ما سبب ذكر النبي موسى في القرآن أكثر من باقي الأنبياء؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله 

قصّة موسى (عليه السلام) وفرعونَ شكلت المساحة الأوسع من القرآن الكريم وذلك لكونها جسّدت قمة الصّراع بين الحق والباطل، فمعادلة الحق والباطل تدورُ بين محورين وهما إرادة الله المتمثلة في الأنبياء وإرادة الشيطان المتمثلة في الطاغوت، وقد لخصَ القرآن هذه المعادلة في قوله تعالى: (فمن يكفر بالطاغوتِ ويؤمن باللهِ فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها واللهُ سميع عليم) وبما أنّ فرعون وصل به الطغيانُ إلى أن يصرّح بقوله (أَنَا رَبّكُم الْأَعْلَى) وبما أنّ موسى (عليه السلام) هو الذي وقف في وجه هذا الطغيان، كان من المهمّ أن يفرد القرآن المساحة الأوسع لبيان تفاصيل هذا الصّراع، وذلك لكونها سنّة جارية إلى يوم القيامة، فالابتلاء الأكبر الذي يُختبر به الإنسان هو الكفر بالطاغوت والتسليم لله المتمثل في أوليائه، بل حتى الملائكة عندما أراد الله اختبارها اختبرها بالسجود لآدم، وهو عنوان التسليم لأولياء الله والانقطاع إليه تعالى، يقول الإمام علي (عليه السلام): (الحمد للّه الّذي لبس العزّ والكبرياء، واختارهما لنفسه دون خلقه، وجعلهما حمىً وحرماً على غيره، واصطفاهما لجلاله، وجعل اللّعنة على من نازعه فيهما من عباده، ثمّ اختبر بذلك ملائكته المقرّبين، ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين، فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب: (إِذ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُم أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ)، اعترضته الحميّة فافتخر على آدم بخلقه، وتعصّب عليه لأصله، فعدوُّ اللّه إمام المتعصّبين، وسلَفُ المستكبرين، الّذي وضع أساس العصبيّة، ونازع اللّه رداء الجبريّة، وادّرع لباس التّعزّز، وخلع قناع التّذلّل، ألا ترون كيف صغّره اللّه بتكبّره، ووضعه بترفّعه، فجعله في الدّنيا مدحوراً، وأعدّ له في الآخرة سعيراً،  ولو أراد اللّه أن يخلق آدم من نور يخطف الأبصار ضياؤه، ويبهر العقول رواؤه، وطيبٍ يأخذ الأنفاسَ عَرْفُه لفعل، ولو فعل لظلّت له الأعناق خاضعة، ولخفّت البلوى فيه على الملائكة، ولكنّ اللّه سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله، تمييزاً بالاختبار لهم، ونفياً للاستكبار عنهم، وإبعاداً للخيلاء منهم، فاعتبروا بما كان من فعل اللّه بإبليس، إذ أحبط عمله الطّويل وجهده الجهيد، وكان قد عبد اللّه ستّة آلاف سنة لا يُدرى أمن سنيّ الدّنيا أم سنيّ الآخرة عن كِبْرِ ساعة واحدة، فمن ذا بعد إبليس يَسلَمُ على اللّه بمثل معصيته؟ كلاّ، ما كان اللّه سبحانه ليُدخل الجنّة بشراً بأمرٍ أخرج به منها ملَكاً، إنّ حكمهُ في أهل السّماء وأهل الأرض لواحد، وما بين اللّه وبين أحد من خلقه هوادة، في إباحة حمىً حرّمه على العالمين)( ).

ويقول عليه السلام: (وَلَو أَرَادَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُم أَن يَفْتَحَ لَهُم كُنُوزَ اَلذِّهْبَانِ، وَمَعَادِنَ اَلْعِقْيَانِ، وَمَغَارِسَ اَلْجِنَانِ، وَأَن يَحْشُرَ مَعَهُم طَيْرَ اَلسَّمَاءِ، وَوُحُوشَ اَلْأَرْضِ لَفَعَلَ، وَلَو فَعَلَ لَسَقَطَ اَلْبَلاَءُ، وَبَطَلَ اَلْجَزَاءُ، وَاضْمَحَلَّتِ اَلْأَنْبَاءُ، وَلَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ اَلْمُبْتَلَيْنَ، وَلاَ اسْتَحَقَّ اَلْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ اَلْمُحْسِنِينَ، وَلاَ لَزِمَتِ اَلْأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا، وَلَكِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِم، وَضَعَفَةً فِيمَا تَرَى اَلْأَعْيُنُ مِنْ حَالاَتِهِم، مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلَأُ اَلْقُلُوبَ وَاَلْعُيُونَ غِنًى، وَخَصَاصَةٍ تَمْلَأُ اَلْأَبْصَارَ وَاَلْأَسْمَاعَ أَذًى)( ).

فتوحيدُ الله لا يتحقق إلا بالطاعة والامتثال، وتمام التسليم لمن أمر الله بطاعته، إخراجاً للكِبر من القلوب، وتحقيقاً للوحدانية في النفوس، ومن هنا كانت طاعة أنبيائه شرطاً في توحيده، فلا يكتملُ الإيمان، ولا يكون الإنسان موحِّداً لله، ما لم يكن مطيعاً وممتثلاً لأنبيائه ورسله.

   فمن هذا البعد نفهم اهتمام القرآن بقصّة موسى وفرعون؛ لأنها تمثل فلسفة الابتلاء والامتحان الأكبر للعباد، وما وقع في التاريخ الإسلامي من انحراف تمثل في انخراط الأمّة في صفّ الطغيان والأنظمة الجائرة وتركت أولياء الله الذين أمرَ الله بمولاتهم وطاعتهم، فلو استفادت الأمّة من عبرة الصّراع بين فرعون وموسى (عليه السلام) لما وقفت مع معاوية في وجه الامام علي (عليه السلام) ولما حاربت مع يزيد الأمام الحسين (عليه السلام) ومازالت الأمّة تناصر الطغيان المتمثل في الأنظمة الجائرة وتضهد أولياء الله وعباده الصالحين، فالفرعونية ما زالت تمثل الصّورة السياسية الحاكمة، وما زالت القارونية المالية هي ذاتها الثقافة المهيمنة، قال تعالى: (أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُم آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَد أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)، فالآية تصفهم بأنهم مؤمنون بالرسول وبالقرآن، وبما جاء من كتب سماوية أخرى، والإيمانُ بالقرآن هو إيمانٌ بما جاء فيه من أحكام وتشريعات، ومع ذلك هم  خارجون عن دائرة التوحيد، وذلك وفقاً لمعيار الولاية، فمن يوالي أولياء الله فهو موحّد، أما من يوالي الطاغوت فقد خرج عن دائرة الموحدين، وإن كان يصلي ويصوم ويؤدّي باقي العبادات، ولذا نجد أنّ القرآن يرجع السبب في ذلك إلى قوله: (يُرِيدُونَ أَن يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَد أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)، والطاغوت هنا هو الحاكم الذي يحكم من دون تفويض من الله، وقرينة ذلك قوله: (يريدون أن يتحاكموا..) ولخطورة هذه القضية تكررت في القرآن قصة الصّراع بين موسى (عليه السلام) وفرعون لأنها تمثل المعيار بين الايمان الحقيقي والكفر.