وَحدَةُ الوُجُودِ عِندَ عُرفَاءِ الشِّيعةِ. 

قُتيْبَةُ السَّلمَانُ: السَّلامُ علَيكُم.. أرجُوا أنْ تُجِيبُوا عن سُؤالِي بكُلِّ صَراحَةٍ بَاركَ اللهُ بكُم. كمَا أعلَمُ وتَعلَمُونَ ويَعلَمُ كُلُّ مَن اطَّلَعَ على كُتُبِ ما يُسمَّى بالعِرفَانِ الشِّيعيِّ أنَّ أصحَابَ هَذا الفَنِّ يَعتَقِدُونَ أنَّ كُلَّ شَيءٍ هو اللهُ، نعم، هَذا هو وَاقِعٌ لا يُنكِرُه ذُو لُبٍّ، ويَشهَدُ على ذلكَ ما كَتَبُوه في كُتُبِهِم، فهَذا مِثَالٌ مِنْها وهو ما نَجِدُه في كِتَابِ الشَّيخِ المطَهَّرِي حَيثُ قَالَ في كِتَابِه المَوسُومِ بالعِرفَانِ ص13 ما نَصُّه: (فإنَّ تَوحِيدَ العَارِفِ يَعنِي أنَّ المَوجُودَ الحَقِيقِيَّ مُنحَصِرٌ باللهِ تَعَالى، فكُلُّ ما سِوَاهُ ليسَ سِوَى ضَلَالٍ، فَليسَ هُناكَ شَيءٌ سِوَى اللهِ) وأيْضاً قَالَ في نَفسِ هَذا الكِتَابِ ما نَصُّه (إذ يَرَى الفَيلَسُوفُ الإلَهيُّ الأصالَةَ لِلَّهِ ولغَيرِهِ، إلَّا أنَّ اللهَ وَاجِبُ الوُجُودِ وقَائِمٌ بذَاتِهِ وما سِوَاهُ مُمكِنُ الوُجُودِ وقَائِمٌ بغَيرِهِ ومَعلُولٌ لوَاجِبِ الوُجُودِ، بَينَما يَرَى العَارِفُ أنَّ كُلَّ ما سِوَى اللهِ لا وُجُودَ له حَقِيقةً، وإنَّما الحَقِيقِيُّ هو وُجُودُ اللهِ المُحِيطُ بكُلِّ شَيءٍ، وبذلِكَ تَكُونُ جَمِيعُ الأشيَاءِ [تَعلِيقٌ مِنِّي حتى الكَلبِ والخِنزِيرِ والغَائِطِ والكَافِرِ وإلى غَيرِ ذلكَ مِن الخَبائِثِ] أسمَاءً وصِفَاتٍ وشُؤُوناً وتَجلِّيَاتٍ لِلَّهِ سُبحانَه وتَعَالى ولَيسَتْ أمُوراً زَائِدةً عليْه) ويُمثِّلُونَ لذلِكَ بالبَحْرِ وأموَاجِه كمَا في كِتَابِ سُورَةِ الفَاتحَةِ للسَّيِّدِ الخُمَينيِّ، فهُنا السُّؤالُ هو كالتَّالِي: هذِهِ العَقِيدةُ ألَيسَتْ عَقِيدةً تُؤدِّي بصَاحِبِهَا إلى الكُفْرِ والإلحَادِ كمَا قَالَ بَعْضُ العُلمَاءِ وقد اعْترَفَ بذلكَ الشَّيخُ المُطهَّرِي في نَفسِ الكِتَابِ المَذكُورِ حَيثُ قَالَ ما نَصُّه (والَّذينَ يُخالِفُونَ العُرفَاءَ لا يَرضَوْنَ هذِهِ المَرحَلةَ مِن التَّوحِيدِ، بل يَروْنَها كُفْراً وإلحَاداً)، أم أنَّها عَقِيدةٌ صَحِيحَةٌ ويَجُوزُ لي أنا كمُكلَّفٍ أنْ أعتَقِدَ بها وأُؤمِنَ بها، أرجُو مِن جَنابِكُم الكَرِيمِ أنْ يَكُونَ الجَوابُ مُفصَّلاً ومُدعَماً بالأدِلَّةِ كمَا كَانَ السُّؤالُ كذلِكَ؟ وأنا آسِفٌ على الإطَالةِ لكنَّ القَلْبَ يَقطُرُ دَماً ممَّا أرَى!

: اللجنة العلمية

 الأخُ قُتيبَةُ المُحتَرمُ.. السَّلامُ علَيكُم ورَحمةُ اللهِ وبَركَاتُه. 

 أغلَبُ ما تَقرَأونَه أو تَسمَعُونَه حَولَ هَذا المَوضُوعِ يَرجِعُ إلى مَسألَةٍ وَاحِدةٍ اسْمُهَا "نَظرِيةُ وَحدَةِ الوُجُودِ".. وهذِهِ النَّظرِيَّةُ لها تَفسِيرَاتٌ مُتعدِّدةٌ، ولكنَّ بَعْضَ المُتصيِّدِينَ في المَاءِ العَكِرِ أو الجُهَلاءِ يُحاوِلُونَ إسقَاطَ بَعْضِ تَفسِيرَاتِ هذِهِ النَّظرِيَّةِ على عُرفَاءِ الشِّيعَةِ بُغيَةَ تَكفِيرِهِم أو بُغيَةَ ثَلْمِ المَذهَبِ مِن خِلَالِهِم، ونحنُ هُنا سَنسْتَعرِضُ أَهمَّ المعَانِي لهذِهِ النَّظرِيَّةِ ونُلَاحِظُ ما هُو مَقصُودُ عُرفَاءِ الشِّيعَةِ مِن قَولِهِم بوَحدَةِ الوُجُودِ الَّذي يَجِدُه البَعْضُ في كِتَابَاتِهِم فيُهرِّجَ علَيْهم.

 المَعنَى الأوَّلُ: أنْ يُرَادَ مِن وَحدَةِ الوُجُودِ وَحدَةُ المَوجُودِ، بمَعنَى أنَّ جَمِيعَ المَوجُودَاتِ في هَذا الكَوْنِ مِن المَاءِ والتُّرَابِ والِجبَالِ والأنهَارِ والإنسَانِ والحَيوَانَاتِ والسَّمَاءِ والأرْضِ ونَحوِها، كُلُّها هي اللهُ تَعَالى، فوُجُودُ اللهِ - بحَسَبِ هَذا المَعنَى - مُتَّحِدٌ مع مَخلُوقَاتِه.

 وهَذا المَعنَى لا يَقُولُ به أحَدٌ مِن المُسلِمِينَ، فَضلاً عن عُرفَاءِ الشِّيعَةِ، لأنَّه كُفرٌ وإلحَادٌ، ولا يُوجَدُ دَلِيلٌ عليْه مِن عَقلٍ ولا نَقلٍ.

 المَعنَى الثَّانِي: أنَّ سِنخَ الوُجُودِ هو وَاحِدٌ لجَمِيعِ المَوجُودَاتِ، ومِن هُنا جَاءَتْ مِثلُ هذِهِ التَّعبِيرَاتِ: "الكَثرةُ في عَينِ الوَحدَةِ"، وأنَّ ما به الإشتِرَاكُ هو عَينُ ما به الإمتِيَازُ، والمُرَادُ بها: أنَّ المَوجُودَاتِ كُلَّها تَرجِعُ إلى حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ هي الوُجُودُ، فحَقِيقَةُ الوُجُودِ وَاحِدةٌ، ولكنَّ الإختِلَافَ هو في مَرَاتِبِ هَذا الوُجُودِ ودَرجَاتِه، فوُجُودُ المَعلُولِ أضعَفُ مِن وُجُودِ العِلَّةِ، ووُجُودُ الوَاجِبِ أقوَى مِن وُجُودِ المُمكِنِ وهكَذا.

 ويُمكِنُ التَّمثِيلُ لهَذا المَعنَى بالنُّورِ ومَصَادِيقِه: نُورُ الشَّمسِ ونُورُ الشَّمعَةِ، فنُورُ الشَّمسِ ونُورُ الشَّمعَةِ يَشتَرِكَانِ في حَقِيقَةٍ وَاحِدةٍ وهي أنَّ كِلَيْهِما نُورٌ، ويَتميَّزَانِ بالشِّدَّةِ (بالنِّسبَةِ لنُورِ الشَّمسِ) والضَّعفِ (بالنِّسبَةِ لنُورِ الشَّمعَةِ)؛ فمَا به الإمتِيَازُ (وهُو هُنا الشِّدَّةُ والضَّعفُ) يَعُودُ للنُّورِ أيْضاً وهو عَينُ ما به الإشتِرَاكُ أيْضاً.

 وهَذا المَعنَى صَحِيحٌ، ولا مُشكِلةَ فيْه، لا عَقدِيَّةٌ ولا فِكرِيَّةٌ.

 المَعنَى الثَّالِثُ: أنَّ الوُجُودَ الحَقِيقِيَّ الكَامِلَ هو لِلَّهِ سُبحانَه وتَعَالى، وما عَدَاه هو وُجُودٌ نَاقِصٌ مَشُوبٌ بالعَدمِ، أي عَدمُ الكَمَالِ وعَدمُ الإستِقلَالِ، فاللهُ سُبحانَه هو المَوجُودُ الأصِيلُ المُستَقِلُّ بذَاتِه، وما عَدَاه هو وُجُودٌ تَابِعٌ له.

 وتَعبِيرُ البَعْضِ بأنَّ المَوجُودَاتِ عَدمٌ وأنَّه لا وُجُودَ في هَذا الكَوْنِ إلَّا لِلَّهِ سُبحانَه وتَعَالى يُرادُ به هَذا المَعنَى، أي أنَّ المَوجُودَاتِ هي عَدمٌ بذَاتِها وتَستَمِدُّ وُجُودَها وبَقَاءَها مِن فَيْضِه سُبحانَه.

 وهَذا المَعنَى أيْضاً هو مَعنىً صَحِيحٌ ولا غُبَارَ عليْه، وقد نَجِدُه في تَعبِيرَاتِ العُرفَاءِ ولكنَّ البَعْضَ يَفُوتُه الفَهْمُ الصَّحِيحُ منْه ويَتصَوَّرُ أنَّها تَدعُو إلى إلغَاءِ وُجُودِ المَوجُودَاتِ باعْتِبَارِها عَدماً وأنَّ الوُجُودَ هو لِلَّهِ فقط، أي كمَا هو الحَالُ في المَعنَى الأوَّلِ المُتقدِّمِ، وهو لَيسَ مُرَاداً لهم جَزماً.  

 المَعنَى الرَّابِعُ: هو فَنَاءُ المُمكِنِ في الوَاجِبِ، والمُرَادُ به: أنَّ الإنسَانَ مِن خِلَالِ عِبادَتِه وطَاعَتِه لِلَّهِ سُبحانَه يَتدرَّجُ في مَراتِبِ الكَمَالِ إلى أنْ يَصِلَ إلى مَرحَلةِ الفَنَاءِ في مَعبُودِه ولا يَرَى في هَذا الكَوْنِ شَيئاً سِوَاهُ، وهُو ما يُشِيرُ إليْه الحَدِيثُ القُدسِيُّ المَروِيُّ في كُتُبِ الفَرِيقَينِ: (ما زَالَ عَبدِي يَتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حتى أُحِبَّه، فإذا أحْبَبتُه كُنتُ سَمْعَه الَّذي يَسمَعُ به، وبَصَرَه الَّذي يُبصِرُ به، ويَدَه التي يَبطِشُ بها، وقَدمَه التي يَمشِي بها).

 وهَذا المَعنَى أيْضاً مَعنىً صَحِيحٌ، ولا مُشكِلةَ فيْه بالمَرَّةِ، وإذا قَالَ به العَارِفُ فهُو حَالةٌ وُجدَانيَّةٌ يَعِيشُها مع رَبِّه، ولا يَعنِي إلغَاءَ المَوجُودَاتِ وصَيرُورَتَها شَيئاً وَاحِداً.

     هذِهِ هي أبرَزُ المَعَانِي المُتصَوَّرةِ لـ (وَحدَةِ الوُجُودِ)، وما تَسمَعُونَه مِن لَغَطٍ هُنا وهُناكَ هي مُحاوَلَاتٌ بَائِسةٌ وَاقِعاً في إسقَاطِ المَعنَى الأوَّلِ البَاطِلِ المُتقدِّمِ على عُرفَاءِ الشِّيعَةِ بُغيَةَ تَكفِيرِهِم، أو بُغيَةَ ثَلْمِ المَذهَبِ مِن خِلَالِهم، وهُم بَراءٌ مِن هَذا المَعنَى تَماماً، ولا يَضِيرُ المُؤمِنُ شَيئاً أنْ يُنبِزَه الجَاهِلُ بما لَيسَ فيْه، فقَد نَبزَ الجَاهِليُّونَ الأوائِلُ رَسُولَ اللهِ (صلَّى اللهُ عليْه وآلِه وسلَّمَ) بالسِّحْرِ والجُنُونِ والكَهانَةِ وغَيرِ ذلكَ، مع أنَّه أشرَفُ مَن وَطأَتْ قَدمَاهُ الأرْضَ.

 ودُمتُم سَالِمينَ.