أرجو توضيحَ قولِ الإمامِ عليٍّ (ع): يأتي على النّاسِ زمانٌ، تكونُ فيهِ العافيةُ في عشرةِ أجزاءٍ,تسعةٌ في إعتزالِ النّاسِ، وواحدةٌ في الصّمت.

: السيد رعد المرسومي

السّلام عليكم ورحمة الله،

يمكنُ أن نفهمَ مِن هذا الخبرِ عدّةَ أمورٍ ينبّه عليها، مِنها: 

1-  عندما يكونُ الإختلاط بالنّاسِ سبباً للوقوعِ في المعاصي فإنَّ المجالسَ لا تخلو غالباً منَ المُحرّماتِ بلِ الكبائر، وعلى رأسِها الغيبةُ التي جعلوها فاكهةَ المجالسِ، وهيَ منَ الموبقاتِ التي توجبُ إحباطَ العملِ وذهابَ الدّينِ، فعَن رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم) قالَ: (الغيبةُ أسرعُ في دينِ الرّجلِ المُسلمِ منَ الأَكلَةِ في جوفِه) وعنهُ (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّمَ): (إنَّ الرّجلَ ليؤتى كتابُه منشوراً فيقولُ: يا ربِّ، فأينَ حسناتُ كذا وكذا عملتُها ليسَت في صحيفتي؟ فيقولُ: مُحيَت باغتيابِكَ النّاس).[ يُنظر: ميزانُ الحكمةِ: 6/506]. ووصفَتها بعضُ الرّواياتِ بالنّارِ التي يرسلها على مغروساتِه، وهيَ الأعمالُ الصّالحةُ، فيُحرقُها.   

وينبغي الإلتفاتُ إلى أنَّ المجالسَ لا تختصُّ باللّقاءاتِ المباشرةِ بل تشملُ اليومَ ما يحصلُ مِن حواراتٍ ولقاءاتٍ عبرَ مواقعِ التواصلِ الإجتماعيّ وتؤدّي أحياناً إلى أمورٍ مُحرّمةٍ كأحاديثِ الحبِّ والغرامِ معَ الجنسِ الآخرِ مِن دونِ مسوِّغٍ شرعي، فهذهِ الموبقاتُ وأمثالها مِن نتائجِ الإختلاطِ غيرِ المُنضبطِ، لِذا كانَ في العُزلةِ الحفاظُ على الدّينِ وعلى ما حصلَ عليه منَ الطّاعات. فعن رسولِ الله (صلّى اللهُ عليه وآله وسلّم) قالَ: (العزلةُ سلامةٌ) وعَن أميرِ المؤمنينَ (عليه السّلام) قالَ: (لا سلامةَ لمَن أكثرَ مُخالطةَ النّاس)، (سلامةُ الدّينِ في إعتزالِ النّاس)، (مَن إعتزلَ سَلِمَ ورعُه)، (مداومةُ الوحدةِ أسلمُ مِن خُلطةِ النّاس). [ ميزانُ الحكمةِ: 6/18.]، ولذا قيلَ إنَّ ((في العُزلةِ صيانةُ الجوارحِ وفراغُ القلبِ وسلامةُ العيشِ وكسرُ سلاحِ الشيطانِ والمُجانبةُ مِن كلِّ سوءٍ وراحةُ الوقتِ، وما مِن نبيٍّ ولا وصيّ إلّا واختارَ العُزلةَ في زمانِه إمّا في إبتدائِه وإما في إنتهائِه)).[ سفينةُ البحار: 6/233.]. 

 

2-  عندَما يكونُ الإختلاطُ معَ النّاسِ والحضورُ في مجالسِهم مُسبّباً لتشوّشِ الفكرِ بالأحاديثِ الفارغةِ المُضيِّعةِ للوقتِ وتُسمّى مجالسَ البطّالينَ، وقُلنا إنّها تشملُ ما يُعرَفُ اليومَ بالحوارِ عبرَ الإنترنت والرّسائلِ القصيرةِ ومكالماتِ الهواتفِ المحمولةِ، وأغلبُ لقاءاتِ النّاسِ ومجالسِهم ومحادثاتِهم مِن هذا القبيلِ، فكلُّ ما يدورُ فيها هذرٌ منَ الكلامِ وعبثٌ ولهوٌ باطلٌ كأحاديثِ الألعابِ الرياضيّةِ أو الشؤونِ العائليّةِ الخاصّةِ بالنّاسِ الآخرينَ، فإذا تشوّشَ الفكرُ بهذهِ الأحاديثِ فإنّهُ لا يكونُ مؤهّلاً للإقبالِ على اللهِ تباركَ وتعالى والأنسِ بذكرِه، فعَن أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السّلام) قالَ: (مَن إنفردَ عنِ النّاسِ أنسَ باللهِ سُبحانه) و(الإنفرادُ راحةُ المُتعبّدين) وعنِ الإمامِ الصّادقِ (عليه السلام): (لو ذُقتَ حلاوة الوحدة لاستوحشتَ من نفسك) ومن حِكم لقمان: (إنَّ طولَ الوحدةِ أفهمُ للفكرةِ، وطولُ الفكرةِ دليلٌ على طريقِ الجنّة). فلِذا كانَ إعتيادُ هذهِ المجالسِ سبباً للحرمانِ منَ القُربِ الإلهيّ كما في دعاءِ الإمامِ السجّادِ (عليه السّلام) في ليالي شهرِ رمضان: (أو لعلّكَ فقدتني مِن مجالسِ العلماءِ فخذلتني أو لعلّكَ رأيتني في الغافلينَ فمِن رحمتِك آيستَني، أو لعلّكَ رأيتني آلفَ مجالسَ البطّالينَ فبيني وبينَهم خلّيتني)، وفي وصيّةِ الإمامِ الكاظمِ (عليهِ السّلام) لهشامٍ بنِ الحكم: (الصّبرُ على الوحدةِ علامةُ قوّةِ العقلِ، فمَن عقلَ عنِ اللهِ إعتزلَ أهلَ الدّنيا والرّاغبينَ فيها، ورغبَ فيما عندَ اللهِ، وكانَ اللهُ أنيسَه في الوحشةِ، وصاحبَه في الوحدةِ، وغِناهُ في العيلةِ، ومُعِزَّهُ مِن غيرِ عشيرة). 

 

3-    عندَما لا يكونُ الفردُ قادِراً على أداءِ حقِّ الإختلاطِ معَ النّاسِ ومراقبةِ ما يجري فيه ليأمرَ بالمعروفِ وينهى عن المنكرِ، فمثلُ هذا يكونُ الأفضلُ له تجنّبُ الإختلاطِ إلّا بما هوَ ضروريٌّ حتّى لا يكونَ منَ السّاكتينَ عن الباطلِ والرّاضينَ بالظّلمِ، عنِ الإمامِ الصّادقِ (عليه السّلام) قالَ: (إن قدرتَ أن لا تخرُجَ مِن بيتِك فافعَل، فإنَّ عليكَ في خروجِك أن لا تغتابَ ولا تكذبَ ولا تحسُدَ ولا ترائي ولا تتصنّعَ ولا تُداهن) وعنهُ (عليه السّلام) قالَ: (أقلُّ ما يجدُ العبدُ في الوحدةِ الرّاحةَ مِن مُداراةِ النّاس).

الثاني: أن نفهمَ مِن معنى إعتزالِ النّاسِ هوَ مباينتُهم في السّلوكِ والأفعالِ المُخالفةِ للشريعةِ، فلا مانعَ مِن أن يعيشَ المؤمنُ وسط المُجتمعِ بكلِّ فئاتِه بشرطِ أن يكونَ مُتميّزاً بعقيدتِه وأخلاقِه وسلوكِه وتقييمِه للأمورِ عَن أهلِ المعاصي ولا يتأثّرَ بشيءٍ مِن إنحرافاتِهم أو يداهنَ أو يجاملَ أو يتنازلَ عَن شيءٍ، وبثباتِه ومبدئيّتِه سوفَ يكونُ موقفُه قويّاً مؤثّراً في الآخرينَ وهادياً ومُصلِحاً لهم.

وهذهِ المُباينةُ في العقيدةِ والسّلوكِ معَ أهلِ الباطلِ جعلَها اللهُ تعالى في القرآنِ الكريمِ علامةً فارقةً لسلوكِ الأنبياءِ (عليهم السّلام) معَ مُخالفيهم والمُتمرّدينَ عليهم، قالَ تعالى: [بِسمِ اللهِ الرَحمَنِ الرَحِيمِ، قُل يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ، لا أَعبُدُ مَا تَعبُدُونَ، وَلا أَنتُم عَابِدُونَ مَا أَعبُدُ] (الكافرونَ: 1- 3) وقالَ تعالى: [وَأَعتَزِلُكُم وَمَا تَدعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً، فَلَمَّا اعتَزَلَهُم وَمَا يَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبنَا لَهُ إِسحَاقَ وَيَعقُوبَ وَكُلاً جَعَلنَا نَبِيّاً] (مريم: 48، 49). إنَّ الإختلاطَ وعدمَ التمايزِ في الرّؤيةِ والتوجّهاتِ والسّلوكِ بينَ المؤمنِ وغيرِه خطيرٌ جدّاً لأنّهُ يؤدّي لتشويهِ صورةِ الدّينِ وتمييعِه وتضييعِ هويّتِه وإنحرافِ أحكامِه حتّى يُصبحَ المعروفُ مُنكراً والمنكرُ معروفاً والأخطرُ مِن ذلكَ أنّهُ يُعطي مشروعيّةً للإنحرافِ والفسادِ بعدَ أن إختلطَ الحقُّ بالباطلِ ولم يبقَ مائزٌ بينَهُما. وهكذا على صعيدِ السّلوكِ الشخصيّ إذا كانَ (المُتديّنُ) يكذبُ ويُخلفُ الوعدَ ويغشُّ ويعتدي على حقوقِ الآخرينَ ويفتري عليهم ويكيدُ لهم فكيفَ سيحبُّ النّاسُ التديّنَ والإلتزامَ بالشريعة؟ 

وتجدرُ الإشارةُ إلى أنّ أهلَ الباطلِ يحاولونَ جاهدينَ لإستدراجِ أهلِ الحقِّ حتّى يكونوا مثلَهم، كما لو وُجدَ موظّفٌ نزيهٌ مُثابرٌ في عملِه يخدمُ النّاسَ بإخلاصٍ فإنّهم يقومونَ بكلِّ وسائلِ الضّغطِ والترغيبِ والترهيبِ ليتخلّى عَن مبدئهِ ويُصبحَ مثلَهم، ليُعطوا المسوّغاتِ لأنفسِهم ويتخلّصوا مِن مُحاسبةِ الضّميرِ وليصبغوا أفعالَهم بالشرعيّةِ، فالعُزلةُ والإعتزالُ الذي حثَّت عليهِ الآياتُ الكريمةُ والرّواياتُ الشريفةُ يعني إبقاءَ الخطِّ الفاصلِ بينَ المنهجينِ والسلوكينِ والرّؤيتين. 

وهكذا الحالُ في الصّمتِ، لِما فيهِ مِن كفِّ اللسانِ عنِ النّطقِ فيما تهواهُ النّفسُ وذلكَ معَ مُخالطةِ النّاسِ صعبٌ شديدٌ لا يحصلُ إلّا بقهرِ النّفسِ ومجاهدتِها. ودمتُم سالِمين.