الخلط والتخبط العجيب عند السلفية في مبحث الأسماء والصفات.

:

من الأمور التي يخلط فيها السلفية - والوهابيون بالذات -  مبحث الأسماء والصفات ، والمراد بمبحث الأسماء والصفات هو البحث الذي يتناول الأسماء والصفات التي ورد ذكرها  في القرآن الكريم  والسنّة الشريفة في حقّ الله سبحانه وتعالى ، نحو : (  يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ  ) الفتح :10، و ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) طه : 5  ، وغيرهما ، والتي يصرح فيها الوهابيون بأنها تُحْمَلُ على ظاهرها الحقيقي ، فاليد في الآية الكريمة  هي بمعناها الظاهري الحقيقي من غير تأويلٍ ولا كيفية ، بمعنى أنّ له سبحانه يداً  لا كأيدينا ، وهكذا معنى الاستواء وغيره .. ومن الواضح جدا أن حمل هذه المسميات على ظاهرها الحقيقي يلزم منه التجسيم ، فاليد بمعناها الظاهري الحقيقي هي هذه اليد  التي لها حدٌّ معينٌ وشكلٌ معينٌ ، والحدّ والشكل يفيدان الجسمية .

 وحتى نفي الكيفية الذي قالوا به لم يخلّصْهُم من طائلة التجسيم ، فهم يريدون  به نفي المماثلة لا أكثر، بمعنى أن كيفية اليد الإلهية لا تماثل كيفية اليد البشرية ، فإذا كانت كيفية اليد البشرية مثلا بأنّ لها عظاما ولحما وأعصابا وتتصل بالعضد والكتف ، فاليد الإلهية شيء آخر ليست بهذه الكيفية ، ولا يراد  به  نفي الكيفية مطلقا ؛ لأنّه خلف التمييز بين المفاهيم ، فإنّ تعدد المفاهيم ( من يدٍ ووجهٍ وعينٍ وساقٍ ونحوها ) يوجب التمييز بينها ، والتمييز يوجب وجود الحدود بين مفهوم  وآخر حتى يتميز عنه، وإلا كان الجميع شيئا واحدا ، ووجود الحدود  يعني  التجسيم  بالنتيجة . 

يقول ابن باز ( من كبار علماء  السلفية المعاصرين ومفتي السعودية )  في فتاويه : 

(( الرسول (صلى الله عليه وسلم ) فسر (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ) بأن المراد يوم يجئ الرب يوم القيامة ويكشف لعباده المؤمنين عن ساقه - وهي العلامة بينه وبينهم سبحانه وتعالى - فإذا كشف عن ساقه عرفوه وتبعوه ، وهذه من الصفات التي تليق بجلال الله وعظمته لا يشابهه فيها أحدٌ جلَّ وعلا ! وهكذا سائر الصفات كالوجه واليدين والقدم والعين وغير ذلك من الصفات الثابتة بالنصوص ، ومن ذلك الغضب والمحبة والكراهة وسائر ما وصف به نفسه سبحانه في الكتاب العزيز وفيما أخبر به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كلها وصف شاهق وكلها تليق بالله جل وعلا ! أما التأويل للصفات وصرفها عن ظاهرها فهو مذهب أهل البدع من الجهمية والمعتزلة ومن سار في ركبهم ، وهو مذهب باطل أنكره أهل السنة والجماعة وتبرؤوا منه وحذروا من أهله )). انتهى [ مجموع فتاوى ابن باز 4: 130]

     لقد كذب ابن باز على أهل السنة والجماعة هنا ، فأهل السنة والجماعة يوجد عندهم في مبحث الأسماء والصفات مذهبان لا غير وليس منهما الحمل على الظاهر الحقيقي ، كما يبين ذلك النووي في شرحه على مسلم  عند  تعرضه لشرح حديث ((الله يجعل السموات على إصبع ، والأرضين على إصبع..)) الوارد في صحيح مسلم ، حيث قال : ((هذا الحديث من أحاديث الصفات وقد سبق فيها المذهبان: التأويل، والإمساك عنه مع الإيمان بها مع اعتقاد أنَّ الظاهر منها غير مراد، فعلى قول المتأوّلين يتأوّلون الأصابع هنا على الاقتدار، أي خلقها مع عظمها بلا تعب ولا ملل، والناس يذكرون الأصبع في مثل هذا للمبالغة والاحتقار فيقول أحدهم بإصبعي أقتل زيداً، أي لا كلفة عليَّ في قتله. وقيل:إنَّ المراد أصابع بعض مخلوقاته، وهذا غير ممتنع، والمقصود أنّ يد الجارحة مستحيلة)). انتهى [ صحيح مسلم بشرح النووي 17: 129

وعليه، يوجد عند أهل السنة والجماعة مذهبان في الأسماء والصفات : 

الأول: التأويل .

الثاني: الإمساك عنها مع الاعتقاد بأنّ ظاهرها غير مراد.

وما صرح به النوويُّ نفسه هنا صرّح الشهرستاني في كتابه  "الملل والنحل" ، حيث قال : (( اعلم أن جماعةً كثيرة من السلف كانوا يثبتون لله ‏تعالى‏ صفاتٍ أزليّة: من العلم، والقدرة، والحياة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، والجلال، والإكرام، والجود، والإنعام، والعزّة، والعظمة، ولا يفرّقون بين صفات الذات وصفات الفعل ( إلى أن يقول ) فافترقوا فيه فرقتين، فمنهم: من أوّله على‏ وجهٍ يحتمل اللفظ ذلك، ومنهم: من توقّف في التأويل وقال: عرفنا بمقتضى‏ العقل أن الله تعالى‏ ليس كمثله شي‏ء، فلا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شي‏ء منها، وقطعنا بذلك، إلّا أنّا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه)). انتهى  [ الملل والنحل 1: 84 ]

فأين مذهبك يا بن باز ( حمل الصفات على ظاهرها الحقيقي ) الذي ادّعيت أنّه يمثل عقيدة أهل السنة والجماعة ؟؟!!

وعلى كل حال ، نسأل هنا : ما الذي أوقع الوهابيين في هذا المحذور العظيم  - محذور التجسيم للذات الإلهية - وجعلهم يتخبطون  التخبط المذكور ؟!!

الجواب : الذي أوقع الوهابيين بهذا المحذور العظيم هو جهلهم بالصفات الإلهية ، فإنه توجد عندنا في موضوع الأسماء والصفات ثلاثة أنواعٍ من المفاهيم :

الأوّل: المفاهيم المختصة بالله تعالى نحو القديم، وواجب الوجود، وعالم الغيب ونحوها مما لا يوصف به غيره سبحانه أصالة ًوابتداءً.

والثاني: المفاهيم المختصة بالمخلوقات نحو الفقير والناقص والعاجز والمخلوق وأمثال ذلك من الأوصاف المختصة بالمخلوق ولا يوصف بها الخالق أبدا.

والثالث: المفاهيم المشتركة بين الخالق والمخلوق نحو الوجود والسميع والبصير وأمثال ذلك من الصفات والمفاهيم المشتركة بين الخالق والمخلوق.

وفي هذا القسم الثالث يصحّ القولُ أنَّ لله سبحانه سمعاً لا كأسماعنا، وبصراً لا كأبصارنا، ووجوداً لا كوجودنا حتى ننفي المثلية والتشبيه، ومثل هذه الصفات المشتركة لا يلزم منها التركيب والحدوث ، وهذا بخلافه في الصفات المختصة بالمخلوق كاليد والوجه مثلا ، ففي مثلها لا يصح القولُ أنَّ لله وجهاً لا كوجوهنا، أو له يداً لا كأيدينا ؛ لأنّ مثل هذه الأوصاف تفيد التركيب والحدوث،ومعه يستحيل أن يوصف بها المولى سبحانه حقيقة .. ومشكلة ابن تيمية وأتباعه تكمن هاهنا ، فهم يخلطون بين المفاهيم المختصة بالمخلوق والمفاهيم المشتركة، ويجعلونها كلّها في نسق واحد ، وهذا خطأ منهجي كبير منهم . 

يقول الشيخ ابن عثيمين في "مجموع فتاويه" : (( أليس للآدمي وجهٌ وللبعير وجهٌ؟ اتفقا في الاسم لكن لم يتفقا في الحقيقة ،إذن لماذا لا تقول لله وجه ولا يماثل أوجه المخلوقين ولله يد ولا تماثل أيدي المخلوقين))؟ انتهى  [ مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن صالح العثيمين 1: 177]

وهذا خلط واضح من ابن عثيمين بين الصفات المختصة بالمخلوقين والصفات المشتركة بين الخالق والمخلوق حين جعل القسمين في نسق واحد ، هذه الحالة من الخلط  انتبه لها علماء أهل السنة أنفسهم في سالف الزمان في كلمات أصحاب المنهج المذكور ونبهوا القائلين به على خطأهم !!

يقول النووي في شرحه على مسلم : (( قال المازري وقد غلط بن قتيبة في هذا الحديث [ أي حديث : خلق الله آدم على صورته ] فأجراه على ظاهره وقال لله تعالى صورة لا كالصور وهذا الذي قاله ظاهر الفساد لأنّ الصورة تفيد التركيب وكلّ مركب محدث والله تعالى ليس بمحدث فليس هو مركبا فليس مصورا .

قال وهذا كقول المجسّمة جسم لا كالأجسام لما رأوا أهل السنة يقولون الباري سبحانه وتعالى شيءٌ لا كالأشياء، طردوا الاستعمال فقالوا جسم لا كالأجسام والفرق أن لفظ شيء لا يفيد الحدوث ولا يتضمن ما يقتضيه، وأما جسم وصورة فيتضمنان التأليف والتركيب وذلك دليل الحدوث)).انتهى  [ شرح النووي على مسلم 16 : 166]

وعليه، فالقاعدة المتبعة في مبحث الأسماء والصفات عند علماء الشيعة والسنة معا - عدا أتباع المنهج التيمي - هي : أنّ كلّ ما يفيد الحدوث والتركيب كألفاظ الجسم والوجه واليد والساق والصورة ونحوها فليست من صفاته المختصة به سبحانه ولا من صفاته المشتركة ،بل هي من الصفات المختصة بالمخلوق فقط ولا ينبغي حملها على ظاهرها الحقيقي في حقّه سبحانه حتى لو وردت في الآيات والروايات؛ وذلك لما تفيده من معنى التركيب والحدوث المنافي لإلوهيته سبحانه، و ينبغي تأويلها أو السكوت عنها  والتصريح بأنّ ظاهرها الحقيقي غير مراد . 

وهذا المعنى كان قد قرره بوضوحٍ كبيرٍ عالمُ الأزهر الشيخ محمد أبو زهرة  فقال في كتابه"ابن تيمية حياته وعصره":((وننتهي من هذا إلى أنّ ابن تيمية يرى الألفاظ في اليد والنزول والقدم والوجه والاستواء على ظاهرها ولكن بمعانٍ تليق بذاته الكريمة،وهنا نقف وقفة: أن هذه الألفاظ وُضِعَتْ في أصل معناها لهذه المعاني الحسية ولا تطلق على وجه الحقيقة على سواها ،وإذا أطلقت هذه الألفاظ على غيرها سواء أكان معلوماً أم مجهولاً فإنها قد استعملت في غير معناها ولا تكون بحالٍ من الأحوال مستعملةً في ظواهرها بل تكون مؤولةً وعلى ذلك يكون ابن تيمية قد فرّ من التأويل ليقع في تأويلٍ آخرَ، وفرَّ من التفسير المجازي ليقع في تفسيرٍ مجازيٍّ آخر )). انتهى [ ابن تيمية حياته وعصره : 233]