هل هناكَ موقفٌ قرآنيٌّ أو في السنّةِ الشريفةِ تجاهَ السلوكِ العرفاني؟ بمعنى هل الشرعُ مؤيّدٌ أو مُعارضٌ وما هيَ هذهِ النصوصُ المؤيّدةُ أو المُعارضة؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
ليس هناكَ وجودٌ لمُصطلحِ العرفانِ في الكتابِ والسنّةِ، وبالتالي لا يمكنُ البحثُ بشكلٍ مُباشرٍ في النصوصِ لمعرفةِ موقفِها منَ العرفان، والطريقُ الوحيدُ لمعرفةِ ذلكَ هوَ دراسةُ مقولاتِ العرفانِ ومُرتكزاتِه ومِن ثمَّ مُقارنتها بما جاءَ في القرآنِ والسنّة، ومنَ الطبيعيّ حينَها أن تتباينَ وجهاتُ النظر بينَ المؤيّدِ والمُعارض، فبينَما يعتبرُه المؤيّدونَ فهماً أصيلاً للإسلامِ ودرجةً عاليةً مِن إدراكِ الحقيقةِ الإسلاميّة، يعتبرُه البعضُ الآخرُ فهماً مشوّهاً ومُنحرِفاً عن الإسلامِ، وما زالَ هذا التباينُ مُعلّقاً بينَ المؤيّدينَ والمُعارضينَ دونَ الوصولِ إلى رؤيةٍ مُشتركةٍ، ومنَ الصعبِ جدّاً في هذا المقامِ إيرادُ ما دارَ بينَ الفريقينِ مِن نقاشاتٍ، فقد تضمّنَت عشراتِ الكتبِ والبحوثِ المُعقّدةِ ووجهاتِ النظرِ المُختلفةِ للفريقين، ومنَ المُستحيلِ الإحاطةُ بها في هذا المقامِ، وعليهِ سوفَ نختصرُ الإجابةَ على بيانِ الخطوطِ العامّةِ للعرفان.
يُعدُّ العرفانُ منَ الطرقِ القلبيّةِ والوجدانيّةِ لإدراكِ الحقيقةِ، ويعبّرُ عَن ذلكَ بالكشفِ والشهود، وهوَ نوعٌ منَ الوقوفِ المُباشرِ على الحقائقِ بعيداً عَن مُقاربتِها نظريّاً ومفاهيميّاً، والطريقُ لتحقيقِ ذلكَ يعبّرُ عنهُ بالسيرِ والسلوك، ويقصدُ بهِ رياضاتٌ روحيّةٌ تُمكّنُ العارفَ منَ التخلّصِ مِمّا يربطهُ بالحياةِ الدّنيا فلا يكونُ مشغولاً إلّا بمعرفةِ اللهِ تعالى، ولذلكَ أولى العرفانُ النفسَ اهتماماً خاصّاً بوصفِها عقبةً أمامَ معرفةِ الحقائقِ، فأوصى بتزكيةِ النفسِ وتهذيبِها كمُقدّمةٍ ضروريّةٍ للمعرفة، إلّا أنّهُ في المقابلِ أهملَ العقلَ ولم يولهِ الاهتمامَ الكافي، فحصرَ المعرفةَ الإسلاميّةَ في الجانبِ الوجداني وما ينكشفُ للرّوح، وقد اعتبرَ البعضُ أنَّ ذلكَ إخراجٌ للمعرفةِ الإسلاميّةِ مِن كونِها معرفةً بمقياسِ العقلِ، حيثُ يتحوّلُ الإسلامُ معها إلى تجربةٍ شعوريّةٍ خاصّةٍ لا تمتلكُ معاييرَ موضوعيّةً ولا تمتلكُ القدرةَ على التعميمِ، ولتفادي هذهِ الإشكاليّةِ تكوّنَ العرفانُ النظريُّ الذي يقدّمُ مُقارباتٍ عقليّةً لنتائجِ الكشفِ العرفاني، إلّا أنَّ ذلكَ لا يعدو كونَه تبريراً عقليّاً لمعرفةٍ لا تعترفُ بالعقل، وبالتالي مقاربةُ العرفانِ نظريّاً هو هدمٌ لحقيقةِ العرفانِ نفسِها؛ لأنَّ العرفانَ تجربةٌ شعوريّةٌ وإحساسٌ داخليٌّ بالحقيقةِ، وأيُّ محاولةٍ لإخراجِها مِن هذا المُحيطِ هوَ الحكمُ عليها بالإعدام.
ومنَ المؤكّدِ أنَّ العرفانَ بوصفِه طريقةً تستهدفُ اندماجَ العارفِ معَ الحقيقةِ المُطلقة، لم يكُن خاصّاً بالمُسلمينَ أو حتّى بأصحابِ الدياناتِ السماويّة، وإنّما هوَ إرثٌ بشريٌّ له الكثيرُ منَ الأمثلةِ في الحضاراتِ البشريّةِ المُختلفةِ، مثلَ الحضارةِ اليونانيّةِ والهنديّةِ والإيرانيّةِ مُضافاً لمرحلةِ الإسكندريّةِ التي دمجَت بينَ الثقافةِ الشرقيّةِ والغربيّةِ فيما يعرفُ بالأفلاطونيّةِ المُحدثة، وقد تميّزَ العرفانُ الإسلاميُّ باستثمارِه للعلومِ والمعارفِ الإسلاميّةِ ومحاولةِ صياغتِها بما يتّفقُ معَ المنهجِ العرفاني، وقد نشأ التصوّفُ في الوسطِ الإسلاميّ كخيارٍ عرفانيٍّ يعبّرُ عَن تلكَ المحاولة، ومعَ وجودِ تباينٍ بينَ المدارسِ العرفانيّةِ إلّا أنّها قد تلتقي جميعاً في الاعتقادِ بوحدةِ الوجودِ حتّى وإن كانَت ضمنَ سياقاتٍ ومقارباتٍ مُختلفة، حيثُ يقومُ العرفانُ أساساً على نفي الإثنينيّةِ والإيمانِ بالحقيقةِ الواحدة، وقد قدّمَ العرفانُ النظريُّ مقارباتٍ مُتعدّدةً لتصويرِ كيفَ تكونُ الحقيقةُ واحدةً مع وجودِ هذهِ الكثرة، وبعيداً عن هذهِ المُقارباتِ فالنتيجةُ هيَ أنَّ العارفَ في تكاملِه المعنوي يقصدُ الفناءَ في اللهِ تعالى، وقد عُبّرَ عَن ذلكَ في العرفانِ الإسلاميّ بقوسِ الصّعود، حيثُ يعودُ العارفُ ضمنَ مراحلَ ودرجاتٍ عرفانيّةٍ إلى مصدرِ الوجودِ، والعرفانُ في هذهِ المرحلةِ يعدُّ خياراً عمليّاً وسلوكيّاً، أي أنَّ العارفَ وضمنَ رياضاتٍ روحيّةٍ وعبرَ وسيطٍ روحيٍّ يجتازُ هذهِ المراحلَ ليعودَ إلى مصدرِ الوجود، أمّا مرحلةُ الخلقِ والإيجادِ فيُعبّرُ عنها بقوسِ النزولِ حيثُ فيه يتنزّلُ الخالقُ أو يتجلّى في خلقِه، وعليهِ فإنَّ نظامَ الوجودِ في التصوّرِ العرفانيّ يشبهُ الدائرةَ التي تنقسمُ إلى نِصفين، يمثّلُ النصفُ الأوّلُ قوسَ النزولِ والنصفُ الثاني قوسَ الصّعود، والعرفانُ في مرحلةِ قوسِ النزولِ يعدُّ بحثاً أنطولوجيّاً يتكفّلُ بهِ العرفانُ النظري، أمّا قوسُ الصعودِ فهوَ مِن اختصاصاتِ العرفانِ العمليّ والسلوكي، وفي المُحصّلةِ لا يستقيمُ أيُّ معنىً للعرفانِ إلّا بالإيمانِ بوحدةِ الحقيقةِ ونفي أيّ نوعٍ مِن أنواعِ الإثنينيّةِ في الوجود، وهذا ما جعلَ الفقهاءَ والمُحدّثينَ يتحفّظونَ كثيراً على العرفان.
وعليهِ فإنَّ الموقفَ العامَّ لمُعظمِ المُحدّثينَ والفقهاءِ هوَ الموقفُ السلبيُّ منَ العرفانِ الذي يبتعدُ عن ظاهرِ النّصوصِ، حيثُ يعتقدونَ أنَّ استنادَ العرفانِ على الكتابِ والسنّةِ ليسَ إلّا خداعاً للعامّة، فالعرفانُ كرؤيةٍ معرفيّةٍ أو كسلوكٍ عمليٍّ يمثّلُ رؤيةً مُختلفةً عمّا هوَ ظاهرٌ في النصوصِ الدينيّة، فمثلاً التوحيدُ ومعرفةُ اللهِ عندَ العرفاءِ مختلفةٌ تماماً عمّا هوَ موجودٌ في النصِّ الديني، ولا يمكنُ أن يحدثَ أيُّ نوعٍ منَ الانسجامِ بينَهما إلّا مِن خلالِ تأويلِ النصوصِ وصرفِها عن دلالاتِها الظاهريّة، وهذا ما لا يقبلهُ لا الفقهاءُ ولا عامّةُ المُسلمين، فقد أكّدَت النصوصُ الدينيّةُ على البينونةِ الحقيقيّةِ بينَ الخالقِ والمَخلوق، وأنَّ الخلقَ لم يكُن حالةَ فيضٍ أو صدورٍ أو تنزّلٍ للخالقِ في مرحلةِ المخلوقِ، وإنّما هوَ خلقٌ وابتداعٌ مُباينٌ للهِ بينونةً حقيقيّةً مفهوماً ومصداقاً، والإنسانُ في تكاملِه لا يندكُّ في الخالقِ ولا يفنى فيهِ بأيّ معنىً مِن معاني الفناءِ والوحدة، وبذلكَ يغلقُ الإسلامُ البابَ أمامَ أيّ شطحةٍ مِن شطحاتِ المتصوّفةِ التي ادّعوا فيها منازلَ ومقاماتٍ تقشعرُّ منها الأبدان.
وأمّا العرفانُ بالمعنى المقبولِ هوَ العملُ وفقَ هُدى اللهِ في التشريعِ والالتزامِ بأحكامِ الكتابِ والسنّة، والاكتفاءِ بفهمِ ظواهرِ النصوصِ بعيداً عن التأويلاتِ الباطنيّةِ والاعتمادِ على الرّموزِ والإشاراتِ المُخالفةِ للفهمِ العُرفيّ للنصِّ، وكذلكَ التقرّبُ إلى اللهِ على طريقةِ الأئمّةِ مِن أهلِ البيتِ (عليهم السّلام) ومناجاةُ اللهِ بما جاءَ عنهُم مِن أدعيةٍ، مُضافاً إلى تهذيبِ النفسِ وتربيتِها بالزهدِ في الدّنيا والابتعادِ عَن مُنزلقاتِها وشُبهاتِها.
وفي الختامِ هناكَ بعضُ الرواياتِ التي حذّرَت منَ التصوّفِ، ولا يمكنُ حملُها على مُطلقِ العرفانِ الإسلامي ّولذا لا تكونُ حُجّةً قاطعةً في المقامِ ولذلكَ أخّرنا ذِكرَها.
عن الإمامِ الصّادقِ (عليهّ السّلام) عندَما سُئلَ عن التصوِّف: (إنّهم أعداؤنا، فمَن مالَ إليهم فهوَ مِنهُم ويُحشرُ معَهم، وسيكونُ أقوامٌ، يدّعونَ حبَّنا ويميلونَ إليهم ويتشبّهونَ بهم، ويلقّبونَ أنفسَهم بلقبِهم، ويقولونَ أقوالَهم، ألا فمَن مالَ إليهم فليسَ منّا، وإنّا منهُ براء، ومَن أنكرَهم وردَّ عليهم، كانَ كمَن جاهدَ الكفّارَ بينَ يدي رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله) (سفينةُ البحارِ للمُحدّثِ القمّي ج2 ص57)
وعن الإمامِ العسكريّ (عليهِ السّلام) لأبي هشامٍ الجعفري: (يا أبا هشام! سيأتي زمانٌ على الناسِ.. علماؤهم شرارُ خلقِ اللهِ على وجهِ الأرض، لأنّهم يميلونَ إلى الفلسفةِ والتصوّفِ، وأيمُ الله: إنّهم مِن أهلِ العدوانِ والتحرّف، يبالغونَ في حبِّ مُخالفينا، ويضلّونَ شيعتَنا وموالينا، فإن نالوا منصباً لم يشبعوا، وإن خذلوا عبدوا اللهَ على الرّياء، ألا إنّهم قُطّاعُ طريقِ المؤمنينَ والدّعاةُ إلى نحلةِ المُلحدين، فمَن أدركَهم فليحذَرهم وليضمَن دينَه وإيمانَه منهم) (سفينةُ البحار ج2 ص58)
اترك تعليق