وَحْدَةُ الوُجُوْدِ عِنْدَ سْبِيْنُوْزَا.

زينة أحمد محمد: مَاذَا تَقُولُونَ فِي نَظَرِيَّةِ وَحْدَةِ الوُجُودِ لِلْفَيْلَسُوْفِ سْبِيْنُوْزَا؟ تَحِيَّاتِي لَكُم.

: اللجنة العلمية

الأخُت زينة المُحْتَرَمة، السَّلَامُ عَلَيْكُمُ وَرَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ.

إنَّ نَظَرِيَّةَ وَحْدَةِ الوُجُودِ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ القَدِيْمَةِ فِي الفِكْرِ الإنْسَانِيِّ، وَقَدْ مَثَّلَتْ أَسَاسَاً فَلْسَفِيَّاً لِبَعْضِ الدِّيَانَاتِ الشَرْقِيَّةِ القَدِيْمَةِ الَّتِي تَمْتَدُّ إلى القَرْنِ الخَامِسِ قَبْلَ المِيْلَادِ، وَمَا زَالَتْ هَذِهِ الأَفْكَارُ حَاضِرَةً فِيْ الإرْثِ الثَقَافِيِّ لِلْدِّيَانَاتِ الهِنْدِيَّةِ. وَتَتَحَقَّقُ المَعْرِفَةُ ضِمْنَ هَذَا التَّصَوُّرِ الوَحْدَويِّ مِنْ خِلَالِ رِيَاضَاتٍ رُوحِيَّةٍ تَنْقُلُ الإنْسَانَ مِنْ قُيُودِ المَادَّةِ إلَى رِحَابِ المُطْلَقِ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الحَالَةُ (بِالنَّارْفَانَا) وَبِحَسَبِ الإصْطِلَاحِ الصُّوفِيِّ تُسَمَّى بِالْفَنَاءِ، وَمِنْ هُنَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَفْهَمَ الإرْتِبَاطَ بَيْنَ هَذِهِ النَّظَرِيَّةِ وَبَيْنَ التَّوَجُّهَاتِ الصُّوفِيَّةِ الَّتِي تَجْعَلُ حُصُولَ الْمَعْرِفَةِ عَنْ طَرِيْقِ الوُصُولِ إلَى الْمُطْلَقِ وَالفَنَاءِ فِيهِ. 

وَتُوجَدُ شُرُوْحَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ لِنَظَرِيَّةِ وَحْدَةِ الوُجُودِ وَقَدْ تَمَّ تَفْسِيْرُهَا ضِمْنَ سِيَاقَاتٍ فَلْسَفِيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ، إلَّا أَنَّهَا جَمِيْعَاً تَنُصُّ عَلَى رَفْضِ الثُّنَائِيَّةِ بَيْنَ الخَالِقِ وَالمَخْلُوْقِ أَيْ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ وُجُودٌ للهِ مُبَايِنٌ لِوُجُودِ المُمْكِنِ، وَإنَّمَا هُوَ وُجُودٌ وَاحِدٌ يَتَجَلَّى فِيْ الوَاجِبِ وَفِي المُمْكِنِ، وَيُعْتَبَرُ مُحْيُّ الدِّيْن بنُ عَرَبِيّ أَوَّلَ مَنْ نَظَّرَ لَهَا فِيْ الوَسَطِ الإسْلَامِيِّ، وَمِن ثُمَّ تَبَنّاهَا الكَثِيرُ مِن مُتَصَوِّفَةِ الإسْلَامِ الَّذِينَ عَبَّرُوا عَنْهَا فِي أَشْعَارِهِمْ وَفِي شَطَحَاتِهِمُ العِرْفَانِيَّةِ.

وَفِي مَا بَعْدُ عَمِلَ صَدْرُ الدِّيْنِ الشِيرَازِيُّ عَلَى تَأْسِيسِ العِرْفَانِ النَّظَرِيِّ الَّذِي يُقَدِّمُ مُكَاشَفَاتِ الصُّوفِيَّةِ فِي قَالَبٍ فَلْسَفِيٍّ إسْتِدْلَالِيٍّ، سَعْيَاً مِنْهُ لِإيْجَادِ أَرْضِيَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ العِرْفَانِ العَمَليِّ وَالْفَلْسَفَةِ النَّظَرِيَّةِ المُعْتَمِدَةِ عَلَى البُرْهَانِ العَقْلِيِّ، وَقَدْ أَسّسَ لِذَلِكَ مِنْ خِلَالِ التَّفْرِيْقِ بَيْنَ الوُجُوْدِ وَالمْاهِيَّةِ، وَمِنْ ثُمَّ جَعَلَ الوُجُودَ أصِيلاً وَالْمَاهِيّةَ أمْرَاً إعْتِبَارِيَّاً، وَبِذَلِكَ يُصْبِحُ الوُجُودُ حَقِيقَةً وَاحِدَةً مُمْتَدَّةً فِي هَيَاكِلِ المَاهِيَّاتِ، وَتُصْبِحُ الكَثْرَةُ المَنْظُورَةُ فِيْ المَوْجُوْدَاتِ كَثْرَةً غَيْرَ حَقِيْقِيَّةٍ لِكَوْنِهَا رَاجِعَةً لِلْمَاهِيَّةِ وَالَّتِي هِيَ أُمُورٌ عَدَمِيَّةٌ وَلَيْسَتْ حَقِيْقِيَّةً، وَعَلَيْهِ يَكُوْنُ الوُجُوْدُ وُاحِداً حَتَّىَ لَوْ كَانَ مُتَكَثِّرَاً لِلْنَّاظِرِ. فَهُوَ وَاحِدٌ فِي عَيْنِ كَوْنِهِ كَثِيْرٌ، وكَثِيْرٌ فِي عَيْنِ كَوْنِهِ وَاحِدٌ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ نَظَرِيَّةِ وَحْدَةِ الوُجُودِ فِي العِرْفَانِ الإسْلَامِيِّ وَبَيْنَ وَحْدَةِ الوُجُودِ عِنْدَ سْبِيْنُوْزَا، هُوَ أنَّ العُرَفَاءَ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ نَظَرِيَّةِ وَحْدَةِ الوُجُودِ وَفِي نَفْسِ الوَقْتِ يَخْشَوْنَ مِنَ الوُقُوعِ فِي التَّشْبِيْهِ بَيْنَ الخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، وَلِذَا جَاءَتْ عِبَارَاتُهُم أَكْثَرَ غُمُوضَاً حَتَّى لَا يَتِّمَّ إتِّهَامُهُمْ بِجَعْلِ اللهِ مُسَاوِياً لِخَلْقِهِ، أمَّا سْبِينُوزَا فَقَدْ كَانَ أكْثَرَ صَرَاحَةً عِنْدَمَا سَاوَى بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ الطَّبِيعَةِ وَلَمْ يَجْعَلِ اللهَ شَيئَاً آخَرَ خَارِجَاً عَنِ الطَّبِيْعَةِ، فَمَثَلاً صَدْرُ الدِّينِ الشِّيْرَازِيُ يَعْتَقِدُ بِأنَّ اللهَ بَسِيْطُ الوُجُودِ وَبِالتَّالِي هُوَ كُلُّ الأشْيَاءِ، وَفِي نَفْسِ الوَقْتِ لَيْسَ شَيْئَاً مِنْ هَذِهِ الأشْيَاءِ، وَذَلِكَ لأنَّ الوُجُودَ عِنْدَهُ مَقُولَةٌ مُشَكِّكَةٌ أَيْ أَنَّ الوُجُودَ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ بَيْنَ الوَاجِبِ وَالمُمْكِنِ وَالإخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا إخْتِلَافٌ فِي المَرَاتِبِ الوُجُودِيَّةِ، وَبِذَلِكَ يُصْبِحُ الأَصِيلُ هُوَ الوُجُودُ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ بَيْنَ الوَاجِبِ وَالمُمْكِنِ، وَعَلَيْهِ لَا يَكُونُ الخَلْقُ إلَّا طَوْرَاً مِنْ أَطْوَارِ الوَاجِبِ وَشَأنَاً مِنْ شُؤوُنِهِ، وَهَكَذَا حَاوَلَتِ النَّظَرِيَّةُ أَنْ تَنْفِيَ الكَثْرَةَ بِنَفْيِهَا ِللْمَاهِيَّاتِ كَمَا حَاوَلَتْ أَنْ تُنَزِّهَ اللهَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاحِدَاً مِنَ الأشْيَاءِ، أمَّا سْبِينُوزَا سَاوَى بَيْنَ الطَّبِيْعَةِ الطَّابِعَةِ الَّتِي هِيَ اللهُ فِي نَظَرِهِ، وَبَيْنَ الطَّبِيْعَةِ المُنْطَبِعَةِ الَّتِي هِيَ الأشْيَاءُ، وَاللهُ عِنْدَهُ مَوْجُودٌ بِوُجُودِ هَذِهِ القَوَانِيْنِ الأزَلِيَّةِ الحَاكِمَةِ لِلْطَّبِيْعَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الطَّبِيْعَةُ والْإِلَهُ شَيْئَاً وَاحِدَاً عَلَى مُسْتَوى المِصْدَاقِ، إلَّا أنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ عَلَى مُسْتَوَى المَفْهُومِ، فَالطَّبِيْعَةُ الطَّابِعَةُ تُمَثِّلُ النِّظَامَ الشَّامِلَ لِلْأَشْيَاءِ وَلَا يُمْكِنُ تَصَوُّرُهَا إلَّا مِنْ خِلَالِ ذَاتِهَا لِكَوْنِهَا هِيَ عِلَّةُ نَفْسِهَا، أمَّا الطَّبِيْعَةُ المَطْبُوعَةُ فَهِيَ الأشْيَاءُ المُتَحَقِقَةُ فِي العَالَمِ، وَالإخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا لَيْسَ إلَّا إخْتِلَافَاً مَفْهُومِيَّاً لِكَوْنِهِمَا مُتَّحِدَانِ فِي المِصْدَاقِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ وُجُودِ إِخْتِلَافٍ بَيْنَهُمَا فَالطَّبِيْعَةُ المَطْبُوعَةُ فِي حَالَةٍ مِنَ الصَّيْرُورَةِ والإكْتِمَالِ بَيْنَمَا الطَّبِيْعَةُ الطَّابِعَةُ هِيَ الكَمَالُ المُطْلَقُ، وَإِذَا جَازَ لَنَا أنْ نُصَوِّرَ العَلَاقَةَ بَيْنَهُمَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَقُولَ أنَّ الإلَهَ فِي نَظَرِ سْبِينُوزَا كَالرُّوحِ السَّارِيَةِ فِي المَادَّةِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْإِلَهِ الَّذِي نَادَتْ بِهِ الأدْيَانُ لِكَوْنِهِ إِلَهاً غَيٍرَ مُفَارِقٍ لِلْمَادَّةِ.

 وَبَعِيْدَاً عَنِ المُنَاقَشَةِ التَّفْصِيْلِيَّةِ لِهَذِهِ النَّظَرِيَّةِ يُمْكِنُنَا أَنْ نَقُوْلَ: إنَّ المُسَلَّمَةَ الَّتِي يَنْطَلِقُ مِنْهَا الإِسْلَامُ هِيَ أنَّ اللهَ مُبَايِنٌ لِخَلْقِهِ لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ وَلَا يَشْتَرِكُ مَعَهُ مَخْلُوقٌ فِي صِفَةٍ مِنْ الصِّفَاتِ، وَعَلَيْهِ فنَظَرِيَّةُ وَحْدَةِ الوُجُودِ كَانَتْ مَحَلَ تَوَقُفِ الفُقَهَاءِ وَالعُلَمَاءِ وَلَمْ يَقُلْ بِهَا فِي الوَسَطِ الإسْلَامِيِّ إلَّا مَنْ كَانَ لَهُ تَوَجُهٌ فَلْسَفِيٌ أَوْ عِرْفَانِيٌ. 

 وَدُمْتُمْ سَاْلِمِيْنَ.