ما سبب الخلاف بين قابيل وهابيل الذي دعاهما للاحتكام إلى تقديم القربان

: السيد رعد المرسومي

السلام عليكم ورحمة الله : إنَّ أصلَ الخلافِ بينَ هابيلَ وقابيلَ يتبيّنُ مِـمّا أفادته عدّةُ رواياتٍ واردةٍ عَن أهلِ البيتِ (عليهم السّلام), وهوَ الذي عليهِ جمهورُ علماءِ الإماميّةِ قديماً وحديثاً, إذ أفادَت تلكُم الرّواياتُ أنَّ الخلافَ بينَهما وقعَ بعدَ أن أوحى اللهُ تعالى إلى آدمَ (ع) أنْ يجعلَ مِن هابيلَ وصيَّاً لهُ, وأنْ يمنحه العلمَ ومورايثَ النّبوّةِ التي أودعَها إيَّاه. 

ولـمّا امتثلَ آدمُ (ع) ما أمرَه اللهُ تعالى بهِ غضبَ مِن ذلكَ قابيلُ, واتَّهم أباهُ بأنَّ ما فعلَه نشأ عَن رأيه وليسَ عَن أمرِ اللهِ جلَّ وعلا, فأكّدَ لهُ آدم أنَّ ذلكَ مِن أمرِ اللهِ تعالى وليسَ عَن رأيٍّ رآهُ، وحتّى يُبرهنَ لهُ على ذلكَ أمرَه وأخاهُ هابيلَ أنْ يُقرِّبا قُرباناً للهِ تعالى، فمَن أحرقَتِ النّارُ قُربانَه فهوَ الأولى بالكرامةِ والوصيّةِ عندَ اللهِ جلَّ وعلا، وحينَ وجدَ قابيلُ أنَّ النّارَ قَد أحرقَت قُربانَ أخيهِ إشتدَّ حنقُه عليهِ, وحسدَه ثمَّ بغى عليهِ فقتلَه. 

 فمِن هذهِ الرّواياتِ ما رواهُ الشّيخُ الثّقةُ الجليلُ قطبُ الدّينِ الرّاونديّ في كتابِه (قصصُ الأنبياءِ),  منشوراتُ مكتبةِ العلّامةِ المجلسيّ (ج1/ص219), وعنهُ المجلسيّ في البحارِ (ج11/ص240) بالإسنادِ إلى الشّيخِ الصّدوقِ عَن أبيهِ عَن عليٍّ بنِ إبراهيمَ عَن أبيه عَن ابنِ أبي عُميرٍ عَن هشامٍ بنِ الحكمِ عَن أبي عبدِ اللهِ (ع) قالَ: لـمّا أوصى آدمُ صلواتُ اللهِ عليه إلى هابيلَ حسدَه قابيلُ, فقتلَه, فوهبَ اللهُ تعالى لآدمَ هبةَ اللهِ, وأمرَه أنْ يوصي إليهِ, وأمرَه أنْ يكتُمَ ذلكَ, فجرَتِ السّنّةُ بالكتمانِ في الوصيّةِ, فقالَ قابيلُ لهبةِ اللهِ: قد علمتُ أنّ أباكَ قد أوصى إليك, فإنْ أظهرتَ ذلكَ أو نطقتَ بشيءٍ منهُ لأقتلنّكَ كما قتلتُ أخاكَ . قلتُ: وإسنادُ الرّوايةِ صحيحٌ  

ومنها: ما رواهُ العياشيّ في تفسيرِه عَن سليمانَ بنِ خالدٍ عَن أبي عبدِ اللهِ (ع) وردَ فيها: أنَّ اللهَ تباركَ وتعالى أوحى إلى آدمَ (ع) أنْ يدفعَ الوصيّةَ واسمَ اللهِ الأعظمِ إلى هابيلَ، وكانَ قابيلُ أكبرَ منهُ, فبلغَ ذلكَ قابيلَ فغضبَ فقالَ: أنا أولى بالكرامةِ والوصيّةِ، فأمرَهما أنْ يُقرِّبا قُرباناً بوحيٍّ منَ اللهِ ففعلا، فَقَبِلَ اللهُ تعالى قُربانَ هابيل فحسدَه قابيلُ فقتلَه.  

ومنها: ما رواهُ المجلسيّ في البحارِ (ج11/ص227) من كتابِ المُحتضرِ للحسنِ بن سليمانَ نقلاً عَن كتابِ الشّفاءِ والجلاءِ بإسنادِه إلى معاويةَ بنِ عمّارٍ, إذْ جاءَ فيه: ثُمَّ أوحى اللهُ عزَّ وجلّ إلى آدمَ (ع): سبقَ علمي أنْ لا أتركَ الأرضَ مِن عالمٍ يُعرفُ بهِ ديني وأنْ أخرجَ ذلكَ مِن ذُرّيّتكَ, فانظُر إلى إسمي الأعظمِ وإلى ميراثِ النّبوّةِ وما علَّمتكَ منَ الأسماءِ كلِّها وما يحتاجُ إليه الخلقُ منَ الأثرةِ عنّي فادفعهُ إلى هابيلَ، ففعلَ ذلكَ آدمُ (ع) بهابيلَ، فلمّا علمَ قابيلُ ذلكَ مِن فعلِ آدمَ (ع) غضبَ فأتى آدمَ فقالَ له: يا أبه ألستُ أكبرَ مِن أخي وأحقُّ بما فعلتَ به؟ فقالَ آدمُ (ع): يا بُنيّ إنّما الأمرُ بيدِ اللهِ يؤتيهِ مَن يشاءُ وإن كُنتَ أكبرَ ولدي فإنَّ اللهَ خصَّهُ بما لَم يزَل لهُ أهلاً، فإنْ كُنتَ تعلمُ أنَّهُ خلافُ ما قلتُ, ولم تُصدّقني فقرِّبا قُرباناً, فأيّكما قُبِلَ قربانُه فهوَ أولى بالفضلِ مِن صاحبِه... , فأكلَتِ النّارُ قُربانَ هابيل ولَم تأكُل قربانَ قابيل، فأتاهُ إبليسُ لعنَه اللهُ فقالَ: يا قابيلُ: إنَّ هذا الأمرَ الذي أنتَ فيه ليسَ بشيءٍ, لأنّهُ إنّما أنت وأخوكَ، فلو وُلدَ لكُما ولدٌ وكثُرَ نسلُكما افتخرَ نسلُه على نسلِك بما خصَّهُ بهِ أبوكَ ولقبولِ النّارِ قُربانَه وتركِها قربانَك وإنَّكَ إنْ قتلتَه لَم يجِد أبوكَ بُدّاً مِن أن يخُصَّكَ بما دفعَه إليه، فوثبَ قابيلُ إلى هابيل فقتلَه.... 

ومنها: ما رواهُ الكُلينيّ في الكافي (8/114) بإسنادِه إلى أبي حمزةَ الثّماليّ عَن أبي جعفرٍ (ع) قالَ: ... ثُمَّ إنَّ هبةَ اللهِ لـمّا دفنَ أباهُ آدمَ (ع) أتاهُ قابيلُ فقالَ: يا هبةَ اللهِ إنّي قَد رأيتُ أبي قَد خصَّكَ منَ العلمِ بما لَم أُخصَّ بهِ أنا وهوَ العلمُ الذي دعى بهِ أخوكَ فتُقبّلَ قُربانُه... فإنّكَ إن أظهرتَ العلمَ الذي اختصّكَ بهِ أبوكَ قتلتُكَ كما قتلتُ أخاكَ هابيل.

ونكتفي بهذا المقدارِ منَ الرّواياتِ خشيةَ الإطالةِ. إذْ تبيّنَ لكلِّ لبيبٍ حقيقةُ أصلِ الخلافِ بينَهما بحسبِ ما وردَ عنِ العترةِ الطّاهرةِ, وأمّا بحسبِ ما وردَ عنِ العامّةِ فإنّهم جعلوا سببَ الخلافِ بينَهما يتعلّقُ بزواجِهما مِن أُختيهما, إذ اعتمدوا على رواياتٍ أفادَت أنَّ آدمَ (ع) أرادَ تزويجَ كلٍّ مِن قابيلَ وهابيلَ مِن أختيهِما فاختارَ لقابيل أختَه التي وُلدَت مع هابيلَ مِن بطنٍ واحدٍ، واختارَ لهابيلَ توأمَ قابيل، ولأنَّ توأمَ قابيل كانَت أجملَ مِن توأمِ هابيل اغتاظَ قابيلُ، وقالَ: إنَّه أحقُّ بأختِه مِن أخيهِ هابيل، ولذلكَ قتلَه. (ينظر تفسيرُ القُرطبيّ ج6/ص134). 

وهناكَ قولٌ آخرُ وردَ في تفاسيرِهم مفادُه أنّ آدمَ (ع) أرادَ أنْ يزوِّجَهما مِن أُختين لهُما وُلدتا مِن بطنٍ آخر، وكانَت إحداهُما أجملَ منَ الأخرى، فاتّفقَ أنْ كانَت الأجملُ هي مَن اختارَها آدم (ع) لهابيل، وإذْ لم يقبَل بذلكَ قابيلُ دعاهما آدمُ (ع) إلى أنْ يُقرِّب كلٌ منهُما قرباناً , فمَن أحرقَت النّارُ قربانَه فلهُ الأجملُ منهُما(8).(ينظر: تفسيرُ الثعلبيّ ج4/ص49), و(تفسيرُ أبي السّعود ج3/ص26).

وللإنصافِ فإنَّ بعضَ عُلماءِ العامّةِ لَم يقبَل مثلَ هذهِ الرّواياتِ التي تقولُ بزواجِ ابني آدمَ مِن أُختيهِما, إذْ عّـدّهُما منَ الرّواياتِ الإسرائيليّةِ التي تسرّبَت إلى تراثِنا, إذْ ذهبَ بعضُهم إلى القولِ بأنَّ هذا مِن قصصِ أهلِ الكتابِ, ليسَ لهُ أصلٌ صحيحٌ. (ينظر: عمدةُ التّفسيرِ للعلّامةِ أحمَد محمّد شاكِر(ج4:ص124).   

فإن أشكلَ بعضُهم فادّعى أنَّ رواياتِ تزويجِ ابني آدمَ مِن أُختيهما توجدُ أيضاً في كتبِ الإماميّةِ! فالجوابُ عَن ذلكَ: بأنْ نقولَ: لا يوجدُ في كتبِ الإماميّةِ إلّا روايتانِ: إحداهُما عنِ الإمامِ زينِ العابدين (ع) , والأخرى مرويّةٌ عنِ الإمامِ الرّضا (ع), بخلافِ رواياتِ أبناءِ العامّةِ المُشتهرةِ عندَهم والمُستفيضةِ. ومعَ هذا فالرّوايتانِ محمولتانِ على التّقيّةِ, كما أفادَ بذلكَ العلّامةُ المجلسيّ في البحارِ (ج11/ص227), نظراً لاشتهارِ ذلكَ عندَ العامّةِ. ويؤيّدُ أنّ هاتينِ الرّوايتينِ  محمولتانِ على التّقيّةِ على فرضِ صحّتِهما هوَ إعراضُ أصحابِنا الثّقاتِ عنهُما وعدمُ إيرادِهما في كتبِهم المُعتبرةِ كالكافي ومَن لا يحضرُه الفقيهُ والتّهذيبُ والإستبصارُ. زِدْ على ذلكَ ورودَ رواياتٍ أخرى عَن أئمّةِ أهلِ البيت عليهم السّلام تكذّبُ مثلَ هذهِ الرّواياتِ التي وردَ فيها زواجُ الأخوةِ منَ الأخواتِ, وتشنّع عليها. فمِن ذلكَ ما رواهُ العياشيّ في تفسيرِه (ج1/ص317) عن سليمانَ بنِ خالد قالَ: قلتُ لأبي عبدِ الله (ع): جُعلتُ فداكَ إنَّ النّاسَ يزعمونَ أنّ آدمَ (ع) زوَّجَ ابنتَه مِن ابنِه، فقالَ أبو عبدِ الله (ع): قَد قالَ النّاسُ ذلكَ, ولكنْ يا سليمان أما علمتَ أنّ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قالَ: لو علمتُ أنَّ آدمَ (ع) زوَّجَ بنتَه مِن ابنِه لزوجتُ زينبَ منَ القاسمِ وما كنتُ لأرغبَ عَن دينِ آدم (ع)، فقلتُ: جُعلتُ فداكَ إنّهم يزعمونَ أنَّ قابيلَ إنّما قتلَ هابيلَ لأنّهما تغايرا على أختِهما، فقالَ (ع): يا سُليمان تقولُ هذا؟! أما تستحي أنْ تروي هذا على نبيّ اللهِ آدم (ع)، فقلتُ: جُعلتُ فداكَ ففيمَ قتلَ قابيلُ هابيل؟ فقالَ عليه السّلام: في الوصيّة.... 

ومنها: ما رواهُ العلّامةُ المجلسيّ في البحارِ (ج11/ص226) عن كتابِ المحتضرِ للحسنِ بنِ سليمان نقلاً عن كتابِ الشّفاءِ والجلاءِ بإسنادِه إلى معاويةَ بنِ عمّار قالَ: سألتُ أبا عبدِ اللهِ (ع) عَن آدمَ أبي البشرِ أكانَ زوَّجَ ابنتَه مِن ابنِه؟ فقالَ (عليه السّلام): معاذَ الله! لو فعلَ ذلكَ آدمُ (ع) لما رغبَ عنهُ رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، وما كانَ آدمُ إلّا على دينِ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله).  

ومنها: ما رواهُ الصّدوقُ في (عللِ الشّرائعِ) (ج1/ص19) بسندِه عمّن سمعَ زُرارةَ يقولُ: سُئلَ أبو عبدِ اللهِ (ع) عَن بدءِ النّسلِ مِن آدمَ صلواتُ اللهِ عليهِ كيفَ كان؟ وعَن بدءِ النّسلِ مِن ذُرّيّةِ آدمَ, فإنَّ أناساً عندَنا يقولونَ: إنَّ اللهَ تعالى أوحى إلى آدمَ أنْ يُزوِّج بناتَه مِن بنيه، وإنَّ هذا الخلقَ كلّهُ أصلُه منَ الأخوةِ والأخواتِ، فقالَ أبو عبدِ الله (ع): تعالى اللهُ عَن ذلكَ علوّاً كبيراً يقولُ مَن قالَ هذا: بأنَّ اللهَ خلقَ صفوةَ خلقِه وأحبّاءه وأنبياءهُ ورُسلَه والمؤمنينَ والمؤمناتِ والمُسلمينَ والمُسلماتِ مِن حرامٍ، ولم يكُن لهُ منَ القُدرةِ ما يخلُقهم مِن حلالٍ، وقد أخذَ ميثاقَهم على الحلالِ والطّهرِ الطّاهرِ الطّيّبِ... غيرَ أنَّ جيلاً مِن هذا الخلقِ الذي ترونَ رغبوا عَن علمِ أهلِ بيوتاتِ أنبيائِهم وأخذوا مِن حيثُ لَم يُؤمروا, فصاروا إلى ما قَد ترونَ منَ الضّلالِ والجهلِ بالعلمِ ... , التّوراةُ والإنجيلُ والزّبورُ والقُرآن أنزلَها اللهُ تعالى منَ اللّوحِ المحفوظِ على رُسلِه صلواتُ اللهِ عليهم أجمعينَ... ليسَ فيها مِن تحليلِ ذلكَ حقّاً.(هذا ما عندَنا عَن أصلِ الخلافِ بينَ هابيل وقابيل). ودُمتم سالِمين.