كيف تكون فاطمة(ع) أوّل أهل البيت لُحوقاً بالنبيّ(ص) وقد استشهد المحسن قبلها؟!

السؤال: (إذا كانت الزهراء (عليها السلام) أوّلَ مَن يَلحق برسول الله من أهل بيته (صلّى الله عليه وعليهم أجمعين) بعد استشهاده فكيف ذلك وقد قُتِـلَ المحسنُ (عليه السلام) قبلها، وهو أيضاً من أهل البيت (عليهم السلام)؟!، أَلَا يتناقض الأمران فيما بينهما؟!)).

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم..، وبعد.. فاعلم أخي السائل الكريم أنّ إِخبار النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لابنته فاطمة (عليها السلام) بأنّها أوّل من يَلحق به من أهل بيته (عليهم السلام) ممّا روي بأسانيد صحيحة عند الفريقين ولا خلاف فيه على الإطلاق وإن اختلفت بعض ألفاظه [ينظر: صحيح البخاري ج4ص183، مسند أحمد ج6ص282، المعجم الكبير للطبراني ج22 ص418]، وسنكتفي في المقام برواية شيخ الطائفة بإسناده إلى ابن عباس قال: «لمّا حضرت رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله) الوفاةُ بكى حتّى بَلَّت دموعُه لحيتَه، فقيل له: يا رسول الله، ما يبكيك؟ فقال: أبكي لذرّيّتي وما تصنع بهم شرار أمّتي من بعدي، كأنّي بفاطمة ابنتي وقد ظُلمت بعدي وهي تنادي: " يا أبتاه، يا أبتاه " فلا يعينها أحد من أمتي.!. فسمعت ذلك فاطمة (عليها السلام) فبكت، فقال لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله): لا تبكينَ [لا تبكي] يا بنيّة، فقالت: لست أبكي لما يُصنع بي من بعدك، ولكن أبكي لفراقِكَ يا رسول الله. فقال لها: أبشري يا بنتَ محمد بسرعة اللّحاق بي، فإنّك أوّل من يلحق بي من أهل بيتي» [أمالي الطوسي ص188]، هذا من ناحية.

ومن الناحية الأخرى فإنّ حادثة الاعتداء على الزهراء (عليها السلام) وشهادة سقطها المحسن (عليه السلام) هي الأخرى ثابتة عند علماء الطائفة وأتباع التشيّع، وأمّا ما ورد في السؤال من دعوى المنافاة والتناقض بين ما في الحديث الشريف المذكور أعلاه وبين شهادة المحسن (عليه السلام) فليس ذلك إلّا شبهة أثارها الوهابيّة، وهي فاسدة تماماً؛ لأنّها ترتكز إلى توهّم وجود ملازمة خارجية بين حصول الموت وبين تحقّق مفهوم اللّحوق وهذا ما سيتّضح من خلال بيان مقدّمتين:

المقدّمة الأولى: بقليل من التأمل يمكن لنا معرفة أجنبيّة موضوع شهادة المحسن (عليه السلام) عمّا جاء في الحديث النبويّ من إخبار النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لابنته الزهراء (عليها السلام) بأنّها أوّل أهل بيته لحوقاً به، والذي يدُلُّنا على ذلك أمران:

أحدهما: الاختلاف بين مفهوم القتل ومفهوم اللّحوق، فإنّ معنى القتل واضح من كونه: إزهاق النفس وحرمانها من العيش في الحياة الدنيا، وهذا المعنى لا شكّ في سبق مولانا المحسن (عليه السلام) لأمّه الزهراء (عليها السلام) فيه، فإنّه أوّل من قُتل من أهل البيت بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله). لكنّ أين يقع هذا من مفهوم اللّحوق في اللّغة والاستعمال؟ ففي المعجم وكتب اللّغة جاء: ((لاحق: اسم فاعل من لحق يلحق به لحقاً ولحاقاً: أدركه. ولحق به لحوقاً: لصق به. فاللّاحق: من أتى بعد شيء يسبقه...) [معجم المصطلحات والالفاظ الفقهيّة ج3 ص163، لسان العرب ج10 ص337]، فاللّحوق - إذنْ - هو: " إتيان اللّاحق بعد السابق وإدراكه له ووصوله إليه أو التصاقه به " وليس هو إزهاق النفس وحرمانها حقّ العيش في الحياة الدنيا!، وبالتالي فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) إنّما يتحدّث عن اللّحوق لا عن الموت. وبعبارة أخرى: فإنّ الموت أو القتل هما من قبيل العلل والأسباب، وأمّا اللّحوق والملتقى بعد الفراق فهما من نتائج تلك العلل والأسباب، فتدبّر جيّداً.

والآخر: ما يُعرفُ بمناسبة الحال، فإنّ الزهراء (عليه السلام) لمّا كانت باكية لفراقه كما هو صريح الحديث الشريف؛ فقد كان المناسب لحالها هو أن يخفّف عنها النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ألم فراقه، ويسلّيها ويبشّرها بقرب لحوقها به ولقائهما وأن ما يُبكيها من الفراق لن يدوم طويلاً، وليس من المعقول ولا المنطقي أن تكون البشارة بالقتل أو الموت وإزهاق النفس فإنّ ذلك ممّا لا يصدر عن إنسان حكيم في مثل هكذا حال كما لا يخفى!.

وإلى هنا اتّضح أنّ لدينا مفهومين أحدهما أجنبي عن الآخر وهما: الموت واللحوق!، وأنّ حديث النبيّ (صلّى الله عليه وأله) كان عن المفهوم الثاني وهو اللحوق دون الأوّل وهو الموت؛ لأنّ ذلك هو المناسب للمقام والحال.

المقدّمة الثانية: يلاحظ على السائل أنّه يؤسس للقول بوجود ملازمة عقليّة بين تحقق الموت وبين ترتّب اللحوق عليه؛ ولذا يتساءل: كيف يستشهد المحسن (عليه السلام) ولا يلحق بجدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله)؟!، لكن من الواضح فساد الملازمة المذكورة، وكونها مصادرة على المطلوب؛ لأنّ جزئيات ما بعد الموت والحوادث التي يتعرّض لها الإنسان بتفاصيلها في عالمي البرزخ والآخرة لا تُدرك عن طريق الملازمات العقليّة، ولا سبيل للعقل إلّا أن يدرك ضرورة المعاد والبعث للحساب، أمّا تفاصيل ما يجري هناك فلا يمكنه معرفتها من دون توسّط النقل في القرآن والسنّة.

والمستفاد من الآيات والروايات هو أنّ قوانين عالَمَي البرزخ والآخرة تختلف تمام الاختلاف عن قوانين عالم الحياة الدنيا، فالإنسان هنا في سعة من الحركة، أمّا هناك فحركته محكومة محدودة لا اختيار له فيها، وإنّما هو يساق فيها سوقاً قهريّاً، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (*) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99-100].

والخلاصة: أنّه لا ملازمة بين موت الإنسان وبين لحوقه برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقد يموت ويلحق، وقد يموت ولا يلحق، فالإلحاق وعدمه منحصر بيد الله؛ ولذا قال تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}[الزمر:21]، هذا فيما يتعلّق بالإجابة الأساسية عن هذه الشبهة.

كما يمكن الإجابة عنها أيضاً بوجوه أخرى كثيرة ذكرها أهل العلم، ولأجل الوقوف على بعضها نقول: إنّ عنوان أهل البيت في رواياتهم (عليهم السلام) له عدّة إطلاقات:

1ـ فتارة يراد به أصحاب الكساء خاصة، كما في صحيحة عمار بن موسى الساباطي قال: «كنت عند أبي عبد الله "عليه السلام" فقال رجل: اللهم صلِّ على محمد وأهل بيت محمد، فقال له أبو عبد الله "عليه السلام": يا هذا لقد ضيَّقت علينا، أما علمت أن أهل البيت خمسةٌ، أصحابُ الكساء؟، فقال الرجل: كيف أقول؟ قال: قل: "اللهم صل على محمد وآل محمد"، فنكون نحن وشيعتنا قد دخلنا فيه» [ثواب الأعمال ص158].

2ـ وأخرى يُطلق فيراد به المعصومون فقط، وهم أصحاب الكساء وبقيّة الأئمّة (عليهم السلام)، كما في قول النبي (صلّى الله عليه وآله): «المهدي منا أهل البيت ... الخبر»[مسند أحمد ج1 ص84].

3ـ وقد يطلق ثالثة ويراد منه ما هو أعم من المعصومين الأربعة عشر وغيرهم من ذرّياتهم (عليهم السلام أجمعين)، كالحمزة وجعفر والسيّدة زينب وأم كلثوم وأبي الفضل وعلي الأكبر وغيرهم (عليهم السلام أجمعين، ففي زيارة علي الأكبر (عليه السلام) تقول: (أشهد لقد شكر الله سعيك وأجزل ثوابك وألحقك بالذروة العالية حيث الشرف كلّ الشرف وفي الغرف السامية كما مَنَّ عليك من قبل وجعلك من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً...) [المزار للشهيد الأوّل ص145].

4ـ وأخيراً قد يُطلق فيراد منه ما هو أعمّ من الثلاثة المتقدّمة فيشمل حتّى مَن كان من غير بني هاشم، بل ولا من العرب كقوله (صلّى الله عليه وآله): «سلمان منّا أهل البيت» [عيون الأخبار ج2ص70].

فإذا عرفنا ذلك وضممنا إليه أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) كان يعلم بشهادة المحسن (عليه السلام) وما يجري من الأحداث إلّا أنّه مع ذلك قال: «فإنّكِ أوّل من يلحق بي من أهل بيتي» فإنّه ينتج عن كلامه هذا ثلاثة وجوه محتملة:

الوجه الأوّل: أنّ يكون مراده (صلّى الله عليه وآله) من أهل البيت خصوص المعنى الأوّل وهم أصحاب الكساء خاصّة دون غيرهم، ومن الواضح أنّ المحسن (عليه السلام) لم يكن منهم بلا إشكال. [انظر: موقع الشيخ الجزيري].

الوجه الثاني: أنّ يكون مراده من عنوان أهل البيت (عليهم السلام) خصوص المعنى الثاني، وهذا كسابقه فإنّ المحسن (عليه السلام) ليس من المعصومين الأربعة عشر كما هو واضح.

الوجه الثالث: أن يكون المراد بأهل البيت في كلامه (صلّى الله عليه وآله) هو المعنى الثالث لكنّ على نحو القضيّة الخارجيّة الشاملة للأفراد الموجودين من أهل البيت (عليهم السلام) وجوداً فعليّاً، وليس على نحو القضيّة الحقيقيّة حتّى يشمل من سيوجد منهم لاحقاً كالمحسن (عليه السلام)، أي أنّ مراده هو لحوق فاطمة (عليها السلام) قبل أهل بيته الأحياء الموجودين في الخارج فعلاً، وهم فقط أصحاب الكساء والسيدة زينب والسيدة أم كلثوم (عليهم السلام أجمعين)، فهذه ثلاثة وجوه مستفادة من عنوان أهل البيت في قوله (صلّى الله عليه وآله): «فإنّكِ أوّل من يلحق بي من أهل بيتي»، وبأيّها أخذنا فهو صحيح ويدفع الشبهة.

الوجه الرابع: من المعلوم أنّ السيدة زينب الحوراء (عليها السلام) معدودة من نساء أهل البيت (عليهم السلام) كما عرفت، وقد كانت ولادتها في السنّة الخامسة للهجرة، أي قبل وفاة جدّها النبيّ الأكرم(صلّى الله عليه وآله) بقرابة ستِّ سنين، فلا يبعد والحال هذه اشتمال الحديث على المجاز في الحذف، ويكون مراده (صلّى الله عليه وآله):« فإنَّكِ أوّلُ من يلحق بي من (نساء) أهل بيتي »، فيكون نظير قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا}[يوسف:82]، فإنّ المراد به: "اسأل أهل القرية"؛ وذلك لأنّ القرية هي المصر والبلد الذي يحتوي على مجموعة من البيوت فلا يُعقل توجّه السؤال إليها[ينظر: مجمع البيان ج5ص443، اصطلاحات الأصول للمشكيني ص118]، وما أكثر نظائره في لغة العرب كما لا يخفى.

الوجه الخامس والأخير: أنّ يكون ذلك بلحاظ الأصالة والتبعيّة، ففاطمة لحقت به بالأصالة، وأمّا لحوق المحسن فبالتبع، وبعبارة أوضح: أن يكون كلامه (صلّى الله عليه وآله) بملاحظة تقدّم السبب على النتيجة والعلّة على معلولها، فإنّ مصيبتها (عليها السلام) متقدّمة على مصيبة المحسن (عليه السلام) تقدّم العلّة على معلولها والسبب على نتيجته؛ أي لولا أن تتعرّض فاطمة (عليها السلام) لتلك الأحداث المأساويّة؛ لمَا نتج عن ذلك شهادة المحسن سقطاً.

والنتيجة النهائيّة: أنّ جميع هذه الوجوه الخمسة المحتملة يمكن دفع الشبهة بها بلا إشكال، مضافاً إلى ما تقدّم من أنّ الأصل في ردّها وبيان فسادها هو ما ذكرناه من جواب أساسي.

وأمّا أسباب لحوقها (عليها السلام) قبل غيرها من أهل البيت (عليهم السلام) فقد أفردناه بجواب مستقلّ، يمكن مراجعته.

ختاماً، هذا ما وفّقنا الله تعالى لتحريره في المقام.. فله الحمد أوّلاً وآخراً.

(الجواب يناسب الليالي الفاطميّة)