ما هيَ أدلّةُ الشيعةِ على أنَّ أبا طالبٍ مُسلم؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
للإجابةِ على هذا السؤالِ صنّفَ علماءُ الشيعةِ الكثيرَ منَ الكتبِ التي أثبتوا فيها إيمانَ أبي طالبٍ بما لا يدعُ مجالاً للشكِّ، فمنَ الكُتبِ القديمةِ كتابُ الشيخِ المُفيد (إيمانُ أبي طالب) وكتابُ (الحُجّةِ على الذاهبِ إلى تكفيرِ أبي طالب)، للسيّدِ فخارٍ بنِ معد، ومِن كُتبِ المُتأخّرينَ كتابُ (مُنيةِ الطالبِ في إيمانِ أبي طالب) للسيّدِ حُسين الطباطبائي اليزدي الحائري، وكتابُ (بُغيةِ الطالبِ في إيمانِ أبي طالب) للسيّدِ محمّد عبّاس التستري الهندي، أمّا كتبُ المُعاصرينَ فمِنها كتابُ، (إيمانِ أبي طالب حامي النبيّ ومعاضدِه في الشدّةِ والرّخاء) للشيخِ جعفرٍ السبحاني، وكتابُ (أبو طالبٍ عليهِ السّلام ثالثُ مَن أسلم) للسيّدِ نبيلٍ الحسني، وكتابُ (أبو طالبٍ مؤمنُ قريش)، للشيخِ عبدِ اللهِ الخنيزي.
وقد أجمعَ الشيعةُ على إيمانِ أبي طالبٍ تبعاً لأئمّتِهم المعصومينَ مِن أهلِ البيتِ (عليهم السّلام)، حيثُ يقولُ الشيخُ الطوسي في ذلكَ: (إنّ أبا طالبٍ كانَ مُسلماً وعليهِ إجماعُ الإماميّة، لا يختلفونَ فيه، ولهُم على ذلكَ أدلّةٌ قاطعةٌ موجبةٌ للعلمِ) (التبيانُ، ج 8، ص 164) ولم يخالفهُم في ذلكَ إلّا بعضُ أهلِ السنّةِ تمسّكاً ببعضِ الرواياتِ التي جاءَ فيها أنّهُ لم يقبَل شهادةَ الإسلامِ عندَ وفاتِه، فلولا وجودُ تلكَ الرواياتِ لما شكَّ مُسلمٌ في إيمانِ أبي طالب، لِما ثبتَ عنهُ مِن مواقفَ وأقوالٍ تدلُّ على صدقِ إيمانِه وإخلاصِه لرسالةِ الإسلام، والتمسّكِ بمثلِ هذهِ الرّواياتِ معَ إهمالِ سيرتِه العمليّةِ معَ الرسولِ، وما قالَه الرسولُ في حقّه، وما قالَه هوَ عن الإسلامِ، يدلُّ على إجحافٍ وعدمِ إنصافٍ للرّجل، فنجدُ مثلاً ابنَ أبي الحديدِ يتوقّفُ في إسلامِ أبي طالبٍ ولكنّه يقولُ: (إنّي: لم أستجِز أن أقعدَ عن تعظيمِ أبي طالبٍ فإنّي أعلمُ أنّه لولاهُ لما قامَت للإسلامِ دعامةٌ وأعلمُ أنّ حقَّه واجبٌ على كلِّ مسلمٍ في الدّنيا إلى أن تقومَ السّاعة. وقالوا: أنّه رويَ بأسانيدَ كثيرةٍ بعضُها عن ابنِ عبّاسٍ وغيرُه أنّ أبا طالبٍ ما ماتَ حتّى قالَ: لا إلهَ إلّا الله محمّدٌ رسولُ الله) (شرحُ النهجِ ج 14، ص 71)
ويبدو أنَّ الدّافعَ لورودِ الرواياتِ المُشكّكةِ في إسلامِ أبي طالبٍ هوَ الانتقاصُ من الإمامِ عليٍّ (عليهِ السّلام) بسببِ الصراعِ الذي كانَ بينَه وبينَ الحزبِ الأموي، فعندَما لم يجدوا طريقاً للقدحِ في الإمامِ استهدفوا والدَه أبا طالبٍ، والشواهدُ التاريخيّةُ والروائيّةُ كثيرةٌ التي تؤكّدُ استخدامَ الرواياتِ الموضوعةِ لضربِ الخصوم.
وقد تصدّى الأئمّةُ مِن أهلِ البيتِ (عليهم السّلام) لتحريفاتِ بني أميّة، وقد تبنّوا بأنفسِهم الدفاعَ عن أبي طالبٍ في وجهِ مَن يحاولُ التشكيكَ في إسلامِه، وإذا رجعنا لتلكَ الرواياتِ لوجدنا أنّها لا تخبرُ فقط عن إيمانِ أبي طالبٍ وإنّما تستهدفُ الردَّ على الخصومِ وتفنيدِ أقوالِهم، ومِن ذلكَ قولُ الإمامِ زينِ العابدين (عليهِ السّلام): (واعجباً إنَّ اللهَ تعالى نهى رسوله أن يُقرَّ مسلمةً على نكاحِ كافرٍ وقد كانَت فاطمةُ بنتُ أسد منَ السابقاتِ إلى الإسلامِ ولم تزَل تحتَ أبي طالبٍ حتّى مات) (البحارُ، ج35، ص 157) وتكفي هذهِ الحُجّةُ في ضربِ هذهِ الشبهةِ وتفنيدِها منَ الأساسِ، فلو لم يكُن أبو طالبٍ على دينِ الإسلامِ لما تركَ رسولُ اللهِ فاطمةَ بنتَ أسدٍ في بيتِه وهيَ مُسلمةٌ.
وقد بيّنَت بعضُ الرواياتِ الحِكمةَ مِن إخفاءِ أبي طالبٍ لإسلامه، فالإعلانُ والمُجاهرةُ يُفقدانِ أبا طالبٍ دورَه في حمايةِ الرّسولِ وبقيّةِ المُسلمينَ مِن سطوةِ قُريش، وقد أشارَ ابنُ أبي الحديدِ لهذا الأمرِ بقولِه: (وقالوا: إنّما لم يُظهِر أبو طالبٍ الإسلامَ ويجاهر بهِ لأنّهُ لو أظهرَه لم يتهيّأ لهُ مِن نُصرةِ النبيّ ما تهيّأ له وكانَ كواحدٍ منَ المُسلمينَ الذينَ اتبعوه) (شرحُ النهجِ ج 14، ص83).
وقد أكّدَ الإمامُ الصّادقُ (عليهِ السّلام) ذلكَ بقولِه: (إنَّ مثلَ أبي طالبٍ مثلَ أصحابِ الكهفِ أسرّوا الإيمانَ وأظهروا الشركَ فآتاهُم اللهُ أجرَهم مرّتين) (الكافي ج1، ص 448)، وعن الإمامِ الحسنِ العسكري (عليهِ السّلام) قالَ: (إنّ اللهَ تباركَ وتعالى أوحى إلى رسولِه صلّی اللهُ عليهِ وآله وسلّم إنّي قد أيّدّتُك بشيعتين: شيعةٌ تنصرُكَ سرّاً، وشيعةٌ تنصرُكَ علانيةً فأمّا التي تنصرُكَ سرّاً فسيّدِهم وأفضلهم عمُّك أبو طالب، وأمّا التي تنصرُكَ علانيةً فسيّدُهم وأفضلهم ابنُه عليٌّ بنُ أبي طالبٍ عليهِ السّلام. ثمَّ قالَ: وإنّ أبا طالبٍ كمؤمنِ آلِ فرعونَ يكتمُ إيمانَه)، وتكشفُ هذهِ الرّواياتُ عن الدورِ المنوطِ بأبي طالبٍ والذي كانَ يقتضي التستّرَ والكتمان.
وقد تحدّثَت رواياتٌ أخرى عن درجتِه العاليةِ ومكانتِه الرفيعةِ، فعَن رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) قالَ: (يُحشَرُ أبو طالبٍ عليهِ السّلام يومَ القيامةِ
في زيّ الملوكِ وسيما الأنبياء) (ابنُ بابويه القمّي الإمامةُ والتبصرة، ص 34). وعن الإمامِ الصّادقِ (عليهِ السّلام) قالَ: (يا يونسُ كذبَ أعداءُ اللهِ، إنّ أبا طالبٍ مِن رُفقاءِ النبيّينَ والصدّيقينَ والشهداءِ والصالحينَ وحسُنَ أولئكَ رفيقاً) (كنزُ الفوائدِ ص 80)، وعن الإمامِ الباقر (عليهِ السّلام) قالَ: (لو وُضعَ إيمانُ أبي طالبٍ في كفّةِ ميزانٍ وإيمانُ هذا الخلقِ في الكفّةِ الأخرى لرجحَ إيمانُه) (الغديرُ، ج 7، ص 380).
أمّا ما يثبتُ إسلامَه مِن مواقفِه وأقوالهِ فهناكَ الكثيرُ ممّا رواهُ عامّةُ المُسلمينَ، فقد أجمعَت الأمّةُ على دورِه في تثبيتِ دعوةِ النبيّ مِن خلالِ دعمِه وحفظِه وحمايتِه مِن قُريش، وقد تحمّلَ في ذلكَ الكثيرَ منَ العناءِ والمشقّة، وبقيَ مُلازِماً لهُ إلى آخرِ لحظاتِ حياتِه، ثمَّ أوصى مِن بعدِه بني هاشم بالإيمانِ بهِ وتصديقِه والدفاعِ عنه، ومِن أجلِ ذلكَ عملوا عَن نُصرتِه وصبروا معَه على الحصارِ في الشعبِ، وقد روى أهلُ السنّةِ كما جاءَ في السيرةِ الحلبيّة، وأسدِ الغابةِ لابنِ الأثير، أنَّ أبا طالبٍ قالَ لعليٍّ (عليهِ السّلام) يا بنيّ الزَمه فإنّه لن يدعوكَ إلّا إلى خيرٍ، وقالَ لابنِه جعفرٍ: صِلْ جناحَ ابن عمّكَ فأسلم، وبدعائِه وإقبالِه على محمّدٍ صلّی اللهُ عليهِ وآله وسلّم أسلمَت امرأتُه فاطمةُ بنتُ أسد. (السيرةُ الحلبيّة، ج 1، ص 433. ابنُ الأثيرِ، أسدُ الغابة، ج 1، ص 287)
وقد كانَ العربُ يُعبّرونَ عَن مواقفِهم وآرائِهم عبرَ الشعرِ، وقد حفلَت أشعارُ أبي طالبٍ بما يدلّلُ على إيمانِه وإسلامِه، وقد رويَ عنهُ أكثرُ مِن ألفِ بيتٍ في الشعرِ جُمعَت في ديوانِ أبي طالبٍ، وقد صرّحَ ابنُ أبي الحديدِ بتواترِ هذهِ الأشعارِ عنهُ حيثُ قالَ: (فكلُّ هذهِ الأشعارِ قد جاءَت مجيءَ التواترِ؛ لأنَّه إن لم تكُن آحادُها متواترةً فمجموعُها يدلُّ على أمرٍ واحدٍ مُشتركٍ وهوَ تصديقُ محمّدٍ، ومجموعُها متواترٌ) (شرحُ النهجِ ج 14، ص 78).
وجاءَ في بعضِها:
يا شاهدَ اللهِ عليَّ فاشهَـــــــــد أنّي على دينِ النبيّ أحمد
وفي بعضِها الآخرِ قوله:
إِنَّ ابنَ آمنةَ النبيّ محمّداً عندي فــوقَ منــــــــــــــازلِ الأولاد
وقالَ أيضاً:
نصرتُ الرّسولَ رسولَ المليكِ ببيضٍ تلألا كلمعِ البروقِ
أذبُّ وأحمي رســـــــــــــــــولَ الإلهِ حمايةَ حامٍ عليهِ شفيــق
وقد أوردَ العلّامةُ الأمينيُّ في الغديرِ الكثيرَ مِن هذهِ الأشعارِ ثمَّ يقول: (أنا لا أدري كيفَ تكونُ الشهادةُ والاعترافُ بالنبوّةِ إن لم يكُن منها هذهِ الأساليبُ المتنوّعةُ المذكورةُ في هذهِ الأشعارِ؟ ولو وجدَ واحدٌ منها في شعرِ أيّ أحدٍ أو نثرِه لأصفقَ الكلُّ على إسلامِه، لكنَّ جميعَها لا يدلُّ على إسلامِ أبي طالب. فأعجب واعتبر!) (الغديرُ ج 7، ص 341)
اترك تعليق