم فأصاب ساقه ثمّ قال: والله لا أطلب قاتل عثمان بعدك أبداً. فقال طلحة لمولى له: أبغني مكاناً لا أقدر عليه. قال: هذا والله سهم أرسله الله(41).

وعن الطبراني في المعجم الكبير عن قيس بن أبي حازم، قال: رأيت مروان بن الحكم حين رمى طلحة يومئذ بسهم فوقع في عين ركبته فمـا زال يسبح إلـى أن مات(42).

وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: ((لا يختلف العلماء الثقات في أنّ مروان قتل طلحة يومئذٍ وكان في حزبه))(43).

وقد أخرج ابن عبد البر من طريق ابن أبي سبرة قال: نظر مروان إلى طلحة يوم الجمل، فقال: لا أطلب بثأري بعد اليوم. فرماه بسهم فقتله.

وأخرج من طريق ابن سعيد عن عمه أنّه قال: رمى مروان طلحة بسهم ثمّ التفت إلى أبان بن عثمان قال: قد كفيناك بعض قتلة أبيك(44).

والسؤال الّذي يطرح نفسه هنا بعد كلّ الّذي تقدّم من تحريض كبار الصحابة على عثمان, بل هناك جملة من الأسئلة تطرح نفسها بقوّة في المقام، وهي: أين موقع ابن سبأ من هذه الأحداث؟!! ثمّ ما هي قيمة دوره في التحريض إن وجد أمام دور عائشة وطلحة والزبير؟! ثمّ لِمَ لمْ يتعقّبه الطالبون بالثأر لدم عثمان ويقتلوه؟!

إنّ المتابع للأحداث في هذه الفترة يجد أنّ أغلب الصحابة هم ممّن حرّض على عثمان فعلاً، وأنّ بعضهم ممن شارك في قتله بالفعل، وأنّ أسمائهم معلومة ومذكورة في كتب التاريخ.. وإليك بعض النصوص الدالة على ذلك:

روى الطبري في تاريخه: ((عن عبد الرحمن بن يسار أنّه قال: لمّا رأى الناس ما صنع عثمان كتب من بالمدينة من أصحاب النبيّ(صلى الله عليه وآله) إلى من بالآفاق منهم, وكانوا قد تفرقوا في الثغور: إنّكم إنّما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله(عزوجل), تطلبون دين محمّد(صلى الله عليه وآله), فإنّ دين محمّد قد أفسد من خلفكم وترك, فهلمّوا فأقيموا دين محمّد(صلى الله عليه وآله), فأقبلوا من كُلّ اُفق حتّى قتلوه))(45).

وهذا نص صريح فيما تقدّمت الإشارة إليه.

وروى الطبري أيضاً، قائلاً: ((كتب أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) بعضهم إلى بعض: أن أقدموا فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد, وكثر الناس على عثمان, ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد, وأصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) يرون ويسمعون ليس فيهم أحد ينهى ولا يذب إلا نفير زيد بن ثابت, وأبو أسيد الساعدي, وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت, فاجتمع الناس وكلّموا عليّ بن أبي طالب فدخل على عثمان فقال: الناس من ورائي وقد كلّموني فيك.. فالله الله في نفسك, فإنّك والله ما تبصر من عمى، وإنّ الطريق لواضح بيّن، وإنّ أعلام الدين لقائمة، تعلم يا عثمان أنّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هدى وهدي))(46).

وجاء في تاريخ ابن عساكر, وتاريخ الخلفاء للسيوطي, والإمامة والسياسة لابن قتيبة: ((قدم أبو الطفيل الشام يزور ابن أخ له من رجال معاوية, فأخبر معاوية بقدومه, فأرسل إليه فأتاه وهو شيخ كبير فلمّا دخل عليه قال له معاوية: أنت أبو الطفيل عامر ابن واثلة؟ قال: نعم. قال معاوية: أكنت ممّن قتل عثمان أمير المؤمنين؟ قال: ولِمَ؟ قال: لم ينصره المهاجرون والأنصار))(47). (انتهى)

وقال ابن سعد في الطبقات: ((أشرف عثمان على الّذين حاصروه فقال: يا قوم لا تقتلوني فإنّي والٍ وأخ مسلم.. فلمّا أبوا قال: اللّهمّ احصهم عدداً واقتلهم بدداً, ولا تبق منهم أحداً. قال مجاهد: فقتل الله منهم من قتل في الفتنة, وبعث يزيد إلى أهل المدينة عشرون ألفاً, فأباحوا المدينة ثلاثاً يصنعون ما شاءوا لمداهنتهم))(48).

والظاهر من هذا النص أنّ يزيداً لم يبعث بجيشه إلى المدينة إلا لينتقم من أهلها لمداهنتم في قتل عثمان وعدم نصرته, ومن المعلوم أنّ المدينة لم يكن فيها سوى الصحابة والتابعين لا غير!! وفي هذا روى ابن كثير في تاريخه عن الزهري عندما سُئل عن عدد القتلى في يوم الحرّة أنّه قال: ((سبعمائة من وجوه الناس من المهاجرين والأنصار, ووجوه الموالي, وممّن لا أعرف من حر وعبد وغيرهم عشرة آلاف))(50)، وقال السيوطي في تاريخه: ((إنّ وقعة الحرّة ذكرها الحسن مرّة فقال: والله ما كاد ينجو منهم أحد, قتل فيها خلق من الصحابة(رضي الله عنهم) ومن غيرهم, ونهبت المدينة, وافتُضّ فيها ألف عذراء))(51).

وعن ابن سعد في الطبقات، قال: ((كان المصريون الّذين حاصروا عثمان ستمائة, رأسهم عبد الرحمن بن عديس البلوي, وكنانة بن بشر بن عتاب, وعمرو بن الحمق الخزاعي, والّذين قدموا من الكوفة مئتين رأسهم مالك الأشتر, والّذين قدموا من البصرة مائة رجل رأسهم حكيم بن جبلة العبدي.. وكان أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله) الّذين خذلوه كرهوا الفتنة))(52).

وأيضاً إليك هذا النص في تكفير عثمان للصحابة والدعوة إلى مقاتلتهم، وأنَّ معاوية كره أن يخالف أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله), وقد علم اجتماعهم على مخالفة عثمان.

روى الطبري في تاريخه: ((كتب عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان وهو بالشام:

بسم الله الرحمن الرحيم: أمّا بعد, فإنّ أهل المدينة قد كفروا, وأخلفوا الطاعة ونكثوا البيعة, فابعث إليَّ من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كُلّ صعب وذلول, فلمّا جاء معاوية الكتاب تربّص به وكره مخالفة أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله), وقد علم اجتماعهم))(53).

فهذا النص يظهر بوضوح بأنّ الصحابة في المدينة هم الّذين قاموا ضدّ عثمان ابن عفان, وهم الذين أرادوا تنحيته عن الخلافة, وأنّ عثمان قد حكم بكفرهم، وهويطلب النجدة من معاوية لقتالهم ـــ باعتبار أنّهم كفرة في نظره ـــ .

ويستفاد أيضاً أنّ معاوية لم يتحرك لطلب عثمان، وأنّه تأخّر في استجابة طلبه, وقد علّل ذلك بكراهة مخالفة أصحاب النبيّ(صلى الله عليه وآله) بعد علمه باجتماعهم على مناهضة عثمان وخلعه.

وأضف إلى كلّ هذا، أنّ المؤرّخين قد ذكروا أسماء الصحابة الذين باشروا قتل عثمان, كعبد الرحمن بن عديس البلوي(54), وعمرو بن الحمق الخزاعي(55), ومحمّد بن أبي بكر(56).. وآخرون غيرهم.

بل إنّنا نجد أنّ من الصحابة ممّن لم يكتف في التحريض على عثمان وقتله, بل منع حتّى دفنه في مقابر المسلمين, وفي ذلك يروي الطبري في تاريخه: ((لبث عثمان بعدما قتل ليلتين لا يستطيعون دفنه, ثمّ حمله أربعة.. فلمّا وضع ليصلى عليه جاء نفر من الأنصار يمنعونهم الصلاة عليه فيهم أسلم بن أوس بن بجرة الساعدي وأبو حية المازني في عدّة ومنعوهم أن يدفن بالبقيع, فقال أبو جهم: ادفنوه... فقالوا: لا والله لا يدفن في مقابر المسلمين أبداً، فدفنوه في حش كوكب(57), فلمّا ملكت بنو اُمية أدخلوا ذلك الحش في البقيع فهو اليوم مقبرة بني اُمية))(58).

وفي رواية أخرى للطبري: ((نبذ عثمان(رضي الله عنه) ثلاثة أيام (إلى أن يقول) وخرج به ناس يسير من أهله وهم يريدون حائطاً بالمدينة يقال له حش كوكب كانت اليهود تدفن فيه موتاهم فلمّا خرج على الناس رجموا سريره وهمّوا بطرحه..))(59). (انتهى)

والخلاصة ممّا تقدّم: أنّنا لا نرى لابن سبأ أيّ اسم أو أثر في هذه الأحداث المار ذكرها, فهو لم يكن المحرّض - بحسب النصوص المتقدّمة - على قتل عثمان, وأيضاً لم يكن من المشاركين في قتله, وكذلك لم يكن من الممانعين في دفنه في مقابر المسلمين، وإنّما كان كلّ ذلك فعل جماعة من الصحابة يشهد أهل السنّة عليهم - بحسب نظريتهم في عدالة الصحابة ـــ بأنّهم سيدخلون الجنّة اجمعين ، القاتل والمقتول!! ولله عاقبة الامور من قبل وبعد !!

___________________________ 

1- سورة التحريم، الآية 10.

2- المحصول في علم أصول الفقه 4: 342. يذكره في مطاعن الصحابة، ثم يحاول ردّه.

3- النهاية في غريب الحديث 5: 79، لسان العرب 11: 670.

4- تاج العروس 8: 141.

5- سرف بالفتح ثمّ الكسر: موضع على ستة أميال من مكة.

6- وفي لفظ ابن قتيبة: فجر.

7- وفي لفظ ابن قتيبة: (عذر والله ضعيف يا أم المؤمنين)، ثمّ ذكر الأبيات.

8- تاريخ الطبري 477:3، الكامل في التاريخ 100:3، الإمامة والسياسة 71:1، 72، تذكرة الخواص: 102.

9- الاستيعاب 2: 716.

10- السيرة الحلبية 3: 356.

11- تاريخ الطبري 3: 435.

12- أنساب الأشراف 5: 75.

13- تاريخ المدينة 4: 1172، شواهد التنزيل 2: 272، أنساب الأشراف 5: 75 .

14- أنساب الأشراف 5: 75.

15- الفتوح لابن أعثم 2: 445، المعيار والموازنة 27، شرح نهج البلاغة للمعتزلي 6: 217.

16- أنساب الأشراف 6: 201، العقد الفريد 3: 303.

17- أنساب الأشراف 6: 225.

18- تاريخ المدينة 4: 1174، الإمامة والسياسة 1: 48.

19- تاريخ المدينة 4: 1174.

20- المصدر السابق.

21- تاريخ الطبري 3: 472.

22- أنساب الأشراف 6: 225.

23- مسند أحمد 6: 250، المعجم الأوسط 4: 117.

24- البداية والنهاية 218:2.

25- مجمع الزوائد 9: 86.

26- اُنظر: البداية والنهاية 2: 372.

27- اُنظر: الإصابة 7: 190.

28- البداية والنهاية 7: 218.

29- المصدر السابق.

30- تهذيب التهذيب 9: 120.

31- التبين لأسماء المدلّسين: 50.

32- تهذيب التهذيب 9: 121.

33- ميزان الاعتدال 2: 224.

34- المصدر السابق.

35- تقريب التهذيب 1: 392.

36- طبقات المدلّسين: 33.

37- اُنظر : معرفة علوم الحديث 1: 34، المجموع 4: 546، فتح المغيث 1: 164، تدريب الراوي 1: 216، مقدّمة أبي الصلاح: 113.

38- أنساب الأشراف 5: 156.

39- أنساب الأشراف 5: 211.

40- الإمامة والسياسة 1: 57.

41- تاريخ مدينة دمشق 25: 113.

42- المعجم الكبير 1: 113، مجمع الزوائد 9: 150 قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

43- الاستيعاب 2: 766، تهذيب التهذيب 5: 19.

44- الاستيعاب 2: 768، سير أعلام النبلاء 1: 36.

45- تاريخ الطبري 3: 400.

46- تاريخ الطبري 3: 376.

48- تاريخ مدينة دمشق 36: 116, تاريخ الخلفاء:227, الإمامة والسياسة 1: 165.

49- الطبقات الكبرى 3: 67.

50- البداية والنهاية 8: 242.

51- تاريخ الخلفاء: 237.

52- الطبقات الكبرى 3: 71.

53- تاريخ الطبري 3: 402.

54- قال ابن حجر في الإصابة 4: 281: ((عبد الرحمن بن عديس.. قال ابن سعد: صحب النبيّ(صلى الله عليه وآله) وسمع منه وشهد فتح مصر وكان فيمن سار إلى عثمان، وقال ابن البرقي والبغوي وغيرهما كان ممّن بايع تحت الشجرة)) (انتهى).

55- قال ابن سعد في الطبقات 6: 25: ((عمرو بن الحمق بن الكاهن بن حبيب بن عمرو.. من خزاعة صحب النبيّ(صلى الله عليه وآله) ونزل الكوفة وشهد مع عليّ رضي الله تعالى عنه مشاهده وكان فيمن سار إلى عثمان وأعان على قتله)) (انتهى).

وقال الزركلي في الأعلام 5: 76: ((عمرو بن الحمق بن كاهل الخزاعي الكعبي: صحابي من قتلة عثمان)).

56- اُنظر: الطبقات الكبرى 2: 73، تاريخ الطبري 3: 423، تاريخ مدينة دمشق 39: 409، تاريخ الإسلام 3: 454، الإصابة 6: 193.

57- وهو موضع بستان بظاهر المدينة خارج البقيع, كان موضعاً لقضاء الحاجة, وأصل التسمية من الحش أي البستان, لأنّهم كانوا كثيراً ما يتغوطون في البساتين.. وقيل هو موضع كانت اليهود تدفن فيه موتاهم كما في الرواية التالية للطبري.

58- تاريخ الطبري 3: 440، اُسد الغابة 1: 75، الاستيعاب 3: 1048.

59- تاريخ الطبري 3: 438.