ما حقيقةُ عالمِ المثالِ أو حضرةِ الخيالِ عندَ العُرفاء؟ 

: اللجنة العلمية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته 

لابُدَّ منَ الإشارةِ إلى أنَّ مباني العرفاءِ والحكماءِ لا يمكنُ الوقوفُ عليها والإحاطةُ بها إلّا مِن خلالِ الدّروسِ المُطوّلةِ لِما فيها مِن تعقيدٍ وإختلافاتٍ دقيقةٍ، وعليهِ لا يمكنُ أن نوفي هذا السّؤالَ حقَّهُ من خلالِ إجابةٍ عابرةٍ، فمُجرّدُ شرحِ مباني العُرفاءِ بعيداً عن طرحِ الآراءِ المُخالفةِ لهُم يستوعبُ كتباً كاملةً، فمَن لهُ إهتمامٌ بهذهِ المباحثِ عليهِ طلبُ العلمِ على أهلِ الخبرةِ والإختصاصِ، ومِن هُنا سوفَ تكونُ الإجابةُ ببيانٍ عامٍّ يتناسبُ معَ المقام. 

على حسب مباني عرفاءِ الإشراقِ والحِكمةِ المُتعاليةِ إنَّ الإنسانَ قبلَ مرحلةِ الجسميّةِ المادّيّةِ كانَ في عالمِ التّجرّدِ والمثالِ، حيثُ تنزّلَ مِن مقامِ العقلِ إلى مقامِ المادّةِ، ومِن ثمَّ يبدأ رحلةَ التّجرّدِ الحيوانيّ والخياليّ حتّى الوصول إلى الفناءِ في ساحةِ الحقِّ الباقي، وفي كلِّ المراتبِ التي يطويها في هذا العروجِ يحملُ تبعاتِ أعمالِه مِن مرتبةٍ إلى مرتبةٍ أعلى.  

فالإنسانُ وفقاً لتلكَ المباني (جسمانيُّ الحدوثِ روحانيُّ البقاء)، حيثُ يبدأ في الدّنيا جسمانيّاً ليسَ فيهِ نحوٌ منَ التّجرّدِ، ومِن ثمَّ وفقاً لمبنى الحركةِ الجوهريّةِ يبدأ في التّجرّدِ مِن جديدٍ؛ وذلكَ عن طريقِ قوى النّفسِ المُجرّدةِ وهيَ قوىً باطنيّة مثل القوى الخياليّةِ والعقليّةِ والوهميّةِ، فقد ثبتَ عندَهم أنَّ كلَّ هذهِ القوى النّفسيّةِ مُجرّدةٌ؛ وذلكَ لكونِها جميعها مُتعلّقةٌ بحقائقَ مُجرّدةٍ، بمعنى أنَّ ما تُدركُه النّفسُ مِن حقائقَ هيَ في الواقعِ جوهرٌ مثاليٌّ مُجرّدٌ عن المادّةِ ليسَ فيها آثارُ المادّةِ منَ الطّولِ والعرضِ والشّكلِ واللّونِ وغيرِه منَ الرّواسبِ الحسّيّةِ، ولِذا نجدُ المُلّا صدرا يعتقدُ بأنَّ النّفسَ الباطنيّةَ لها عينٌ باصرةٌ وأذنٌ سامعةٌ وذوقٌ وشمٌّ ولمسٌ وقوّةٌ، فهيَ عندَه الأساسُ والأصلُ أمّا الحواسُّ الحسّيّةُ الظّاهريّةُ ليسَت إلّا ظِلالاً لتلكَ الحواسِّ الباطنيّةِ، حيثُ يقولُ: (ويرجعُ تخيُّلها إلى بصرِها الباطنيّ بل هذهِ القوى الظّاهرةُ كلّها ظِلالٌ لِما في جوهرِ النّفسِ منَ الجهاتِ والحيثيّاتِ الموجودةِ في ذاتِها بوجودٍ واحدٍ جمعيٍّ وقَد تفرّقَت وتكثّرَت وإمتدَّت ظلالُها في مادّةِ البدنِ وتشكّلَت بأشكالِ الأعضاءِ والأدواتِ فلها في ذاتِها عينٌ باصرةٌ وأذنٌ سامعةٌ وذوقٌ وشمٌّ ولمسٌ وقوّةٌ فعليّةٌ مِن شأنِها تصويرُ الحقائقِ على الوجهِ الحضوريّ المُشاهدِ لها على طبقِ ما يتصوّرُه الآن في هذا العالمِ فإنَّ المعرفةَ والتّصوّرَ هاهُنا بذرُ المشاهدةِ في العُقبى والتّفاوت بينَ التّصوّرِ هاهُنا والمشاهدةِ هناكَ يرجعُ إلى القوّةِ والضّعفِ فما كُلُّ ما يتمنّى المرءُ يدركُه فإن كانَت تأمّلاتُ الرّجلِ وتصوّراتُه في هذا العالمِ مِن بابِ الخيراتِ والحسناتِ والنّيّات الصّالحة صارَت مادّةً لجنّاتٍ ورضوانٍ وروحٍ وريحاٍن وملائكةٍ يُسرُّ بمُنادمتِها في الدّنيا ويرتاحُ برؤيتِها ومعاشرتِها في أُخراهُ وإن كانَت منَ الشّرورِ والقبائحِ والنّيّاتِ الفاسدةِ والأمانيّ الكاذبةِ والمؤذياتِ الباطنةِ صارَت مادّةً لحيّاتٍ وعقاربَ ونيرانٍ في قبرِه ومالكٍ غضبان وشياطين يتضرّرُ بمنادمتِها في أولاهُ ويتأذّى برؤيتِها ومصاحبتِها في أخراهُ) (الأسفارُ العقليّةُ الأربعةُ صدرُ الدّينِ الشّيرازيّ، ج 5 ص 39) ومِن خلالِ هذا النّصِّ يتّضحُ لنا حقيقةُ الخيالِ وعالمُ المثالِ عندَ العرفاءِ، فهوَ جوهرُ الإنسانِ وأساسُه والطّريقُ إلى كمالِه وعروجِه مِن عالمِ المادّةِ إلى عالمِ المعاني والحقائقِ المُجرّدةِ، فكلُّ ما هوَ موجودٌ في عالمِ المادّةِ ليسَ إلّا ظِلالاً لعالمِ المثالِ، ووظيفةُ الإنسانِ في الدّنيا ضمنَ التّصوّرِ العرفانيّ هوَ التّخلّصُ مِن براثنِ المادّةِ والعروجِ مرّةً أخرى إلى عالمِ المثالِ إلى الوصولِ إلى درجةِ الفناءِ في اللهِ تعالى، فعندَهم ليسَ هناكَ حقٌّ غيرُ اللهِ تعالى وما دونَه كلَّه باطلٌ، وقد أصّلَ صدرُ الدّينِ الشّيرازيّ للعرفانِ السّلوكي بالبراهينِ العقليّةِ في ما يُسمّى بالعرفانِ النّظريّ، حيثُ أثبتَ في فلسفتِه أصالةَ الوجودِ وإعتباريّةَ الماهيّةِ، والوجودُ عندَه حقيقةٌ بسيطةٌ ومقولة مُشكّكةٌ، فواجبُ الوجودِ عندَه كلُّ الأشياءِ وليسَ شيئاً منها، أي أنّه واحدٌ في عينِ كونِه كثيراً، وكثيرٌ في عينِ كونِه واحداً، وهذا الوجودُ لهُ حركةٌ جوهريّةٌ، أي أنَّ الحركةَ عندَه تقعُ في الجوهرِ وليسَ في الأعراضِ، فالوجودُ بجوهرِه في حركةٍ دائمةٍ نحوَ المبدأ، والإنسانُ بقواهُ الباطنيّة المُجرّدةِ هوَ الذي يُوجدُ لنفسِه جنّتَه أو نارَه، فبحسبِ تخيّلاتِه وتأمّلاتِه في الدّنيا يكونُ مصيرُه في الآخرةِ أي أنَّ النّفسَ تصنعُ لنفسِها صوراً تتعذّبُ بها فتلكَ هيَ نارُها أو تخلقُ لنفسِها صوراً تتنعّمُ بها

فتلكَ هيَ جنّتُها ولا وجودَ لجنّةٍ ونارٍ حسّيّانِ وإنّما الجنّةُ والنّارُ حقائقُ مُجرّدةٌ أيضاً، حيثُ يقولُ الشّيرازيّ في النّصِّ الذي نقلناهُ (فكلُّ ما يتمنّى المرءُ يدركُه فإن كانَت تأمّلاتُ الرّجلِ وتصوّراتُه في هذا العالمِ مِن بابِ الخيراتِ والحسناتِ والنّيّاتِ الصّالحةِ صارَت مادّةً لجنّاتٍ ورضوانٍ وروحٍ وريحانٍ وملائكةٍ يُسرُّ بمنادمتِها في الدّنيا ويرتاحُ برؤيتِها ومعاشرتِها في أخراهُ وإن كانَت منَ الشّرورِ والقبائحِ والنّيّاتِ الفاسدةِ والأمانيّ الكاذبةِ والمؤذياتِ الباطنةِ صارَت مادّةً لحيّاتٍ وعقاربَ ونيرانٍ في قبرِه ومالكٍ غضبان وشياطينَ يتضرّرُ بمنادمتِها في أولاهُ ويتأذّى برؤيتِها ومصاحبتِها في أخراه).